لماذا تجعل حياتك أكثر صعوبة وانشغالاً؟

في صباح بارد من أيام شهر يناير (كانون الثاني) داخل محطة مترو أنفاق في واشنطن (Washington DC) أخرج شاب كمانه من علبته ورفعه إلى كتفه، كان يرتدي ملابس عادية؛ مجرد بنطال جينز وقميص، وعلى الرغم من ملامح وجهه الجميلة إلَّا أنَّه في هذا الصباح بالذات كان مغطى بقبعة بيسبول داكنة وشعر بني أشعث، وبعد تعديل الأوتار لبضع دقائق لضبط آلته الموسيقية مدَّ يده إلى جيبه وسحب بعض الأوراق النقدية التي ألقى بها في علبة الكمان أمامه على أمل أن يقوم عدد قليل من المارة بإعطائه المال.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن الكاتب "مارك كرنوف" (Marc Chernoff)، ويُحدِّثنا فيه عن سبب انشغالك غير المبرر.

كان صباحاً مزدحماً للغاية في محطة مترو الأنفاق عندما بدأ الشاب بالعزف، كان الآلاف من الناس مسرعين إلى العمل أو المدرسة أو إلى أيِّ مكان يتجهون إليه، وكانت القطارات تأتي وتذهب، ومع ذلك على الرَّغم من الضجيج والازدحام ملأ الصوت المذهل لكمان هذا الشاب محطة مترو الأنفاق وكان من المستحيل تجاهله.

على مدار 43 دقيقة سار أكثر من 1000 شخص عبر أبواب مدخل مترو الأنفاق حيث كان عازف الكمان الأمريكي جوشوا بيل (Joshua Bell) يعزف، ولو كان أيُّ فنان آخر في الشارع يعزف فلا غرابة أنَّه جذب انتباه عدد قليل من الناس؛ لكنَّ جوشوا بيل لم يكن مجرد فنان يعزف في الشارع؛ كان أشهر عازف كمان في العالم، وكان يعزف واحدة من أصعب الأعمال الفنية الكلاسيكية على الإطلاق، كانت تلك التحفة الفنية تُعزف على آلة كمان بقيمة 3،000،000 دولار، تصدر واحدة من أكثر الأصوات نقاوة وبلاغة في العالم، ومع ذلك لم يلحظ أحد تقريباً، لماذا؟ لأنَّه لم يكن يشبه أيَّ شخص مميز، ولأنَّ مشاغل الجميع كانت أكبر من أن يتوقفوا ويستمعوا إلى الموسيقى.

الانشغال أشبه بمرض:

فكر في الأمر: "أنا مشغول"، كم مرة كان هذا عذرك؟ اعتدت أن يكون هذا عذري كل يوم مثل هؤلاء الأشخاص الذين لم يكن لديهم الوقت للاستماع إلى موسيقى العازف جوشوا بيل، فقد كان جدول أعمالي لا يترك لي أي وقت إضافي للأشياء غير المخطط لها، وكنت فخوراً بانشغالي، أردت أن يعرف الجميع كيف أنَّ القيادة من مكان إلى آخر في سيارتي المريحة كانت بمنزلة معاناة كبيرة ناهيك عن كيفية التوفيق بين العمل والعائلة، ومساعدة المتدربين والقراء في الدورة التدريبية التي أقدمها لهم، ومن ثمَّ الإسراع على الفور للتسوق، والتحضير للمناسبات، وبعد ذلك يكون لدينا ساعة فقط لإطعام ابننا والاعتناء به قبل النوم كل ليلة.

هذا بالضبط ما كنت أعلن عنه؛ مدى انشغالي الشديد، لكن ليس بعد الآن؛ فالآن أنا في الواقع أتوقف لسماع الموسيقى وأنا فخور بذلك، فالانشغال ليس وسام شرف، لا يوجد شرف على الإطلاق في الانشغال اللامتناهي؛ فالانشغال هو مجرد مرض يجعل كل شيء أصعب ممَّا يجب أن يكون.

شاهد بالفيديو: 5 نصائح للعناية بالنفس حينما تكون دائم الانشغال

الانشغال لمجرد الانشغال:

إذا لم نكن تحت خط الفقر إنَّ انشغالنا يكون من صنع أيدينا بنسبة 98% من الوقت؛ الاستثناء هو 2% من الوقت سببه مفاجآت الحياة، ولقد تمكنت أخيراً من معرفة سبب انشغالي بعد دراسة طويلة اكتشفت من خلالها أنَّه كان دائماً تحت سيطرتي، في الواقع في معظم الأوقات كان الاستعجال والقلق من صنعي، في حين لم يكن لدي أيُّ عمل حقاً، في أيِّ يوم عادي من أيام الأسبوع كنت أحث أفراد العائلة، وزملاء العمل، وكل شخص قريب منِّي للتحرك أسرع.

  • "إذا لم تنتهِ من تناول الطعام سوف نتأخر".
  • "إذا لم ننجز هذه المهمة في الساعة القادمة فلن نحقق هدفنا أبداً".

الغريب في الأمر هو أنَّني سواء استعجلت الآخرين أم لا في النهاية يكون الجميع جاهزاً في الوقت نفسه؛ لكنَّ الفرق الوحيد هو أنَّني عندما أستعجلهم يشعر الجميع بالتعاسة بمن فيهم أنا.

أصبح من الواضح بالنسبة إلي أنَّ كل انشغالي تقريباً كان رد فعل مبالغاً فيه في رأسي، فقد كنت أقوم بخلقه على أمل أن يتسبب ذلك في اختصار الوقت ويجعل حياتي بطريقة ما أسهل، بدلاً من ذلك فعل العكس تماماً؛ انشغالي لم يؤدي سوى إلى القلق والمرارة والتعقيد، وحتى في الأيام التي كان الانشغال فيها حقيقياً كان ذلك عادةً بسبب اكتظاظ جدولي الزمني بمهام وضعتها بنفسي، هذا كله جعلني أفكر: "لماذا أجعل حياتي أكثر صعوبة وانشغالاً وتعاسة بملء إرادتي؟".

إقرأ أيضاً: 5 طرق لإعادة السكينة إلى العقل والحفاظ على الحضور الذهني

سبب ومبرر الانشغال غير الضروري:

للأسف جزء كبير من سبب ملء حياتنا بمشاغل لا داعي لها يتعلق باستخدامنا المتواصل للأجهزة الرقمية، واتصالنا الدائم بالإنترنت، وتعقُّب الأخبار، ومقارنة أنفسنا بالآخرين، فنحن نُعرف أنفسنا بناءً على مكانتنا، ومقتنياتنا مقارنةً بالآخرين، إذا لم يكن لدينا مهنة أو منزل أو سيارة أفضل فإنَّنا نشعر بالدونية، والطريقة الوحيدة التي يمكننا بها القيام بعمل أفضل هي أن نكون أكثر انشغالاً في العمل أياً كان، بعد كل شيء المسمى الوظيفي والأشياء التي نقوم بها هي التي تحدد قيمتنا، أليست هذه عادةً الأشياء الأولى التي نشاركها مع الغرباء الذين نلتقي بهم في الحفلات؟

نحن ننشر على مواقع التواصل الاجتماعي مدى انشغالنا ونملأ التقويمات الخاصة بنا بانشغال مصطنع لكي نتجنب واقعنا الذي نظن أنَّه لا يلائمنا، وفي هذه العملية لا نفوِّت فقط الهدوء والجمال الموجودين داخل أنفسنا؛ لكنَّنا نفوِّت أيضاً الصفاء والجمال في العالم من حولنا؛ بسبب التسرع والقلق والحاجة اللامتناهية إلى الوجود في مكان آخر والقيام بشيء آخر بأسرع ما يمكن.

إقرأ أيضاً: أيهما أهم الانشغال أم الحضور الذهني؟

في الختام:

هل أنت مستعد لتغيير إيجابي في حياتك؟ دعونا نستيقظ كل صباح من هنا فصاعداً ونتخلص من انشغالنا الذي لا داعي له، لنبدأ في جعل كل لحظة أقل انشغالاً وأكثر فائدة، دعونا نبدأ في الحفاظ على حياتنا منظمة وجداولنا غير مكتظة، ولنبدأ في إفساح المجال للتفكير والاستمتاع بالهدوء من حولنا، وبذلك يمكننا أن نتوقف قليلاً لسماع الموسيقى للحظة والابتسام عندما تسمح الفرصة.




مقالات مرتبطة