لا تسمح لماضيك أن يستولي على حاضرك

يقولون إنَّ اللحظة الحالية هي كل ما لدينا، وبينما يُعَدُّ ماضينا ومستقبلنا مفاهيم حقيقية للغاية، غير أنَّهما مجرد جوانب أخرى من هذه اللحظة، ثم يأتي الشعور بالخوف والقلق تجاه مستقبلنا جرَّاء إهمال حاضرنا والتمسك بماضينا؛ لذلك من أجل الاستمتاع بمستقبلنا، يجب علينا أولاً أن نتعلم الاستمتاع بحاضرنا.



فقد يبدو الوجود في اللحظة الحالية بسيطاً أليس كذلك؟ لكن في كثير من الأحيان يتم إخراجنا من اللحظة الحالية، وتمتلئ رؤوسنا بالثرثرة التي حدثت بالأمس والذكريات المحطمة والقلق والمخاوف مما سيأتي، ونحن ننظر طوال الوقت إلى ما وراء جمال وبساطة الحاضر.

سنروي لك في هذا المقال قصة صديقتنا "جوانا" ومعاناتها مع وفاة والدتها، بالإضافة إلى بعض النصائح التي جمعتها صديقتنا على طول طريقها من أجل مساعدتك وإلهامك للعيش بشكل أكثر حضوراً.

"جوانا" وتفاصيل الفاجعة التي تُكبِّلنا بأغلال الماضي:

تروي لنا "جوانا" معاناتها مع حادثة فَقدِ والدتها: لقد استغرق الأمر مني سنوات لأتعلم كيف أعيش في الوقت الحاضر، فكانت طفولتي مؤلمة؛ إذ توفيت والدتي عندما كنت في العاشرة من عمري، وأتذكر الأيام التي كنت أزورها في المستشفى معتقدةً ببساطتها أنَّ كل شيء سيكون على ما يرام، وعندما توفيت انهار عالمي كله لسنوات عديدة، وفقدتُ نفسي في حزن لمحاولة فهم ما كنت أشعر به، فشعرت ألا أحد يفهمني وخشيت أن يأكلني الفراغ الذي شعرت به حتى أصبح شعوراً عادياً كل يوم.

لقد نشأتُ مع والدي وستة من إخوتي، وكان ذلك نعمة ونقمة على الرغم من أنَّنا عائلة متماسكة، إلا أنَّ كوني الفتاة الوحيدة التي ليس لها سندٌ أمومي جعل من الصعب عليَّ أن أعتنق أنوثتي وأشعر بالقوة وأبني الثقة وأحب نفسي تماماً.

فكان عليَّ أن أقوم بالكثير من البحث عن الذات والتعلم من خلال أشخاص وخبرات أخرى من أجل فهم من أنا وأين أذهب، وبسبب التجارب والعواطف الشديدة في الماضي، كان من السهل عليَّ العودة إلى ذكريات الماضي الأليم وتكرار تجارب مماثلة في حياتي والالتفاف في دوائر، وهذا يجعلني أفتقد الحاضر بشكل أساسي، ولقد كان تعلُّم قبول الذات واحتضان الماضي وعيش الحاضر والانفتاح على ما سيأتي بدلاً من الخوف منه رحلةً مستمرة ولكنَّها مثمرة بالنسبة إليَّ حتى الآن.

انظر إلى ماضيك كما كان وليس كما تريد:

يُعَدُّ تعلم تقبل الماضي عملية صعبة نوعاً ما، لا سيما إذا كان هذا الماضي مؤلماً أو مفجعاً، فأولاً يجب عليك أن تسمح لنفسك برؤية ماضيك كما كان لا كما تريد أنت أن تراه، ثم اعترف بأفكارك ومشاعرك دون إطلاق أي حكم، فلا توجد طريقة خاطئة أو صحيحة دائماً.

قد ترغب في الالتفاف على ماضيك وتخزينه بعيداً مرة أخرى، وهذا أمر طبيعي جداً، لكن تذكر أنَّ قبول ماضيك لا يعني الرغبة في تغييره أو نسيانه؛ بل هو مرهون بتغيير نظرتك إليه بحيث يمكنك العيش بحرية أكبر دون أن يكون عائقاً في طريق تطورك.

ما هي فوائد تقبل الماضي؟

تقول صديقتنا "جوانا": كان عليَّ تقبل حقيقة أنَّ والدتي لن تعود، وعلى الرغم من صعوبة الأمر غير أنَّ هذه الخطوة الأولية ساعدتني على تحرير نفسي من أغلال الحزن واليأس، ومنذ ذلك الحين أدركت أنَّني ما زلت أشعر بوجودها بطريقةٍ ما، وعلى الرغم من أنَّني لا أستطيع رؤيتها أمام عينيَّ، لم أستطع الوصول إلى هذه المرحلة إلا بعد أن قبلتُ وفاتها، وقد استغرق ذلك بضع سنوات.

فاللحظة التي تبدأ فيها بقبول الماضي هي اللحظة التي تبدأ فيها رحلة الشفاء، وهذه هي بداية التخلي عن تلك الأغلال القديمة والمضي قدماً في الحياة والعيش أكثر في اللحظة الراهنة؛ لذا امنح نفسك بعض الوقت، وتذكر أنَّها عملية طويلة الأمد وليست سباقاً أو منافسة.

افتح الباب لأوجاعك ودعها تطير مهما كان مؤلماً:

لا يمكنك تخيل مدى أهمية السماح لنفسك بالشعور بالانفتاح والحرية واحتضان مشاعرك، وخاصةً السلبية منها، وإنَّ امتناعك لا يؤدي إلا إلى المزيد من الاضطراب العاطفي ويبقيك عالقاً في الماضي.

تقول صديقتنا "جوانا": عندما توفيت والدتي شعرت بالوحدة وشعرتُ بأنَّني أتمسك بهذه الوحدة بوصفها طريقة للشعور بالقرب منها، ولكنَّني رأيت بعد مرور الزمن أنَّ هذا السلوك أبعدني عن الآخرين وأبقاني عالقةً في دائرةٍ من الحزن والتوقعات غير الواقعية.

أخرِج ما بداخلك اجتماعياً وإبداعياً:

شارك ما تشعر به مع شخصٍ قريبٍ منك، سواء كان صديقاً أم فرداً من العائلة أم شريكاً في العمل، وإذا لم يكن لديك شخصٌ مقرب، فدع مشاعرك تخرج من خلال وسائل غير لفظية، على سبيل المثال، يمكنك العزف على آلتك الموسيقية المفضلة وتشغيل بعض الأغاني المفضلة لديك أو رسم صورة أو كتابة قصيدة، فأن تكون مبدعاً في مجالٍ ما يُعَدُّ طريقة استثنائية شافية لإخراج أيَّة مشاعر سلبية عالقة بالداخل.

تضيف "جوانا": لقد قمتُ بمزيج من هذه الأشياء طوال فترة طفولتي، وساعدني كل نشاطٍ قمتُ به على إدراك مشاعري وفهمها والسماح لها بالرحيل.

ما هو دور تمرينات اليقظة في إعادتك إلى الواقع؟

تعني اليقظة أن تكون مدركاً لما يحصل في عالمك الداخلي (أفكارك وعواطفك وأحاسيسك الجسدية وتنفسك)، وعالمك الخارجي (محيطك وبيئتك وأفعالك تجاه الآخرين) حتى تتمكن من العيش بشكل أكثر حضوراً وواقعيةً، فيمكنك أن تبدأ تمريناً بسيطاً لليقظة من خلال التركيز على تنفسك فقط.

على سبيل المثال، تنفَّس لمدة أربع ثوانٍ للداخل وأربع ثوانٍ للخارج، وقم بذلك لمدة خمس دقائق تقريباً (يمكنك القيام بهذا التمرين لفترةٍ أطول إذا كان لديك المزيد من الوقت)، فهذه طريقة سريعة ورائعة لتهدئة أو إيقاف فرط التفكير المشتعل في ذهنك، كما تساهم في إرخاء جسدك المتشنج، والأهم من كل ذلك أنَّها تعيد ذهنك إلى اللحظة الراهنة.

راقب أفكارك ومشاعرك:

تُعَدُّ ملاحظة أفكارك (وكيف تجعلك تشعر) تمريناً رائعاً آخر للتدريب على اليقظة الذهنية؛ إذ يمكن لدماغنا استحضار العديد من الأفكار المختلفة في غضون ثوانٍ، وقد تكون بعض هذه الأفكار إيجابية وبعضها الآخر سلبياً، لكن في معظم الحالات تكون أفكارنا من الماضي أو المستقبل سلبيةً.

كما تعيد أفكارنا تشكيل واقعنا؛ أي إنَّك كلما فكرت في فكرة معينة، أصبحت اعتقاداً راسخاً في داخلك؛ لذا من الهام أن تكون على دراية بأفكارك لتضفي عليها الإيجابية الواقعية، وتحرص على ألا تكون مليئةً بالصراعات.

إقرأ أيضاً: كيف تتحكم بأفكارك وتصبح سيد عقلك؟

مثال يوضح أهمية مراقبة الأفكار للعيش في اللحظة الحالية:

تقول "جوانا" في هذا الصدد: في تجربتي تظاهرَ الألم العاطفي لدي على هيئة مشكلات صحية وجسدية، ولكنَّني عززتُ كفاحي بإخبار نفسي أنَّني لا أستطيع التحسن الآن، ولكنَّني بكل تأكيد سوف أتحسن مع الوقت، ومن خلال اليقظة تعلمت تهدئة الأفكار السلبية وتحويل ما أراه مستحيلاً إلى أمرٍ قد يحدث في المستقبل، وصحيح أنَّ العلاج الطبي ساعدني على تحسين صحتي، ولكنَّني أعلم تماماً أنَّ حالتي العقلية أدت دوراً محورياً في مرضي وشفائي.

ما هو دور الطبيعة في إعادتك إلى اللحظة الراهنة؟

قد يعيدك الوجود في الطبيعة إلى اللحظة الراهنة؛ لذا خصص نصف ساعة من يومك للذهاب في نزهة سيراً على الأقدام أو الجلوس في الخارج لتكون بين الأشجار أو تتأمل عناصر الطبيعة الموجودة في حديقتك، وتمعن في الأصوات التي تسمعها مثل حفيف الأشجار وصوت طقطقة فضلات الأوراق وتغريدات الطيور وطنين الحشرات؛ إذ تساعدك ملاحظة هذه الأمور من خلال المشاعر والأفكار التي تأتي معها على الإحساس بجمال وبساطة الحاضر.

إقرأ أيضاً: الطبيعة وأهميتها في حياة الإنسان

تدريب عملي يوضح طريقة الاستفادة من الطبيعة في عيش اللحظة الراهنة:

عندما أخرج للتنزه أذكِّر نفسي بهذه العبارات الجميلة:.

  • الأشجار هي جمالي الطبيعي.
  • الشمس هي إشراق ذاتي.
  • يمكن أن يكون الانغماس في الطبيعة بمنزلة علاجٍ نفسيٍ حقيقي.
  • تُعَدُّ الطبيعة تذكيراً جميلاً بمدى روعتك.

في الختام:

الآن بعد أن أصبحت لديك فكرة عن كيف يمكنك العيش في الوقت الحاضر، لم يبقَ عليك سوى ممارسة هذه التدريبات بانتظام حتى تضمن مستقبلاً مليئاً بالضوء والفرح بدلاً من الخوف والذكريات القديمة.

فأنت بالضبط ما تحتاجه، ومحاولتك أن تكون شخصاً آخر أو في مكانٍ آخر لا تؤدي إلا إلى مقاومة الحاضر؛ لذا امنح نفسك الوقت لتقبل ماضيك والشعور بالانفتاح والحرية وممارسة اليقظة الذهنية، واعلم أنَّه من خلال القيام بذلك، فأنت لا تعيش في الوقت الحاضر فحسب؛ بل تصنع أيضاً أفضل مستقبلٍ ممكنٍ لنفسك.

المصادر: 1 ، 2




مقالات مرتبطة