كيف يمكن لقيود الحياة أن تحررك؟

اعتَقَل النازيون الطبيب النفسي النمساوي "فيكتور فرانكل" (Viktor Frankl) وزوجته في عام 1944، وأمضى قرابة 18 شهراً في معسكرات الاعتقال قبل أن يُخلَّى سبيله. نجا "فرانكل" من الحرب، إلا أنَّ أمه وشقيقه وزوجته ماتوا. ورغم معاناته بسبب هذه الصدمة، إلا أنَّه أصبح أحد أهم الأطباء العصبيين والنفسيين وأكثرهم تأثيراً في القرن العشرين.



في الواقع، إنَّ تجربته في المعتقل مع كل ما عاناه من حرمان ومشاهدته بعض السجناء يتجاوزون الظروف القاسية بينما يستسلم بعضهم الآخر؛ هي التي وضعته على طريق استكشاف معنى الحياة وتطوير تقنية مشهورة في العلاج النفسي تُسمى العلاج بالمعنى، والتي تُطبق لمساعدة المرضى على الشفاء.

توصَّل "فرانكل" لهذه الرؤية عندما كان في لحظات صعبة من حياته؛ إذ لاحظ المرونة التي يتمتع بها الجنس البشري، وبدأ بعدها يعلِّم الآخرين كيف يجدون المعنى من الحياة.

كتب "فرانكل" ذات مرة ما يأتي: "يمكن أن يُسلَبَ من الإنسان أي شيء إلا شيء واحد؛ حريته في اختيار موقفه من الحياة بصرف النظر عن الظروف، يستطيع الإنسان اختيار طريقه الخاص". وكان "فرانكل" يظن أنَّ البحث عن المعنى هو العامل الأساسي الذي يمنح الحافز للجنس البشري.

إقرأ أيضاً: البحث عن المعنى في الحياة

بالطبع لم يكن "فرانكل" أول مَن اكتشف السؤال الهام عن معنى وجودنا في الحياة، فقد حاول علماء الدين والعلمانيون منذ آلاف السنين الإجابة عن هذا السؤال. لقد كتب "فرانكل" أنَّ الدين هو البحث الأهم عن المعنى في الحياة. ولطالما كان البحث عن معنى الحياة هو القاسم المشترك بين الفلسفة والدين لآلاف السنين.

إنَّ البحث عن إجابات للأسئلة الوجودية هو الذي يقودنا إلى مواصلة البحث والقراءة والكتابة والتفكير في السؤال الأقدم على الإطلاق، الذي ما يزال مطروحاً حتى الآن: "ما هو الهدف من الحياة؟".

توجد إجابات عدة، فبعضهم يقول إنَّ الهدف هو اكتساب المعارف، ويجد بعضهم أنَّ الهدف من الحياة هو تحقيق الذات، بينما يرى آخرون أنَّ الهدف هو مساعدة الآخرين، وغيرهم يشكِّك أصلاً بوجود مغزى، ويقول إنَّنا عابرون في هذه الحياة دون هدف.

وقد لاحظ "فرانكل" أنَّ إيجاد المعنى النهائي للحياة يتجاوز بالضرورة قدرات البشر الفكرية كونها قدرات محدودة؛ لكنَّه في الوقت ذاته لاحظ أنَّ العمل المستمر لمحاولة فهم كل شيء هو الذي يمنح الحياة معناها.

كان طبيب الأعصاب النمساوي "سيغموند فرويد" (Sigmund Freud) يظن أنَّ الدافع وراء السلوك البشري هو اللذة، لكن اختلف "فرانكل" وآخرون معه، وظنوا أنَّ الهدف من الحياة لا يأتي من المتع التي توفرها الحياة؛ بل من القيود التي تفرضها.

إقرأ أيضاً: كـن ذا حــدود .. ولا تكـن بـلا قـيود!

من جهة، قد تبدو هذه نظرة سوداوية للحياة، فالقيود تؤدي إلى نوع من الألم والمعاناة اللذين وصفهما "بوذا" (Buddha) على أنَّهما أكثر ظروف الحياة ديمومة. فالبشر يعانون في صحتهم وعلاقاتهم واحتياجاتهم الأساسية بسبب القيود التي تفرضها عليهم الحياة.

ومن جهة أخرى، تجعل القيود من أهدافنا أمراً يستحق الكفاح من أجل تحقيقها، فنحن نجد المعنى من خلال كفاحنا، وليس بالاستغناء عن الكفاح. وفي هذا السياق قال الفيلسوف الألماني "فريدريك نيتشه" (Friedrich Nietzsche): "الحياة تعني المعاناة، وكي تتمكن من الاستمرار فيها يجب أن تجد بعض المعنى في هذه المعاناة".

كلما زادت الظروف قساوة، شعرنا بالأمل في الجانب الآخر من الحياة؛ ولذلك فقد كان قدرنا أن نكافح لأنَّ هذا ما يقودنا إلى التعلُّم والتطور. إنَّ معرفتنا بأنَّ هناك قيوداً تحيط بنا هو ما يدفعنا إلى مساعدة الآخرين، ونظراً لأنَّنا نناضل فإنَّنا نُقِّدر ما يفعله الآخرون أيضاً. نحن نتعلَّم أن نعلِّم الآخرين ونتعاطف مع الأشخاص عندما يواجهون صعوبات.

عندما تكون ظروفنا أفضل من الآخرين أو كنا محظوظين بحيث نستطيع التغلب عليها، فإنَّ واجبنا الإنساني يدعونا لمساعدة الآخرين. عندما نحدد قيمتنا من خلال ما نملكه، بدلاً من تحديدها اعتماداً على حقيقتنا وسلوكنا، فإنَّنا نصبح مقيدين أكثر، ولا نتمكن من توظيف هذه القيود في مصلحة حريتنا.

لذلك نصحنا الفيلسوف الرواقي "أبكتيتوس" (Epictetus) بأن نجعل سعادتنا تعتمد على أقل قدر ممكن من العوامل الخارجية، وأن نتأمل في الصعوبات التي مررنا بها، ونحاول استلهام النتائج الإيجابية منها.

ويقول "أبكتيتوس": "كل صعوبة في الحياة تقدِّم لنا فرصة للتعمق بذواتنا واستنهاض قدراتنا الداخلية، ومن ثَمَّ فإنَّ التجارب التي نواجهها هي المفتاح لتعرُّف نقاط قوتنا".

شاهد بالفيديو: 7 طرق لتبنّي التفكير الإيجابي كمنهج حياة

كانت فترة الأشهر التسعة الماضية فترة نضال حثيث بالنسبة إلى الكثيرين، وما زال هناك الكثير لنكافح من أجله، لكن إذا كان هناك جانب إيجابي، فهو أنَّنا سنمتلك قوةً كبرى، وتصوراً واضحاً عن الجانب الهام في الحياة، إضافةً إلى علاقات جيدة مع الأشخاص الذين نهتم بشأنهم، وقدرة كبيرة للتغلب على الشدائد، وتعاطفاً مع الآخرين وتقديراً للوقت الذي نمتلكه في هذه الحياة.

بهذا المعنى تصبح القيود الموجودة في الحياة هي السبب الأساسي الذي يدفعنا للتطور، وتحسين أدائنا وأوضاعنا الراهنة. عندما ننظر إلى قيود الحياة على أنَّها فرصة نتمكَّن من خلالها من تطوير أنفسنا، فإنَّنا سنبدأ بفهم كيف يمكنها أن تحررنا.

المصدر: 1




مقالات مرتبطة