كيف يساعدك التقبُّل على التخلص من العواطف المؤلمة؟

يدعونا دعاء السكينة الذي نقول فيه: "يا رب امنحني السكينة لأتقبَّل الأشياء التي لا أستطيع تغييرها، والشجاعة لتغيير الأشياء التي أستطيع تغييرها" إلى التأمُّل في حقيقة هامَّة، وهي وجود أشياء في الحياة لا يمكننا التحكُّم بها، وغالباً ما تكون حوادث مؤلمة خارجة عن إرادتك ولا يمكنك فعل شيء حيالها.



في هذه الحالات أفضل ما يمكن للمرء فعله هو قبول ما حدث، والقبول أو التقبُّل هو من المفاهيم الأساسية لعدة طقوس الروحية، وتعتمد عليه معظم ممارسات التأمُّل، وهو يعني تقبُّل ما حدث في الماضي وما يحدث في الوقت الحاضر دون إطلاق حكم على هذه التجارب أو السماح لها بتغييرنا.

فقد يخطئ بعض الناس في فهم معنى القبول، ويخلطون بينه وبين الاستسلام، فيصبح مفهوم القبول لديهم مرادفاً للاستسلام أمام الألم والعجز والفشل، فهذا هو الشكل الأكثر سلبية للقبول، وليس هذا ما نتحدَّث عنه.

نحن نطرح مفهوماً إيجابياً للتسليم، بمعنى التوقف عن مواجهة ما يحدث من أجل الاستجابة للموقف بطريقة أفضل، وهذا ما سنوضِّحه لاحقاً في هذا المقال، وكيف أنَّ التسليم يُعَدُّ أحد أفضل أشكال التعامل مع الموقف، وهو ما سيساعدك على:

  1. التخلِّي عن المشاعر السلبية.
  2. التعامل بهدوء مع المواقف الصعبة والمفاجئة.
  3. علاج المشكلات النفسية.

ماذا يترتب على رفض القبول؟

يرتبط أحد الأسباب الرئيسة للمعاناة النفسية بمحاولة إنكار العواطف، وعادةً ما يحصل ذلك بسبب عدم تقبُّل المشاعر السلبية التي نعيشها، وذلك وَفقاً للدراسات الحديثة التي أجراها الباحثان "ديفيد بارلو" (David Parlo)، و"ستيفن هايز" (Steven Hayes).

فهذا الرفض للعواطف مع أنَّه قد يؤدي إلى تحسُّن مؤقت، فإنَّه يؤدي على الأمد الطويل إلى تفاقم المشكلات؛ إذ يرتبط ميلنا الطبيعي إلى تجاهل المشاعر والأفكار المزعجة بعدة مشكلات.

إضافةً إلى ذلك، يؤدي تجاهل العواطف التي تشعر بها إلى الحدِّ من إمكاناتك لعيش حياة جيدة، على سبيل المثال، إذا كنت خجولاً ولم تتَّخذ موقفاً من خجلك فستبدأ بتجنُّب المناسبات الاجتماعية، وهذا سيقلِّل من جودة حياتك، فتجاهل ما نشعر به هو شيءٌ سلبيٌّ جداً لما ينطوي عليه من إنكار للحقائق، فالواقع لن يتغيَّر لمجرد أنَّك تُنكره، بل على النقيض من ذلك تماماً قد يسبِّب موقفك هذا في التجاهل مشكلات كبيرة على الأمد الطويل.

لعبة فخ الإصبع:

تتكوَّن هذه اللعبة الصينية من أنبوب من القشِّ المتشابك، وتبدأ اللعبة بإدخال إصبع السبابة من كلتا اليدين في طرفي الأنبوب، وعندما يحاول اللاعب إخراج إصبعه يضيق الأنبوب وتنحصر الأصابع بداخله.

من البديهي أن تفكِّر بسحب إصبعيك بوصفه حلَّاً طبيعياً وواضحاً، إلا أنَّه لا يُجدي نفعاً، فكلما حاولت سحب إصبعيك من الأنبوب علقت أكثر.

الحكمة من اللعبة أن نفهم أنَّ الحلول البديهية لأي مشكلة غالباً ما تكون خاطئة، بل تؤدي إلى تفاقمها، والحل لإخراج إصبعيك من الأنبوب هو دفعهما إلى الداخل وليس السحب إلى الخارج، فهذا الحل غير بديهي لكنَّه الحل الناجع.

فقد يبدو أنَّ إنكار العواطف السلبية أو تجاهلها هو أفضل الطرائق وأكثرها منطقية للتخلُّص من هذه الأفكار والعواطف، ومع ذلك لا بدَّ أنَّك اختبرت المشاعر والأفكار السلبية وحاولت التخلُّص منها من خلال تجاهلها، وتبيَّن لك أنَّ ما تفعله لا يُجدي نفعاً.

شاهد بالفيديو: كيف تضع حداً للأفكار السلبية؟

الفوائد التي تحصل عليها من تعلُّم القبول:

يُعَدُّ تقبُّل العواطف بدلاً من مقاومتها أو رفضها هو المفتاح لتقليل الاستياء الناجم عن التجارب السلبية؛ وذلك لأنَّ التقبُّل مناقض للرفض تماماً، فعندما تتعلَّم تقبُّل جميع ما تمرُّ به من تجارب، ومن ذلك المؤلمة منها، فإنَّك تحرِّر نفسك من المعاناة.

قد يصعب تصديق أنَّ تقبُّلَ التجارب المؤلمة يقلِّل من حدَّة المشاعر السلبية، وربما السبب يشرحه عالم النفس "كارل يونغ" (Carl Jung) عندما يقول: "الناس يفعلون أي شيء مهما كان سخيفاً ليتجنَّبوا رؤية أنفسهم على حقيقتها".

التقبُّل اليقظ:

تقبُّل اليقظة، هو أن تحافظ من خلال ممارسته على موقف واعٍ وفعَّال ومرن في نفس الوقت تجاه عقلك وجسدك وخبراتك، ويتطلَّب منك أن تلاحظ ما تفكِّر وتشعر به وتتصالح معه دون رفض، بصرف النظر إذا ما كنت ترغب فيه أم لا.

فالتقبُّل اليقظ هو التطبيق الفعلي للتعاطف مع الذات الذي تتعامل من خلاله مع العواطف المؤلمة برفق ومرونة بدلاً من إطلاق الأحكام، وعندما تمارس التقبُّل اليقظ فإنَّك تتوقف عن العمل بناءً على عقلية إطلاق الأحكام، ومن ثمَّ تتجنَّب الوقوع ضحية مخاوفك أو مشاعر الذنب أو الغضب.

تُمارس هذه الطريقة بوصفها إحدى تطبيقات التأمُّل الذي يهدف إلى تركيز الانتباه حتى أكثر من ممارسة تأمُّل اليقظة الذهنية، وفي هذه الممارسة يُوجَّه الانتباه بطريقة محدَّدة بحيث تُحتوى جميع التجارب احتواءً لا يترك مجالاً لرفضها، ومن ثمَّ تزول المشاعر السلبية بفعل التقبُّل المرن والواعي.

تقنيتان تساعدانك على تقبُّل العواطف:

1. التعامل مع العواطف السلبية على أنَّها صديق:

عندما تجد أنَّك تواجه عواطف سلبية، جرِّب الخطوات الآتية، وتخيَّل أنَّ هذه المشاعر هي صديقك العزيز، وقد دعوته لتناول العشاء معك في المنزل، وعلى طاولة العشاء يوجد مكان لكلِّ واحد من هذه المشاعر التي يجب أن تستقبلها بحفاوة وإلا ستعود وتطرق الباب عليك مجدداً.

2. التركيز على الأحاسيس المترافقة مع هذه العواطف:

بعد أن أفسحت المجال لكلِّ واحدة من هذه العواطف، يجب أن تركِّز على المشاعر المرتبطة بها، فالغضب والخوف وغيرها ما هي إلا تسميات نستخدمها لوصف مجموعة من الأحاسيس التي تنتابنا.

لذلك، فإنَّ الخطوة الهامَّة في التعامل مع مشاعرك في أوضح أشكالها هي الأحاسيس الجسدية، فابدأ باستكشاف هذه الأحاسيس بعقلية منفتحة وفضولية.

فاكتشف أين تترك أثرها في جسدك، وما هي الخصائص التي تمتلكها هذه الأحاسيس، وخذ منها موقفاً واعياً لكن دون إطلاق أحكام، ومهما حدث قاوم رغبتك في إطلاق أحكام على ما تشعر به، لأنَّ الأحكام والرفض يتعارضان مع ممارسة التقبُّل.

لا يوجد عواطف سيئة بل جميع العواطف عبارة عن أحاسيس جسدية:

إذا وجدت أنَّ ثمة أفكاراً من قبيل إطلاق الأحكام تراودك فلا تقاومها، بل أفسح لها المجال للظهور، ثمَّ اتركها تختفي، لأنَّ مقاومة هذه الأفكار ستؤدي إلى تكريسها، لذلك ما عليك سوى ملاحظتها وتدوينها، واستمر في مراقبة ما ينتابك من مشاعر وأفكار بطريقة مرنة لبضع دقائق.

في مرحلةٍ ما ستشعر بشيء من الخفَّة وكأنَّك تطفو على الماء، وهذه علامة على أنَّ العاطفة بدأت بالتلاشي؛ لذا ابقَ مركِّزاً على اللحظة الحالية وعلى تنفُّسِك، ومن خلال هذه التقنية ستجد أنَّه لا توجد عاطفة لا يمكن تقبُّلها حتى وإن استغرقت الممارسة بعض الوقت.

إنَّ التعامل مع مشاعرنا السلبية بوعي دون إطلاق أحكام وتقبُّلها بدلاً من ذلك، يؤدي إلى تغير الطبيعة السلبية لهذه المشاعر، وهو شيء قلَّما يختبره الناس، بسبب ميلهم إلى رفض التجارب الشعورية المزعجة أو تجاهلها.

إقرأ أيضاً: التعاطف أساس النجاح في العلاقات الاجتماعية

منظور جديد في رؤية العواطف:

عندما تتعلَّم تقبُّل العواطف المزعجة ستبدأ بإدراك أنَّها ليست شيئاً مرعباً أو خطيراً، بل غالباً ما تكون طريقة تعاملك معها أو الأحكام التي تطلقها عليها هي ما يجعلها تبدو كذلك، لكن إذا غيَّرت منظورك في رؤية العواطف فستتمكَّن من التعامل معها بطريقة مختلفة، من خلال قبولها بدلاً من رفضها.

كما قلنا في بداية المقال، قد تبدو هذه الممارسة غير منطقية، وذلك لأنَّ رفض المشاعر السلبية أو تجاهلها هو الإجراء البديهي للتعامل معها، على سبيل المثال، عندما يتملَّكك الخوف تشعر بالاستياء وتقوم بالربط بين العواطف المزعجة والأحداث السلبية التي تسعى إلى تجنُّبها أو نسيانها، لكنَّ الصراع ضد ما ينتابك من أحاسيس ومشاعر يفاقم من التوتر والمعاناة.

لذلك، قلنا إنَّك في هذه المعركة ستكون خاسراً، لأنَّك تميل إلى التجاوب بديهياً مع عواطفك، بدلاً من اختيار الطريقة المناسبة في التعامل معها، فعندما تتقبَّل عواطفك فلن يتبقَّى ما تصارع ضده، ومن ثمَّ تتحرَّر من الشعور بالألم، وتتعزَّز لديك إمكانات جديدة.

أمَّا إذا كان كل تركيزك منصبَّاً على التخلُّص من العواطف السلبية، فلن تكون قادراً على التفكير في الحلول الممكنة، وأمَّا إذا تقبَّلت مشاعرك، فستتحرَّر من الألم النفسي، وستعزِّز من إمكاناتك أيضاً، كما يقول الطبيب النفسي النمساوي "فيكتور فرانكل" (Viktor Frankl): "عندما لا نكون قادرين على تغيير الواقع فإنَّ ما يجب فعله هو تغيير أنفسنا".

إقرأ أيضاً: 3 استراتيجيات تساعدك على ممارسة التعاطف مع الذات

الخلاصة:

العواطف مؤقتة بطبيعتها، لكنَّها تستمر كلما قاومتها أو رفضتها أو تجاهلتها، لذلك في المرة القادمة التي ينتابك فيها شعور أو عاطفة باستمرار، فإنَّ ذلك له معنىً واحد، وهو أنَّه قد حان الوقت لتتعلم التقبُّل؛ لذا رحِّب بالمشاعر دون إطلاق أحكام، وتقبَّلها، وستجد كيف تختفي من تلقاء نفسها.

المصدر




مقالات مرتبطة