كيف يباع ويشترى شعورك بعدم الأمان؟

في العشرينيات من القرن الماضي، لم تكن النساء تُدخِّن، ومن كانت تفعل منهنَّ ذلك كان يُنظَر إليها نظرةً قاسية؛ فقد كان التدخين مُحرَّماً آنذاك، ومثلما كان وضع التخرج في الكلية أو الترشح لانتخابات الكونجرس، اعتقَدَ الناس أنَّ على النساء ترك التدخين للرجال أيضاً.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن الكاتب مارك مانسون (Mark Manson) والذي يحدثنا فيه عن استغلال الشركات ووسائل الإعلام للناس من خلال تغذية شعورهم بعدم الأمان.

لقد شكَّل هذا الأمر مشكلة لقطاع التبغ؛ فقد كان 50٪ من السكان لا يدخنون، إمَّا لأنَّ التدخين لم يَكُن يُعَدُّ خياراً عصريَّاً، وإمَّا لأنَّه كان تصرفاً غير لائق؛ وهذا بالطبع لم يُعجب شركات التبغ، وكما قال "جورج واشنطن هيل" (George Washington Hill)، رئيس شركة "أميركان توباكو" (American Tobacco Company) في ذلك الوقت: "لدينا منجم ذهب بين أيدينا".

لقد حاولت شركات التبغ عدة مرات تسويق السجائر للنساء، ولكنَّها فشلت في ذلك؛ حيث كانت ثقافة رفض التدخين راسخةً وعميقةً للغاية.

بعد ذلك، في عام 1928، وظَّفت شركة "أميركان توباكو" "إدوارد بيرنايز" (Edward Bernays)، وهو مسوق شاب ناجح ذو أفكار جامحة، وحملاته التسويقية أكثر جموحاً، وكانت أساليب التسويق التي اتبعها "بيرنايز" في ذلك الوقت مختلفة عن أي شخص آخر في هذا المجال.

بالعودة إلى أوائل القرن العشرين، كان يُنظر إلى التسويق ببساطة على أنَّه وسيلة للتعبير عن الفوائد الملموسة والحقيقية للمنتج بأبسط الطرائق الممكنة وأكثرها إيجازاً؛ إذ كان يُعتقد آنذاك أنَّ الناس يشترون بناءً على الحقائق والمعلومات؛ فإن أراد شخص ما شراء الجبن، فعليك أن تخبره بالحقائق عن سبب تفوق منتجك؛ كأن يكون مصنوعاً من حليب الماعز الفرنسي الطازج، واستغرق صنعه 12 يوماً، ويُشحن في ثلاجات. ولهذا كان يُنظر إلى الناس على أنَّهم عقلانيون ويتخذون قرارات شراء عقلانية.

لكنَّ بيرنايز لم يكن تقليدياً؛ إذ لم يعتقد أنَّ الناس يتخذون قرارات عقلانية في معظم الأوقات؛ بل في الواقع، كان يعتقد أنَّ الناس في الأساس غير عقلانيين؛ ولذا كان عليه أن يستميلهم على المُستويَين العاطفي واللاواعي.

وبينما ركَّز قطاع التبغ على إقناع النساء بشراء السجائر وتدخينها، عدَّ بيرنايز ذلك قضية عاطفية وثقافية، فإذا أراد بيرنايز أن تُدخِّن النساء، فعليه أن يغير هذا التوازن ويحول التدخين إلى تجربة عاطفية إيجابية للمرأة من خلال طرح التدخين بصورة ثقافيَّةٍ جديدة، ولتحقيق ذلك، اختار بيرنايز مجموعة من النساء وأدخلهن في موكب عيد الفصح في مدينة نيويورك (New York).

اليوم تعد مواكب العطلات الكبيرة أشياء سخيفة تتابعها بمللٍ عبر التلفزيون في أثناء استلقائك على الأريكة، لكن في تلك الأيام، كانت المواكب أحداثاً اجتماعية كبيرة، مثل مباراة كرة القدم الأمريكية "سوبر بول" (Super Bowl) أو شيء من هذا القبيل.

كانت خطة بيرنايز أن تتوقف هؤلاء النسوة في أثناء سيرهن في الموكب، ويُشعلن السجائر في نفس الوقت، بعد ذلك استأجر بيرنايز مصورين لالتقاط صور جذابة لهن، ثم وزعها على جميع الصحف الوطنية الكبرى، وأخبر المراسلين أنَّ أولئك السيدات لم يُشعلن السجائر فحسب، بل أشعلن "مشاعل الحرية"، لإظهار قدرتهن على التحرر.

كان كل شيء مزيفاً بالطبع، لكنَّ بيرنايز رتَّب الأمور بحيث تظهر كاحتجاج سياسي؛ ذلك لأنَّه كان يعلم أنَّ هذا سيثير المشاعر المناسبة لدى النساء في جميع أنحاء البلاد؛ فقد تمكن مناصرو حقوق المرأة من منح المرأة حق التصويت قبل عقد من الزمان.

لقد بدأت النساء بالعمل خارج المنزل وأصبحن جزءاً أساسياً من الحياة الاقتصادية في البلاد؛ فقد أثبتن وجودهنَّ من خلال تقصير شعورهن وارتداء ملابس غير محتشمة، واعتبرن أنفسهن آنذاك الجيل الأول الذي يمكنه التصرف باستقلالية عن الرجل، وقد تحمس الكثير منهن لهذه الفكرة، فإذا تمكن بيرنايز من ربط رسالته "التدخين = الحرية" بحركة تحرير المرأة، ستتضاعف مبيعات التبغ وسيصبح رجلاً ثرياً.

لقد نجحت خطته بالفعل، وبدأت النساء بالتدخين والاستمتاع بسرطان الرئة تماماً مثل أزواجهن، في هذه الأثناء، واصل بيرنايز بانتظامٍ تدبير هذه الأنواع من الانقلابات الثقافية خلال عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، لقد أحدث ثورة في صناعة التسويق وابتكر مجال العلاقات العامة في أثناء ذلك.

لقد كان دفع المال للمشاهير مقابل استخدام المنتجات، وكتابة مقالات مزيفة الغرض الحقيقي منها أن تكون إعلانات خفيَّةً لمنتجٍ ما، وتنظيم أحداثٍ عامَّةٍ مثيرةٍ للجدل للفت الانتباه إلى أحد عملائه وتعزيز شعبيته بضع أفكارٍ من ابتكاره؛ لقد بدأ كل شكل من أشكال التسويق أو الدعاية التي تُمارَس جميعاً اليوم مع بيرنايز.

ولكن هناك شيء آخر يثير الدهشة بشأن بيرنايز: لقد كان ابن أخ "سيغموند فرويد" (Sigmund Freud).

كانت نظريات فرويد من أوائل النظريات التي ذكرَت أنَّ معظم قرارات البشر تُتَّخَذُ أساساً بلا وعيٍ وبعيداً عن العقل، وكان فرويد هو الشخص الذي أدرك أنَّ انعدام الأمن لدى الناس دفعهم إلى الإسراف والإفراط في التعويض، وهو الشخص الذي ظنَّ أنَّ الناس في جوهرهم أشبهَ "حيوانات يمكن التلاعب بهم" بسهولة، خاصة في مجموعات.

طبَّق بيرنايز هذه الأفكار على بيع المنتجات وأصبح ثرياً من خلال ذلك، كما استخدم أفكار عمه لبناء إمبراطورية إعلامية، وأصبح فيما بعد مشهوراً في الولايات المتحدة من خلال نشر نظرياته في المجلات.

من خلال فرويد، فهم بيرنايز شيئاً لم يفهمه أي شخص آخر في مجال الأعمال قبله: "إذا استطعت الاستفادة من مخاوف الناس، وتمكنت من اكتشاف إحساسهم العميق بانعدام الكفاءة؛ فسيشترون أي شيء تقريباً تروجه لهم".

إقرأ أيضاً: التغلب على الخوف في الأزمات الاقتصادية

أصبح هذا النوع من التسويق أساس جميع الإعلانات المستقبلية؛ حيث تُسوَّق الشاحنات للرجال بطريقة تُمثل القوة والموثوقية، ويُسوَّق المكياج للنساء كوسيلة ينلنَ من خلالها مزيداً من الحب ويحظَينَ بمزيدٍ من الاهتمام.

ففي النهاية، كيف يمكن لمجلة نسائية تعرض 150 صفحة من الصور المُعدَّلة لنساء يبلغ معدل جمالهن 0.01% من جمال السكان أن تجني المال، إن لم تنتهج طريقة مختلفة وتبيع منتجات التجميل بجانب تلك النساء اللاتي استخدمن المكياج لتحسين مظهرهن؟

هذا هو كل ما يخص أساسيات التسويق اليوم، وعندما درست التسويق لأول مرة ثم بدأت عملي الأول، قيل لي أن أبحث عن "نقاط الضعف" لدى الناس ومن ثم أجعلهم يستاؤون منها، ثم أخبرهم أنَّ منتجي سيجعلهم يشعرون بتحسن؛ في حالتي كنت أبيع نصائح للزواج؛ لذا كانت الفكرة هي إخبار الناس بأنَّهم سيظلون وحيدين إلى الأبد، ولن يحبهم أحد، وأنَّ هناك عيب ما فيهم، ثم أطلب منهم شراء كتابي.

لم أفعل ذلك بالطبع؛ فقد شعرت بالضيق، واستغرق الأمر مني سنوات لأفهم سبب ذلك.

في ثقافتنا اليوم، غالباً ما يكون التسويق هو الرسالة، والغالبية العظمى من المعلومات التي تُعرَض علينا هي شكل من أشكال التسويق؛ وبالتالي إذا كان التسويق يحاول دائماً جعلك تشعر بالسوء لإقناعك بشراء شيء ما، إذاً نحن موجودون أساساً في ثقافة مصممة لتجعلنا نشعر بالسوء ونرغب دائماً في التعويض بشكل مفرط بطريقة ما.

أحد الأشياء التي لاحظتها على مر السنين هو أنَّه من بين آلاف الأشخاص الذين راسلوني عبر البريد الإلكتروني للحصول على المشورة بشكل أو بآخر، يبدو أنَّ نسبة كبيرة منهم لا يعانون من أي مشكلة محددة، وإنَّما تمسكوا بمعايير غريبة وغير واقعية.

مثل الشاب الجامعي الذي يذهب إلى الكلية متوقِّعاً أنَّ الذهاب إليها نزهاتٌ وعلاقاتٌ غرامية ثم يشعر بخيبة أمل عندما يشعر بالحرج الاجتماعي؛ ذلك لأنَّه يتعين عليه الذهاب إلى الفصل ودراسة المواد الصعبة وتكوين صداقات جديدة، وهو غير واثق من نفسه باستمرار لأنَّه لم يعش بمفرده من قبل، التجربة الأخيرة طبيعية تماماً، ومع ذلك فقد انتقل إلى الجامعة حاملاً معه توقعات خاطئة عن الحياة الجامعية.

بالمناسبة، كان بيرنايز على علم بكل هذا، لكنَّ وجهة نظره السياسية كانت بمثابة نسخة عن الفاشية؛ فقد اعتقد أنَّه لا بد من أن يستغل القوي الضعيف من خلال وسائل الإعلام والدعاية التي أطلق عليها اسم "الحكومة غير المرئية" وأنَّ هذا في مصلحة الجميع، واعتقد عموماً أنَّ عامة الناس كانوا أغبياء ويستحقون كل شيء يقنعهم به الأذكياء.

تطور مجتمعنا إلى نقطة مثيرة للاهتمام في التاريخ؛ حيث تعمل الرأسمالية، من الناحية النظرية، من خلال تخصيص الموارد لتلبية احتياجات ومطالب كل فرد بأكثر الطرائق فعالية وكفاءة.

ولكن ربما تكون الرأسمالية هي الوسيلة الأكثر فاعلية لتلبية الاحتياجات المادية للسكان، مثل احتياجاتهم من الغذاء والمأوى والملبس وما إلى ذلك؛ لأنَّه في النظام الرأسمالي، يصبح من الاقتصادي أيضاً تغذية مخاوف الجميع وعاداتهم السيئة ونقاط ضعفهم، لتعزيز أسوأ المخاوف لديهم وتذكيرهم باستمرار بنواقصهم وإخفاقاتهم، بحيث يصبح من المربح وضع معايير جديدة وغير واقعية لتوليد ثقافة المقارنة والدونية؛ ذلك لأنَّ الأشخاص الذين يشعرون دائماً بالنقص هم أفضل العملاء.

ففي النهاية، لا يشتري الناس منتجاً إلا إذا اعتقدوا أنَّه سيحل مشكلة ما؛ لذلك إذا كنت ترغب في بيع منتجات تفوق عدد المشاكل، فعليك إقناع الناس بوجود مشاكل.

هذا ليس هجوماً على الرأسمالية وليس هجوماً على التسويق؛ فأنا لا أعتقد أنَّ هناك مؤامرة كبيرة للمحافظة على سياسة إدارة القطيع، وأعتقد أنَّ النظام يخلق بعض الحوافز التي تشكل وسائل الإعلام، ومن ثم تستمر وسائل الإعلام في تشكيل ثقافة قاسية وسطحية تعتمد على محاولة الارتقاء دائماً إلى شيء ما.

عموماً كان أداء نظامنا جيد جداً، ولا يزال يعمل جيداً في معظم الأحيان، فأنا أحب أن أعدَّه الحل الأقل سوءاً لتنظيم الحضارة الإنسانية؛ حيث تجلب الرأسمالية الجامحة معها ببساطة خلفية ثقافية يجب أن نكون على دراية بها ونتكيف معها، وفي كثير من الأحيان، يغذي التسويق في اقتصادنا عدم الأمان فينا وهو أمر غير مفيد ويثير عن قصد شعورنا بالنقص أو الإدمان لتحقيق المزيد من الأرباح.

إقرأ أيضاً: كيف يؤثِّر القلق في خياراتنا الشرائية؟

قد يجادل بعضهم بأنَّ هذا النوع من الأشياء يجب أن تُنظمه وتسيطر عليه الحكومة، وقد يساعد ذلك قليلاً، لكنَّه لا يبدو لي حلاً جيداً على الأمد الطويل.

الحل الوحيد الطويل الأمد هو أن يتحلى الناس بوعي ذاتي لفهم متى تستغل وسائل الإعلام نقاط ضعفهم وشعورهم بعدم الأمان، واتخاذ قرارات واعية في مواجهة تلك المخاوف؛ حيث إنَّ نجاح أسواقنا الحرة أثقل كاهلنا بأعباء تحمُّل مسؤولية ممارسة حريتنا في الاختيار، وهذه المسؤولية أكبر بكثير مما ندركه في كثير من الأحيان.

 

المصدر




مقالات مرتبطة