كيف رأى القدماء الموت؟

كانت المواقف تجاه الموت في الحضارات القديمة معقدة، ولم تقتصر على وجهة نظر معينة واحدة فحسب؛ إذ يغطي هذا الموضوع الواسع كل شيء من المعتقدات عن الحياة بعد الموت إلى الممارسات الجنائزية وإحياء ذكرى الميت.



يجب عند دراسة هذا الموضوع أن ننظر أيضاً في التأثيرات الخارجية، مثل تأثير الثقافات القديمة في بعضها وما تستمده من غيرها، وكيف تغيرت المعتقدات والاتجاهات وتطوَّرت بمرور الوقت؛ لذلك فإنَّ فكرة الموت عند الحضارات القديمة موضوع متنوع ورائع قد يوفر بعض الأفكار الهامة عن تلك الحضارات وكيف تعاملت معه وما هي طقوس كل منها، وسنتعرف إليها في هذا المقال، تابعوا معنا.

الموت عند المصريين القدماء:

الموت عند المصريين القدماء

تتميَّز مصر القديمة بمومياءاتها وأهراماتها الشامخة شموخاً فريداً بالأشياء المرتبطة بالموت، وكل الآثار والنقوش والتحف الفخمة الموجودة عن الجثث في داخلها تمثِّل اعتقاداً معقداً عن نظرتهم إلى الحياة الآخرة بعد الموت، وظنَّ قدماء المصريين أنَّ "الكا"، وهي كيان مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالجسد المادي، قدرت على الأكل والشرب والشم والاستمتاع بالحياة الآخرة.

الروح، أو "با" لا تستطيع أن تحيا دون الجسد، والأكثر من ذلك أن تكون قادرة على التعرف إلى جسدها لتستطيع العودة إليه؛ لهذا كان الحفاظ على الجسد أمراً ضرورياً حتى يستطيع الإنسان الوصول إلى الحياة الآخرة والتمتع بها.

ترك المصريون الأوائل موتاهم في الصحراء لتحقيق هذه الغاية؛ ليُحفظوا في المناطق الجافة المحيطة؛ لكنَّ التحنيط أصبح شائعاً شيوعاً متزايداً وظل كذلك لمدة ثلاثة آلاف عام.

التحنيط عند المصريين القدماء:

تتضمن عملية التحنيط غسل الجثة مع بعض الطقوس، ثم إزالة أي أعضاء قد تساهم في عملية التعفن؛ لذلك يُزال الكبد والمعدة والرئتين والأمعاء وتُوضَع في أوعية "كانوبية" لتُدفن مع الجسم، والدماغ وهو عضو لا يُظن أنَّ له فائدة كبيرة في الآخرة، يُزال من خلال فتحات الأنف، وغالباً ما يُتخلص منه.

يُترك القلب في مكانه، أو يوضع بالقرب من الحلق، بسبب الاعتقاد بأنَّ القلب هو مصدر قوة حياة الإنسان وأنَّ أي ضرر يلحق به سيؤدي إلى "وفاة ثانية"، وبعد ذلك يجفف الجسم ويُبطن ليحتفظ بشكله الواقعي قبل الموت، وسيُحفَظ ببكربونات الصوديوم أو البيتومين، ويُظن أنَّ مصطلح "Mummy" مشتق من الاسم العربي للبيتومين أو الجثة المحنطة "مومياء".

قبل العملية النهائية والتي هي لف الجسد ودفنه، يرتدي الكاهن قناع الإله برأس "ابن آوى أنوبيس" (الذي يُشرف على حكم الروح في الآخرة) ويؤدي الطقوس الأخيرة، وتتضمن هذه الطقوس فتحاً احتفالياً للفم لمنح الموتى القدرة على الكلام والأكل في الحياة التالية.

ثم تُلف الجثة بمئات الياردات من الضمادات وتزيينها، وغالباً ما يُرسم وجه الشخص فوق الضمادات الموضوعة بعناية، ويُظن أنَّ العملية برمتها تستغرق ما يصل إلى 70 يوماً، وتوضع هذه المومياءات في سلسلة من التوابيت، كل منها منقوش من الداخل والخارج بنصوص سحرية ورموز لتسهيل المرور إلى الحياة الآخرة.

إقرأ أيضاً: أقوال وحكم الفلاسفة والأدباء عن الموت

الموت عند حضارة بلاد ما بين النهرين القديمة:

وُجِدَت حضارة بلاد ما بين النهرين في العراق الحديث وما حولها في الوقت نفسه تقريباً مع فراعنة مصر، ولها وجهة نظر مختلفة تماماً عن الموت؛ فبالنسبة إليهم، كان الموت أمراً يخافون منه.

لقد آمنوا في تقاليد بلاد ما بين النهرين بأنَّ البشر خُلقوا من طين ممزوج بدم الإله المضحى، وهكذا، لكون الروح خالدة جزئياً، فإنَّها لا تموت بعد الموت؛ بل تبقى لتعيش حياة بعد الموت الكئيبة، مع احتفاظها بجميع احتياجات الأحياء وعواطفهم.

تعيش الروح بعد الموت بشكل كائن مظلم مجوَّف لا تأكل سوى الغبار والطين في مكان محروم من الماء الصالح للشرب، وكانت الراحة الوحيدة من هذا الوجود هي الطعام وما يعرضه عليها أحفادها؛ لهذا عُدَّت مصادرة جسد العدو من يد أسرته عقاباً رهيباً.

خشي أهل بلاد ما بين النهرين القديمة الموت إلى درجة كبيرة، وقد اعتُقد أنَّ الأرواح المظلومة والمقتولة والشريرة قد تهرب من أرض الموت لتسبِّب الخراب بين الأحياء من خلال دخول أجساد الأحياء عن طريق آذانهم.

الموت عند حضارة بلاد ما بين النهرين

بالمثل يستطيع الموتى أن يقوموا ويعذبوا الأحياء إذا لم يُدفنوا دفناً لائقاً؛ لذلك تُدفن حتى جثث الأعداء بطريقة تمنع حدوث ذلك، ويُدفن معظمهم في مقابر، وقد عُثِر على جثث أطفال تحت أرضيات المنازل، وغالباً ما دُفنت في أواني الطهي دفناً مثيراً للفضول.

نظراً لحتمية احتمال وجود حياة أخرى قاتمة، سواء كنت جيداً أم سيئاً؛ فقد خُصِّص عدد قليل جداً من الأحكام للحياة الآخرة نفسها، وكتب الأدب القديم في بلاد ما بين النهرين عن الإلهة عشتار التي وُجِب عند عبورها البوابات إلى العالم السفلي، أن تتخلى تدريجياً عن جميع ممتلكاتها قبل أن تتمكن من مقابلة "إريشكيجال" ملكة العالم السفلي.

شاعت الأغراض الجنائزية، وغالباً ما أخذت شكل أوانٍ للطعام والماء، وظُنَّ أنَّ السلع الجنائزية الأخرى استُخدمت في الطريق إلى الحياة الآخرة، بصفتها هدايا للآلهة، أو في حالات الأشخاص رفيعي المستوى، مثل عرض للثروة الشخصية.

الموت عند اليونانيين القدماء والرومانيين:

الموت عند اليونانيين

تشابَه التعامل مع الموت في اليونان القديمة وروما إلى درجة ما، ويرجع ذلك إلى درجة كبيرة إلى استعارة الرومان الأوائل المكثفة للثقافة اليونانية، الذين فسروا آلهتهم من خلال الأساطير اليونانية الموجودة؛ لذلك تقاطعت مفاهيمهم عن الحياة بعد الموت والآخرة في أشياء عدة، وآمن كلاهما بإله للعالم السفلي، "هاديس" باليونانية و"بلوتو" بالرومانية، الذي حكم العالم السفلي مع زوجته "بيرسيفوني" أو "بروسيربينا".

بعد الموت، تُقدم الأرواح سرداً لحياتها لثلاثة قضاة وتُرسل إلى حقول Asphodel أو حفرة Tartarus، وفي بعض الأدبيات، إذا كانت الروح جيدة، فقد تذهب إلى إليسيوم أو جزر المباركين، وهي مكان مخصص عادةً للأبطال والآلهة.

يُنقل الشخص في الطريق إلى Hades عبر نهر Styx الجهنمي بواسطة الملاح الشيطاني Charon، وغالباً ما وُضِع عملة معدنية في فم الجسد بصفتها دفعة له؛ إذ ظن بعضهم أنَّه كلما زادت قيمة العرض، كان المرور أكثر سلاسة إلى الجحيم، وقد زُوِّدت بعض النفوس بكعكات العسل لتقديمها إلى الكلب الشيطاني ذي الرؤوس الثلاثة "سيربيروس" الذي يحرس بوابات العالم السفلي.

كان الدفن اللائق هاماً لكل من الإغريق والرومان، الذين ظنوا أنَّ الموتى قد يظلون كأشباح إذا فشل الأحياء في تنفيذ طقوس الجنازة المناسبة.

لا يتحقق الخلود عند اليونانيين إلا عن طريق تذكُّر الأحياء للموتى؛ لذلك السبب شُيدت تلال ترابية كبيرة وعالية وقبور مستطيلة الشكل ونصب رخامية منحوتة بعناية وتماثيل.

أخذ الرومان الموت على محمل الجد؛ إذ شيد بعضهم قبورهم في حياتهم لضمان بَعثٍ مناسب.

إقرأ أيضاً: معلومات هامة عن أسباب رهاب الموت وطرق علاجه

الموت عند الصينيين القدماء:

لقد ظنَّ الصينيون القداماء أنَّ الموت مجرد إطالة للحياة، بدلاً من الإيمان بالخلاص الفردي بحد ذاته، وظنوا أنَّ الموتى سيستمرون في الحياة الروحية كما فعلوا في هذه الحياة، وهكذا وُضِعت أحكام لأولئك الذين ماتوا لاستخدامها في الآخرة.

قد تنافس المدافن والممتلكات الجنائزية في الجنازات النبيلة والملكية تلك القصور التي يقطنها الأحياء ويستخدمونها، وفي بعض مقابر سلالة "شانغ الملكية" (1046 قبل الميلاد - 1600 قبل الميلاد) ظهرت ممارسة تتمثل في اصطحاب الخدم والمحظيات إلى القبر معهم، وأكثر من ذلك، أشارت مئات الهياكل العظمية التي كُشِف عنها إلى أنَّ هذه التضحيات ربما دُفنت على قيد الحياة، لكن مع مرور الوقت توقفت التضحية البشرية.

استُخدمت الأغراض الفخارية بازدياد في عهد "أسرة هان" (206 ق.م - 220 م)، بدلاً من ذلك، ومع ذلك، فإنَّ هذا لم يجعل هذه المقابر أقل إثارة للإعجاب؛ فقد صُمِّمت مقبرة "ليو شنغ" في "مانغينج" بصفتها منزلاً حقيقياً مكتملاً بالنوافذ والإسطبلات والمخازن وكتب الطبخ والحمامات، بينما اكتشف "تيراكوتا ووريورز" في عام 1974 اكتشافاً ضخماً، وهو مجمع دفن يضم 8000 جندياً و130 عربة فيها 520 حصاناً و150 خيلاً من خيول الفرسان، ورجالاً أقوياء ومسؤولين من الفخار.

هذا التقليد أصبح أكثر شعبيةً مع حلول عهد أسرة "سونغ" (960-1279 م)، وكان من الممكن إنتاج سلع جنائزية رخيصة الثمن إلى حد ما، مما يعطي الأقل ثراءً فرصة للحياة الآخرة الفاخرة.

إضافة إلى ذلك، كان لدى الأطفال التزامات تجاه أسلافهم للتضحية التي قدموها في إنجابهم وأنَّ هذه الواجبات تستمر حتى بعد الموت، وقد امتلكت الأرواح في الصين القديمة القدرة على التأثير في حياة الناس على الأرض، وإذا لم يرعاها الأحياء، فقد تعود، مما يتسبب في أضرار لا توصف، وهكذا ظهرت عبادة الأسلاف؛ فقدم الناس القرابين وأقاموا الاحتفالات لسلالة أحفادهم.

حتى الموتى دُفنوا مع مجموعة من الأواني البرونزية، ويُظن أنَّها وُضعت حتى يستمروا في تقديم القرابين إلى أسلافهم، وقد تطور هذا تطوراً كبيراً مع التأثير الكونفوشيوسي، الذي حرَّض على وضع "ألواح الروح" في ضريح الأسرة وتبجيلها، مع تقديم القرابين للأسلاف البعيدين على فترات أطول من أولئك الذين ماتوا للتو.

في الختام:

تعرفنا معاً في هذا المقال إلى تاريخ الطقوس الجنائزية القديمة وكيف رأت الشعوب القديمة مثل المصريين وحضارة بلاد الرافدين واليونانيين والرومانيين والصينيين الموت وتعاملوا معه على أمل تحقيقه للفائدة المرجوة منه.




مقالات مرتبطة