كيف تكون محظوظاً؟

يجد البشر الراحة في اليقين، فنحن نشكل الحكومات وننشِئ المنظمات ونبني نشاطاتنا واستراتيجياتنا وخططنا حول هذه البُنى؛ إذ تعطينا هذه الأمور الروتينية الرضى بمعرفة أنَّه من خلال وجود خطة سيكون هنالك وسيلة للوصول إلى النتائج.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن المدوِّن "كريستيان بوسش" (Christian Busch)، والذي يُحدِّثُنا فيه عن الأساليب التي تجعلك محظوظاً.

ولكن توجد قوة أخرى تؤثر تأثيراً مستمراً في الحياة، والتي غالباً ما تُحدِث أعظم الفروقات لمستقبلنا؛ ألا وهي الأمور غير المتوقعة أو التي لا يمكننا التنبؤ بها، وإذا فكرت في ذلك، فأنت بالفعل تنظر إلى ما هو غير متوقع كل يوم، ولكن ربما فقط كآلية للدفاع. على سبيل المثال، عندما تمر عبر معبر مشاة في طريق مزدحم، فأنت تبحث عن السائق غير المتوقع الذي قد يمر مسرعاً في أثناء الإشارة الحمراء؛ إذ إنَّ "اليقظة" تجاه ما هو غير متوقع هي محور فهم علم الحظ المكوَّن "بذكاء" واستثماره لمصلحتك.

في بحثي حول ما يجعل الأفراد والمنظمات مهيئين للمستقبل، ظهرت لي رؤية واحدة مراراً وتكراراً، بأنَّه قد نجحت العديد من العقول الرائدة على مستوى العالم في تنمية القدرة اللاواعية في كثير من الأحيان على تحويل ما لم يكن متوقعاً إلى نتائج إيجابية، وتطوير "عقلية المصادفات" هذه - كما أسميها - هو في الوقت نفسه فلسفة الحياة والقدرة التي يمكنك تشكيلها وتغذيتها في نفسك، على الرغم من أنَّ هذا النهج كان ناجحاً في العديد من السياقات، إلَّا أنَّه لا بد من أن يسير جنباً إلى جنب مع معالجة عدم المساواة التي لها علاقة بعوامل مثل العرِق ونوع الجنس والدخل.

قد تفكر في الصدفة على أنَّها حظ سيئ يحدث لك فقط، في حين أنَّها في الواقع عملية نشطة لتحديد وربط الأمور، ومن ثم اتِّخاذ المبادرات والإجراءات لخلق الحظ بذكاء؛ إذ إنَّ الصدفة هي قوة إرشادية في الاكتشافات العلمية العظيمة، ولكنَّها موجودة أيضاً في حياتنا اليومية من أصغر اللحظات في الحياة حتى أعظم الأحداث التي تغير الحياة، وهذه هي الطريقة التي نجد فيها الحب بشكل غير متوقع، أو إيجاد مؤسس يشاركنا في عملٍ ما أو وظيفة جديدة أو شريك في العمل، وهذه هي الطريقة التي ظهرت بها بعض الاختراعات مثل دفتر الملاحظات الصغير القابل للَّصق والأشعة السينية والبنسلين والميكروويف، والعديد من الابتكارات الأخرى.

إنَّ بحثي يقترح أنَّ الصدفة لها ثلاث خصائص أساسية؛ فهي تبدأ بما يثير الصدفة، ومن ثم اللحظة التي تواجه فيها شيئاً غير عادي أو غير متوقع، بعد ذلك تحتاج إلى ربط الأمور؛ أي مراقبة ما قد يثير الصدفة وربطه بشيء يبدو ليس له صلة، ومن ثم إدراك القيمة المحتملة في الفرصة، وأخيراً لا بدَّ من الذكاء والمثابرة من أجل المضي قدماً وتحقيق نتيجة إيجابية غير متوقعة، في حين أنَّ لقاء فرصة معينة هو حدث هام.

لكي تكون محظوظاً؛ من الضروري أن تكون منفتحاً ومنتبهاً إلى غير المُتوقَّع، فلنتأمل هنا تجربة مسلية نفذها عالم النفس البريطاني "ريتشارد وايزمان" (Richard Wiseman) في برنامج تلفزيوني على قناة "البي بي سي" (BBC) منذ فترة من الزمن، التي شارك فيها شخصان فقط: أحدهما عَدَّ نفسه "محظوظاً"، والأخرى عرَّفت عن نفسها بأنَّها "غير محظوظة"، وطلبَ الباحثون من كلا المشاركَين القيام بزيارات منفصلة إلى مقهى؛ حيث وضعوا 5 جنيه استرليني على الرصيف خارج المقهى دون علم المشاركين بها، وفي داخل المقهى كان هناك شخص يتظاهر بأنَّه رجل أعمال ناجح جلس على الطاولة بجانب المنضدة فأتى "الشخص المحظوظ"، ورأى المال خارجاً ثم أخذه، وفي الداخل طلب فنجاناً من القهوة، وجلس إلى جانب رجل الأعمال وأجرى معه محادثة، أمَّا تلك التي وصفت نفسها بأنَّها "سيئة الحظ"، فلم تلاحظ المال ولم تتحدث إلى رجل الأعمال.

وفي وقت لاحق، سأل الباحثون كلا المشاركين كيف كان يومهم، وذكر الشخص "المحظوظ" أنَّه قضى يوماً رائعاً فقد وجد المال في الشارع وكوَّن صداقة جديدة "التي قد تقوده إلى فرص إضافية في حياته"، وفي الوقت نفسه وصفت الفتاة "غير المحظوظة" يومها بأنَّه خالٍ من الأحداث؛ لذا على الرغم من أنَّ كلا المشاركين حظوا بالفرص نفسها، إلَّا أنَّ واحداً منهم فقط كان قادراً على "رؤية" تلك الفرص.

إنَّ مثل هذه التجربة - على الرغم من كونها مرحة - تُبيِّن أنَّ عقليتك وطريقة تفكيرك في أي احتمالٍ في حياتك من الممكن أن تؤثِّرا في قدرتك على الانتباه إلى الفرص السانحة في حياتك. في الواقع بعض المصطلحات مثل "غير متوقع" و"استثنائي" و"غير محتمل" مضللة؛ وذلك لأنَّ الحوادث أو المصادفات تحدث طوال الوقت، ولكن يجب أن نكون قادرين على رؤية الفرصة في لحظتها.

وعلى الرغم من أنَّ الانتباه إلى ما هو غير متوقع يشكل أهمية بالغة لخلق الحظ بذكاء، إلَّا أنَّه يوجد عامل رئيس آخر؛ ألا وهو الاستعداد؛ إذ يتعلق ذلك جزئياً بإزالة الحواجز العقلية "العقلية الخاصة بك" والمادية "الحيز الذي تعيش فيه وتتفاعل معه"، مثل الجداول الزمنية المثقلة بالأعمال والاجتماعات التي ليس لها معنى وانعدام الكفاءة خلال يومك؛ وهذا الأمر الذي يسلبك الوقت والفضول والإحساس بالمتعة.

يمكنك الاستعداد بتعزيز قوتك العقلية إلى استثمار الفرص وخلق بيئة تمكِّنك من استعمال مهاراتك ومواردك المتاحة للتصرف الفوري؛ إذ إنَّ العقل غير المستعد كثيراً ما يتجاهل اللقاءات غير العادية، ومن ثم يهدر فرص الحظ المكوَّن بذكاء.

والاستعداد هو تطوير القدرة على تسريع وتسخير المصادفات الإيجابية التي تظهر في الحياة، وفي هذا الدليل سأُريك المبادئ الأساسية لكيفية القيام بذلك.

شاهد: 6 صفات يتميز بها الناجحون

1. إدراك وتحدي تحيزاتك:

إنَّ عاداتنا في التفكير والتصورات المسبقة عن العالم قد تجعل من الصعب رصد أو تسخير الصدف، فهي تشكل سلوكنا وكيفية تفاعلنا مع العالم، وتوجد ثلاثة انحيازات رئيسة سوف تتطلب القدر الأعظم من الاهتمام للتغلب عليها إذا كنا راغبين في زرع الصدفة بشكل فعَّال، مثل التقليل من أهمية ما هو غير متوقع وانحياز الإدراك المتأخر والتثبيت الوظيفي.

من الطبيعي أن نقلل من شأن ما هو غير متوقع، ولكن عندما تفعل ذلك، فإنَّك تهمل الفرص لخلق الحظ بذكاء، ومن غير المحتمل في يوم عرضك التقديمي الكبير أن يتعطل برنامج "زووم" (Zoom)، ومن غير المحتمل أن يمرض الشخص الذي كان من المفترض أن يقيم عرضك التقديمي، كما أنَّه من غير المحتمل أن تسكب القهوة على حاسوبك المحمول قبل العرض مباشرةً، ولكن إذا جمعنا كل هذه الأحداث غير المرجحة، فيصبح من المرجَّح نسبياً أن يحدث شيء غير متوقع.

إنَّ مقدمي العروض الذين يملكون الخبرة كثيراً ما يلقون نكتة عندما تسوء الأمور معهم، وهم يدركون أنَّها تسوء في كثير من الأحيان، وهذا الشيء يميل إلى جذب الجمهور إلى جانبهم؛ لأنَّهم يبدون سريعين في الوقوف على أقدامهم ويرتاحون لمشاركة إنسانيتهم، والمنطق نفسه ينطبق على كل الأشياء الجيدة التي يمكن أن تحدث على مدار اليوم. وبمجرد أن نتقبل أنَّ ما هو غير متوقع يحدث في كل الأوقات، نبدأ بـ "رؤيته" مثل الشخص "المحظوظ" الذي رصد المال الموجود في الشارع في التجربة المذكورة آنفاً، ونبدأ النظر إليه على أنَّه فائدة محتملة أو فرصة وليس تهديداً.

انحياز الإدراك المتأخر:

عندما نبني قصصاً عن أحداث سابقة، فإنَّنا نتصرف غالباً كما لو كان هناك مسار خطي مستقيم، حتى على الرغم من أنَّ الواقع في الأرجح يتبع مساراً متعرجاً، وهذا يمكن أن يؤدي بنا إلى تصور أنَّ الأحداث يمكن التنبؤ بها أكثر من اللازم وتجاهل دور الفرص، ويمثل ذلك حاجتنا البشرية إلى العثور على الألفة في المجهول، ومع ذلك إذا كنت باستمرار تروي العديد من الأحداث غير المتوقعة التي حصلت معك في قصصك، فسوف تفوِّت أهمية الأجزاء غير المتوقعة ومن ثم تفشل في إدراكها، ناهيك عن الدور الحاسم الذي ستؤديه الصدفة في مستقبلك.

التثبيت الوظيفي:

كلَّما استعملنا أداة في حياتنا اليومية، نعتاد على وظيفتها المحددة المعتادة؛ إذ إنَّنا في كثير من الأحيان غير قادرين على رؤية فائدتها في سياقات أخرى؛ وهذا هو التحيز المعروف باسم "التثبيت الوظيفي"، وعلى نحو مماثل أظهرت الأبحاث أنَّ الأفراد المعتادين على استعمال استراتيجيات محددة لحل المشكلات، من غير المرجَّح أن يبتكروا استراتيجيات أسهل حتى ولو كانت مناسبة أكثر.

وبعبارة أخرى، فإنَّنا نميل إلى القيام بأشياء كثيرة من باب العادة وغالباً ما نستمر في استعمال "الطريقة الصعبة"؛ بكل سهولة لأنَّها الطريقة التي نعرفها بالأصل، وامتلاك مهارة الارتجال لرؤية كيف يمكن استعمال أداة معينة بطريقة جديدة، أمر أساسي لبناء عقلية المصادفة الخاصة بك.

لنتأمَّل هنا شخصيات خيالية مثل "لارا كروفت" (Lara Croft) أو "جيمس بوند" (James Bond) وكيف تمكنوا - بفضل فطنتهم السريعة - من تحويل أي شيء عادي إلى سلاح قاتل، فنحن معجبون بهذه الشخصيات لأنَّنا ندرك موهبتهم وسعة حيلتهم، وربما كم أنَّه من غير المرجح أن نفكر في حلولهم نفسها عندما نواجه مأزقهم.

سوف يزدهر إبداعك عندما تتخلى عن الأدوات المادية والعقلية التي تألفها أكثر من غيرها، وتجد طرائق جديدة للعمل أو التفكير.

2. تعزيز عقلية الصدف:

بالإضافة إلى تحدي انحيازاتك الفطرية وبذل جهد كبير للتفكير في أفكار أبعد من الأفكار المعتادة أو طرائق التفكير الثابتة، توجد العديد من الخطوات العملية الأخرى التي يمكنك اتخاذها للمساعدة على تطوير أو تقوية الصدفة لديك، وستساعدك على تحديد الفوضى في حياتك والتخلص منها وتهيئة مساحة للصدفة وإنشاء المزيد من التواصل ورؤية الفرص في الأزمات.

3. التدوين:

إذا لم تكن معتاداً على كتابة اليوميات، فلا تبالغ في التفكير؛ بل حدِّد مؤقِّتاً مدته دقيقتين، ثم اذكر في عمودين أجزاء يومك التي أدَّت إلى نتائج إيجابية والأجزاء الأخرى التي لم تؤدِّ إلى ذلك، وبينما تقسم يومك إلى هذه الأجزاء، افحص الأجزاء التي أثَّرت تأثيراً جيداً حقاً بالنسبة إليك، وتلك التي كانت غير فعالة أو مجهدة أو غير مرضية.

قد تبدأ ملاحظة بعض الأنماط البارزة في الخير والشر؛ إذ إنَّ التدوين والتفكير طريقة للبدء بإزالة الفوضى من حياتك؛ لاستكشاف المجالات التي تمنعك من التعرُّف إلى الصدف، وفي بعض الأحيان يبدو أنَّ إزعاجاً تافهاً يمكن أن يستنزف طاقتك ويقظتك أكثر.

إقرأ أيضاً: 12 اختراعاً ابتكروا صدفةً وغيّروا وجه العالم

4. إزالة الفوضى من حياتك:

بمجرد أن تكتشف أحد هذه الأنماط، ابدأ تفصيل القرارات والمعلومات ذات الصلة بلماذا لا تعمل الأمور بشكل جيد، واسأل نفسك: "على أساس أي افتراض أو معتقد اتخذت هذا القرار أو اخترت أن تفعل الأمور بهذه الطريقة؟" و"ما الذي سيؤثر فيَّ لأقرِّر أو أتصرَّف بشكل مختلف؟" و"ماذا عساي أن أفعل بدلاً من ذلك؟" بالنسبة إلى بعض الناس، الأمر سهل كالاستيقاظ أبكر بعشر دقائق.

نحن نعيش حياة فريدة ومعقدة؛ وإذا تغاضيت عن التفاصيل، فلن تأخذ مساحة في حياتك اليومية بعد ذلك، وسوف يكون لديك المزيد من الاهتمام المعرفي والعاطفي والجسدي لتكرِّسه في الأشياء الأكثر أهمية؛ لذا احذف قائمة المهام الخاصة بك وسدِّد الفواتير إن استطعت واستبدل المصباح المحترق في منزلك، حتى أنَّه يمكنك الاشتراك في خطة لتناول الطعام لتوفير الوقت والمال عند تناول الطعام في الخارج.

عندما تتوقف عن المماطلة ويُعتنى أخيراً بهذه الأشياء السهلة، فلن تأخذ حيِّزاً من تفكيرك بعد ذلك، وستعزز قدرتك على الملاحظة والحضور والإلهام والفضول، فكل ذلك سيكون له تأثير عميق في بناء قوة الصدفة لديك.

5. تخصيص وقت مخصص لك وحدك:

الصدفة هي عبارة عن عملية؛ إذ إنَّها مناسبة لتحويل الفرصة إلى حظ جيد من خلال جهودك الخاصة، والتي لا تحدث دائماً في لمح البصر. كن صبوراً واعلم أنَّ بعض جهودك يمكن أن تؤدي إلى نتيجة فورية في حين أنَّ بعضها الآخر سيكون مثل زرع البذور؛ إذ ستفاجئك ثمار جهدك في المستقبل، وفي غضون ذلك احترام وقتك كل يوم هو عادة في غاية الأهمية. إنَّ وضع جدول زمني لنفسك وحماية وقتك الخاص، سيتيحان لك المجال لإدارة تركيزك واهتماماتك وطاقاتك الإبداعية.

6. اتِّباع ممارسات الصدف اليومية:

توجد أدوات سهلة يمكن أن تساعدك أكثر على ملاحظة وزيادة واستثمار الصدفة في حياتك اليومية، على سبيل المثال، كلَّما تلتقي بشخص جديد، تحدَّث عن اهتماماتك الحالية وهواياتك ومهنتك، ومن ثم زيادة فرصة أن تجد أنت والشخص الآخر اهتمامات مشتركة؛ وهذا يثير الصدفة. وبالمثل يمكنك أن تتدرب على طرح الأسئلة بطريقة مختلفة، على سبيل المثال، "ما هو أكثر ما يثير اهتمامك في الوقت الراهن؟" بدلاً من "ماذا تفعل؟"، الذي سوف يُعظِّم مرة أخرى فرصة ارتباط المصادفات.

أخيراً، "أعد صياغة" الأخطاء والتحديات والانتكاسات على أنَّها فرص، على سبيل المثال، كنت ألوم نفسي بسبب قرار استثمار كنت قد أخطأت في الحكم عليه، إلَّا أنَّني أدركتُ أنَّ هذه التجربة علمتني الكثير وساعدت على توجيه العديد من قراراتي المستقبلية.

وعلى نحو مماثل، بدأت شركة كنت مشاركاً في تأسيسها بداية مشؤومة عندما بدأت تنفد موارد التمويل في أعقاب الانهيار المالي في عام 2008، ولكنَّ الفريق تمكَّن من تحويل هذا الأمر إلى مصلحتنا، فقد وضعنا خططنا الأولية لإنشاء مؤتمر عالمي ضخم وأطلقنا بدلاً من ذلك نموذجاً يستند إلى محور الشركة، الذي يشتمل على لقاءات مجتمعية صغيرة، وما بدا وكأنَّه "حظ عاثر" في البداية، تحوَّل إلى "حظ جيد" بإعادة صياغة الموقف، الأمر الذي أدى إلى نشوء مجتمع عالمي متماسك.

المصدر: 1




مقالات مرتبطة