كيف تفكر بوضوح؟

في بعض الأحيان، وحينما أتعامل مع موضوعٍ صعب، أتظاهر بأنَّني أحتاج إلى شرحه لطفل، وبصفتي والداً لطفلين صغيرين، فغالباً ما أتخطَّى جزء التظاهر من هذا التمرين. ومع ذلك، فأنا أوصي بتجربته بغضِّ النظر عن وضعكم المنزلي. يمكن أن يكون إقناع شخص بفكرة ما أمراً صعباً، ويتطلب اتخاذ خطوات بتروٍّ. وفي كثيرٍ من الأحيان، وحين أحاول شرح شيءٍ ما بهذه الطريقة، أكتشف أنَّني لا أفهم ذلك بنفسي تماماً.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن المؤلف والخبير التقني "توم شاتفيلد" (Tom Chatfield)، ويُحدِّثنا فيه عن طرائق لتوضيح أفكارنا وتحسين معرفتنا الذاتية لنُصبح متواصلين مع بعضنا بشكلٍ أفضل.

في هذه الأثناء، هناك مُنتدىً فرعيٌّ على موقع "ريدت" (Reddit) مخصَّص لهذا المبدأ على وجه التحديد، ويُسمَّى "اشرح لي وكأنِّي في الخامسة من عمري"؛ إذ يضم عشرات الآلاف من محاولات شرح الأفكار المُعقَّدة بأكبر قدرٍ ممكنٍ من السهولة:

سؤال: كيف يمكن لعلماء الآثار ترجمة المخطوطات أو اللغات القديمة؟ الجواب: "إنَّها في الأساس عبارة عن أحجيةٍ عملاقةٍ من الصور المقطعة". وكيف يمكن لبرامج الاجتماعات مثل "زووم" (Zoom) التعامل مع الكثير من الشاشات المختلفة؟ الجواب: "إنَّ كلَّ شخصٍ لديه اتصال بخوادم "زووم" المركزية". إن كانت الكربوهيدرات عبارة عن سكر، فلماذا لا نستطيع تناول السكر بسهولة؟ الجواب: "إنَّ الأمر سيكون أشبه باستبدال الحطب في مدافئكم بدلوٍ من البنزين"، وهلمَّ جرَّاً.

أنا أستمتع بتصفح منتدى "اشرح لي وكأنِّي في الخامسة من عمري"؛ لأنَّه ليس مهتماً بالكمال إلى حدٍّ ما؛ بل عوضاً عن ذلك، هو مليءٌ بالتعليقات والمناقشات والأعمال الجارية، فضلاً عن وجهات النظر المتضادة، والضحك والسخرية اللاذعة.

يشبه الأمر إلى حدٍّ كبير شرح شيءٍ لطفلٍ يبلغ من العمر خمس سنوات، فالأمر مليءٌ بالمُشتِّتات والطرق المسدودة؛ لكنَّه ملتزم تبديد الأخطاء والافتراضات غير المدروسة بلا هوادة، ناهيك بإعطاء ميزة طرح الأسئلة الصادقة.

وكل هذا يؤكِّد نقطةً أساسيةً وهي توضيح تفكيركم. فهو يطلب منكم الاعتراف بأنَّ أفكاركم غير واضحة في البداية، بمعنى أنَّ بعض العناصر بداخلها تحتاج إلى إعادة التفكير أو وضعها على أسُسٍ أكثر متانة. يبدو الأمر وكأنَّكم تتخلصون من طبقاتٍ من التصوُّر المُسبق، وسوء الفهم، والوعي الكاذب. على ألَّا تكون الجائزة النهائية إثبات صحة آرائكم؛ وإنَّما شعوركم بالرضى نتيجة تحقيق الفهم.

لماذا يجب على أيِّ شخصٍ أن يهتم بأيٍّ من هذا؟ فمن دون مبالغة، كنتُ لأزعم أنَّ السعي إلى الوضوح أمر إنسانيٌّ ويُعزِّز الحياة.

لتحقيق المثالية، يستلزم الأمر السعي المتبادل والمحترم إلى المعرفة، وأن نكون أكثر واقعية؛ فذلك يمكن أن يساعدنا على معرفة أنفسنا بشكلٍ أفضل بقليل، وعلى تبديد التحيُّزات وسوء الفهم، ناهيك بالتواصل بشكلٍ أوفر وأكثر إقناعاً وسط اضطرابات القرن الحادي والعشرين.

يُعَدُّ التطلُّع للوضوح عملية مستمرة لا هوادة فيها أيضاً. وكلَّما انطلقتم لتوضيح تفكيركم، فأنتم لا تهدفون للتعبير عن حقيقة مطلقة؛ بل الاستمرار في عملية ستكون نتيجتها فعَّالةً دائماً كنوعٍ من التواصل التام. وفي هذا الدليل، أريد مساعدتكم على التفكير فيما تبدو عليه هذه العملية بالنسبة إليكم. وكما وعدت، سأفعل ذلك على ثلاث مراحل.

تستلزم المرحلة الأولى التفكير في سبب اعتقادكم بأهمية أو صحة شيءٍ ما. وتستلزم الثانية استثارة الافتراضات التي يعتمد عليها هذا التفكير. وتستلزم المرحلة الأخيرة الاعتراف بما تعلمون وما لا تعلمونه؛ إذ تكونون غير متأكدين وتسعون إلى تصحيح هذه الأمور.

فكِّروا في الأمر مليَّاً:

بدايةً، فلنتوقف للحظة، خذوا نفساً، ثم تمهَّلوا. ما الذي يحدث؟ وما الذي تُفكِّرون وتشعرون به؟ وما هو أكثر ما يستحق انتباهكم؟ هناك جملةٌ رائعةٌ في كتاب "روبرت بوينتون" (Robert Poynton) "توقَّفوا قليلاً" (Do Pause)، الذي يتحدَّث عن أهمية تقييم حياتك بالطريقة الآتية:

يمكنكم ومن خلال التوقف قليلاً التساؤل عن طرائق تصرفاتكم الحالية، أو الحصول على أفكار جديدة، أو تقدير الحياة التي تعيشونها بسهولة؛ فمن دون التوقف لمراقبة أنفسكم، فكيف يُمكن لكم استكشاف الأشياء الأخرى التي قد تفعلونها، أو مَن قد تصبحون؟

تُعَدُّ دعوة الأشخاص للتوقف واحدةً من أسهل النصائح في العالم لتقديمها، والأصعب لتقبُّلها. ومع ذلك فإنِّها أساسيةٌ لتوضيح تفكيركم؛ لأنَّ هذا هو المكان الذي يبدأ منه كلُّ شيء، بلحظةٍ من التأمُّل الذاتي. ومن دون التوقف مؤقتاً، لا يمكن أن تكون هناك أفكارٌ ثانية ولا نقد ذاتي. ولن توجد عملية إلى أن تأخذوا الوقت الكافي للشروع بها.

قد تعتقدون أنَّ هذه النقطة واضحةٌ جداً بحيث لا تستحق الذكر. ومع ذلك، ومن خلال تجربتي، فهي النقطة حيث نفشل معظمنا. كلُّنا نحمل عدداً لا يُحصى من الأفكار والمشاعر المبهمة والمربكة والمتناقضة. وعلى وجه التحديد؛ تبقى كذلك لأنَّنا لا نملك الوقت ولا الأدوات اللازمة لترتيبها.

بمجرد أن تتوقفوا مؤقتاً، يمكن لأحد تمرينات العلاج النفسي الشائعة أن تساعدكم على اتخاذ الخطوة الأولى نحو التفكير بشكلٍ أوضح. ويتعلق الأمر بمراقبة أنفسكم بشكلٍ محايدٍ قدر الإمكان.

أريحوا أنفسكم، واسترخوا، ومن ثم لاحِقوا تدفق أفكاركم ومشاعركم من دون الحكم عليها، بحيث تتلاشى في الوعي ومضات القلق والترقُّب والندم؛ أي الذكريات والأفكار.

تلك هي المواد الخام التي يجب أن تعمل بها أيُّ عملية توضيح أفكار. فكلما كنتم قادرين على استحضارها، زادت احتمالية قيامكم باستخلاص تعقيداتها وتناقضاتها. وقلَّت فرص افتراضكم خطأً أنَّ كلَّ ما يبدو واضحاً لكم سيبدو بالضرورة واضحاً أو مقنعاً بالنسبة إلى شخصٍ آخر.

إقرأ أيضاً: 15 طـريقة لتفكـر بوضوح أكثر

ما الذي ستجنونه من ذلك، ولماذا؟

عندما أقوم بالتمرين المذكور آنفاً، ألاحظ أنَّ ما يدور في ذهني هو سؤالٌ مزعجٌ عما أتناوله. هل يجب أن أصبح نباتياً وحسب، أم نباتياً لأسبابٍ أخلاقية وبيئية؟ وإن لم يكن كذلك، فلِمَ لا؟

في الفلسفة، إنَّ ما يُعرَف بالنموذج القياسي غالباً ما يُستعمَل لتوضيح أساسيات سيلٍ فكريٍّ بأكبر قدرٍ من الوضوح. ومن ثمَّ، فإنَّ التعبير عن تفكيركم بالنموذج القياسي يعني كتابة قائمةٍ مرقمةٍ من العبارات يليها استنتاج. وإذا قمتم بذلك بشكلٍ صحيح، فيجب أن تقدِّم العبارات المرقمة سيلاً من التفكير الذي يُبرِّر استنتاجكم النهائي. على سبيل المثال، إليكم أول محاولة لتنظيم أفكاري حول النظام الغذائي:

  1. إنَّ كلاً من تناول اللحوم واستعمال المنتجات الحيوانية، مرتبط بكميةٍ كبيرةٍ من المعاناة غير الضرورية للحيوانات.
  2. كما أنَّها عملية تستهلك طاقةً ومورداً أكثر من البدائل النباتية معظمها.
  3. من الممكن تماماً اتباع نظامٍ غذائيٍّ صحيٍّ والعيش حياةً كاملةً من دون تناول اللحوم أو استعمال المنتجات الحيوانية معظمها.
  4. لذلك وبقدر الإمكان، يجب أن أمنع معاناة الحيوانات غير الضرورية، والاستعمال المفرط للطاقة، والاستهلاك المفرط للمصادر.

إن كنتُ أعتقد أنَّ كلَّ ما سبق صحيح، فيجب إذاً أن أعتمد نظاماً غذائياً نباتياً.

ربما تكونون قد شاهدتم أمثلةً عن هذه المقاربة من قبل، أو استعملتموها في عملكم الخاص. ولربما قد واجهتم أيضاً قدراً كبيراً من النقاشات عن الصيغ المنطقية والمبررات المعقولة وغير المعقولة، وما إلى ذلك.

لكنَّ ما أجده أكثر فائدة عن النموذج القياسي، ليس الصرامة المنطقية التي يقدمها إليَّ؛ بل القدرة التي يمنحني إياها على تهدئة تفكيري وتحويل العملية إلى خطواتٍ فردية، وطرح أحد السؤالين:

  • لماذا يجب على شخصٍ منطقيٍّ القبول بهذا الادعاء بالذات؟
  • ما الذي ينتج عن هذا الادعاء بمجرَّد قبوله؟

عندما يتعلَّق الأمر بتوضيح أفكاري ومشاعري، فإنَّ قوة نهجٍ كهذا تكمن في دمج أيِّ شيءٍ ذي صلة في تعليله؛ هذا إن تمكَّنتُ من توضيح مدى هذه الصلة. إليكم كيف قد تتناسب بعض الأفكار الأخرى مع المثال الخاص بي:

  1. إنَّ كلاً من تناول اللحوم واستعمال المنتجات الحيوانية، مرتبط بكميةٍ كبيرةٍ من المعاناة غير الضرورية للحيوانات.
  2. كما أنَّها عملية تستهلك طاقةً ومورداً أكثر من البدائل النباتية معظمها.
  3. من الممكن تماماً اتباع نظامٍ غذائيٍّ صحيٍّ والعيش حياةً كاملةً من دون تناول اللحوم أو استعمال المنتجات الحيوانية معظمها.
  4. لذلك وبقدر الإمكان، يجب أن أمنع معاناة الحيوانات غير الضرورية، والاستعمال المفرط للطاقة، والاستهلاك المفرط للمصادر.
  5. إن كنتُ أعتقد أنَّ كلَّ ما سبق صحيح، فيجب إذاً أن أعتمد نظاماً غذائياً نباتياً.
  6. ومع ذلك، فأنا لستُ نباتياً حالياً.
  7. يشير هذا إمَّا إلى أنِّي لا أعتقد صحة الأسباب المذكورة آنفاً، أو أنَّها غير كافية، أو إلى أنَّني أعتقد ذلك، ولكن بطريقةٍ ما، ما أزال أجد أنَّها مقنعة.

إن أردتُ توضيح تفكيري حول هذه المسألة، فأنا أحتاج إلى البحث في الفجوة بين معتقداتي الظاهرة وتصرفاتي.

كيف يمكنكم تطبيق مثل هذا النهج بأنفسكم؟ كما لاحظتم جميعكم، فإنَّ الأفكار التي أضفتها للتو تجلب المزيد من التركيز إلى التعقيدات؛ فهي تأخذ ما كان سابقاً عبارةً عن استنتاجٍ مباشرٍ نسبياً وتُحوِّله إلى أمر معقَّدٍ أكثر.

وبشكلٍ متناقضٍ كفايةً، فإنَّ هذا عنصرٌ حيويٌّ لتوضيح طريقة تفكيركم: التخلُّص من التسهيلات المفرطة، بغضِّ النظر عن مدى جاذبيتها وإقناعها، واستبدالها باعترافٍ صادقٍ بالظروف. لربما بدا منطق حجتي الأولية واضحاً بشكلٍ مثيرٍ للإعجاب؛ غير أنَّ هذا الوضوح لا يتوافق بشكلٍ وثيق مع الواقع كما أرغب. إنَّ الفحص الذاتي الصادق والتكرار أمران حيويان هنا. وحتى الآن، وفي أثناء قراءتي كلماتي مرة ثانية، فأنا لست متأكداً من أنَّني استطعت وصف حالتي الذهنية (أو القضايا المطروحة) وصفاً دقيقاً.

هل صحيحٌ أنَّه لا توجد طريقةٌ أخلاقيةٌ لتناول اللحوم أو استعمال المنتجات الحيوانية؟ وهل هناك لغط في معانٍ أهملتُها في محاولةٍ لإنشاء فئاتٍ واضحة من الصواب والخطأ؟ أم أنَّني أفشل بسهولة في التصرُّف بناءً على معتقداتي بسبب مزيجٍ من الجمود والانغماس في الذات؟

هذه ليست سوى بعض من الأسئلة التي يطرحها السيناريو الخاص بي. وخلفها توجد نقطةٌ أساسية؛ إذ إنَّه فقط من خلال التساؤل المتكرر عن سبب وماهية مزاعمنا، والمزاعم التي تعتمد عليها بدورها، يمكننا أن نأمل بأن نتجرد من العادات والتلبُّك والتبرير الذاتي، التي غالباً ما تُمثِّل أفكارنا اليومية.

إقرأ أيضاً: كيف تطور مهارات التفكير النقدي وتفكر بوضوح؟

ما الذي تعدُّونه بديهياً؟

على أيِّ أساسٍ يمكنني تبرير أيٍّ من الادعاءات؟ سيعتمد بعضهم على الدلائل الخارجية، وبعضهم الآخر على التفضيلات والتجارب الشخصية، وسيعتمد غيرهم على مزيجٍ من هذه العوامل. ولكنَّهم جميعاً سوف يستدعون في مرحلةٍ ما بعض الافتراضات التي أنا على استعدادٍ لقبولها على أنَّها أساسية. وتكمن التوضيحات الأكثر أهميةً في كشف وتحليل هذه الافتراضات.

تُعرَف الافتراضات بأنَّها تلك الأشياء التي نُسلِّم بها؛ أي كل شيءٍ لا نقوله صراحةً، ولكنَّ تفكيرنا يعتمد عليه. في الواقع، إنَّ وجود افتراضاتٍ مشتركةٍ يجعل التواصل (وأشياء كثيرة أخرى) أمراً ممكناً.

في أثناء كتابتي هذه الكلمات، فأنا أفترض بأنَّها تعني لكم تقريباً كما تعني لي. وسيكون الأمر مرهقاً جداً إن حاولتُ شرح كلِّ كلمةٍ بجملة. وسيكون الأمر أيضاً في النهاية بلا جدوى؛ إذ سيكون ما يزال عليَّ شرحُ كلماتي من خلال كلماتٍ أخرى، وأفكاري من خلال أفكارٍ أخرى، وهلمَّ جرَّاً.

لذا، ومن دون بعض الافتراضات المشتركة، لن تكون هناك طريقةٌ لبناء أيٍّ من التفاهمات المشتركة أو الخلافات ذات المغزى. وفي حين أنَّ الفهم المشترك والخلاف الهادف قد يبدوان أضداداً، فهما في الواقع وجهان لعملةٍ واحدة. وقد تحتاج الافتراضات التي تستند إليها أفكارنا، إلى أن نبوح بها للآخرين، بغضِّ النظر عن بديهيتها بالنسبة إلينا.

يمكن لبعض الأشخاص، على سبيل المثال، النظر إلى معاناة الحيوانات على أنَّها ليست قضية، بِعَدِّ خبرة البشر هي كلُّ ما يهمُّ عندما يتعلق الأمر بالأخلاق.

ويمكن أن يعتقد بعضهم أنَّه لا توجد حاجة إلى مزيدٍ من التبرير للنباتية، بخلاف بديهية شر إلحاق المعاناة غير الضرورية للمخلوقات التي تعيش معنا في الكوكب نفسه. وقد يعتقد بعضهم الآخر (وأشمل نفسي بينهم مؤقتاً) أنَّ معظم أشكال الزراعة والصيد الصناعيَّين بغيضة، ولكن هناك بعض الظروف التي بموجبها يمكن أن تكون المنتجات الحيوانية ذات مصدرٍ أخلاقي ومستدام.

بعبارةٍ أخرى، إنَّ افتراضاتنا ليست مجرَّد أفكارٍ غير مدروسة؛ بل هي أيضاً جذور هويتنا وولائنا، وهي مصادر معظم الخير الأعظم والضرر الأعمق الذي يُلحقه أحدنا بالآخر. وإنَّ ما نَعُدُّه "بديهياً" ليس سوى حجر أساسٍ عمَّا نعتقد أنَّ العالم عليه.

ماذا ينتج عن هذا؟ عندما يتعلق الأمر بتوضيح تفكيركم، فهذا يعني أنَّكم بحاجةٍ إلى أن تكونوا واعين جداً بشأن الفرق بين ما ينتج عن افتراضاتكم وحالة تلك الافتراضات. ولفهم الأمور خطوةً بخطوة:

  • يجب أن يبدأ أيُّ سيلٍ فكريٍّ بافتراضاتٍ معيَّنة (تلك الأشياء التي تتقبلونها ضمنياً وعلانيةً على أنَّها بديهية). وبغضِّ النظر عن مدى بحثكم، فلن تتمكنوا أبداً من العثور على ادِّعاءٍ بديهيٍّ وواضحٍ تماماً وغير مثيرٍ للجدل.
  • يمكن لعملية تحليلٍ دقيقةٍ أن تُظهر إلى أين تودي افتراضاتكم، وما الذي سينتج عنها منطقياً، إن افترضتم أنَّها صحيحةٌ ودقيقة.
  • لكن من المُرجَّح أن تأخذكم خطوطٌ مختلفةٌ من التفكير المبنية على مجموعاتٍ مختلفةٍ من الافتراضات، في اتجاهاتٍ مختلفةٍ جداً.
  • إنَّ أحد أكثر الأشياء المفيدة التي يمكنكم القيام بها، هي البوح بكلٍّ من افتراضاتكم وافتراضات الناس الأساسية، ومن ثم مقارنة ما ينتج عن كلٍّ منها.
  • إن كنتم منفتحي الذهن بدرجةٍ كافية، فيمكن لذلك أن يساعد على تحديد الافتراضات التي تشتركون بها مع الآخرين، وتحدِّي الافتراضات المُعيبة لكلِّ جانب، والاختلاف باحترامٍ مع وجهات نظرٍ بديلةٍ عن تلك التي تملكونها.

وبعبارة أخرى، فإنَّ استنباط الآثار المترتبة على افتراضاتكم، لا يشبه أبداً أن تكونوا مُحقِّين بشكلٍ مؤكَّد. كما أنَّ استيعاب الفرق بين هذين الاثنين يكمن في صميم التعبير عن آرائكم بصدقٍ وقناعة.

إقرأ أيضاً: 4 خطوات لإعادة البناء الإدراكي ومساعدتك على التفكير بوضوح

تبنُّوا الحوار، واعرفوا حدودكم:

ما رأيكم في محاولاتي لتوضيح أفكاري حول أكل اللحوم، حتى الآن؟ أنا آمل، حتى وإن كنتم تختلفون مع كلِّ كلمةٍ كتبتها، أن تفهموا إحساسي أكثر ممَّا ستفعلون إن صرخت للتو: "أعتقد أنَّه ربما يجب عليَّ التوقف عن تناول اللحوم"؛ إذ إنَّني أشعر بمزيدٍ من الثقة حول ما يدور في تفكيري.

وهذا يقترح أنَّه وإن انتهى بنا الأمر بمناقشة هذه الأمور شخصياً، فمن المرجَّح أن نكون قادرين على مناقشة خلافاتنا بشكلٍ بنَّاء. ولربما سنكون قادرين على تحديد أين نتفق، وأين نتعارض، ولماذا؛ بدلاً من التراجع بسبب التأكيدات المُشوِّشة. ففي النهاية، قد نتوصَّل معاً إلى تفاهمٍ أجدد وأوضح.

في رأيي، إنَّ أثمن ما في التقديم الواضح للتفكير، بغضِّ النظر عن أيِّ وجهة نظر هو: أنَّه لا يُثبت صوابكم أو نزاهتكم؛ بل يُطوِّع استعدادكم للمشاركة في تبادلٍ منطقيٍّ للأفكار. فمن حيث المبدأ، يشير هذا إلى أنَّكم جاهزون لـ:

  • تبرير موقفكم من خلال الأدلة والتحليل المنطقي.
  • الاستماع لوجهات نظرٍ أخرى غير تلك التي تملكونها، والتعلُّم منها.
  • التقبُّل؛ إذ إنَّكم في مواجهة الأدلة أو الحجج المقنعة بما فيه الكفاية، فقد يكون من المعقول أن تغيِّروا رأيكم.

شاهد بالفيديو: 10 طرق لتفكر بوضوح أكثر 

يعتمد هذا النهج على ما يُعرَف بمبدأ الإحسان:

كلمة قد تبدو غريبةً في سياق الخلافات، لكنَّ ذلك يُجسِّد أحد أدلَّتنا الأقدم والأكثر عمليةً للنقاش البنَّاء. فهي موجودةٌ بصيغٍ مختلفة، وكلُّها متجذرة في الفكرة نفسها: يجب عليكم قدر الإمكان، أن تستخرجوا أقصى قدرٍ من المحتوى الصادق والمنطقي ممَّا يقوله الآخرون، خاصةً إن كانوا يختلفون معكم.

والأهم من ذلك، أنَّ مبدأ الإحسان لا يمتد إلى ماهية ما يقوله الشخص فحسب، ولكن أيضاً إلى افتراضاتكم عن سبب قوله ذلك. فما لم يكن لديكم دليلٌ حاسمٌ يُثبت عكس ذلك، فعليكم البدء بافتراض أنَّ موقف الشخص الآخر منطقيٌّ ويتمسَّك به بإخلاص، بدلاً من افتراض أنَّهم خبيثون أو جهلة أو مخطئون.

لأنَّه وفي كلتا الحالتين، فإنَّ الإجابة ليست لأنَّه شيءٌ جميلٌ يجب فعله؛ بل لأنَّه فقط ومن خلال البدء بالافتراضات المُحسِنة يمكنكم الحصول على فهم أسس منظور الشخص الآخر، والتأكُّد أنَّ أيَّ حُكمٍ تُصدرونه بالنهاية يستند إلى تقييمٍ دقيقٍ ومنصف.

يعيدنا كلُّ هذا إلى أهم نقطةٍ على الإطلاق، التي تقول إنَّ توضيح تفكيركم يعني أن تكونوا صادقين قدر الإمكان مع ما تعرفونه، ومن ثم أن تضعوا تفاعلاً صريحاً مع تلك القيود الموجودة في صميمكم.

في الواقع، لربما تكون الأداة الأكثر أهميةً في أيِّ محاولةٍ للتفكير بوضوح، هي القدرة على اختبار (ومواصلة اختبار وتنقيح) أفكاركم كما لو أنَّها تنتمي إلى شخصٍ آخر.

المصدر: 1




مقالات مرتبطة