كيف أنجح في إيضاح أهميَّة التعليم والتدريب ضمن شركتي؟

في عام 1995، انتشر ضمن بيئات الأعمال العالمية كتاب للمؤلفَيْن "جيمس إن كيلي" و"فرانسيس جاي غولارت" بعنوان: "Transforming the Organization" أو "تحويل المنظمة"، وذلك بوصفه كتاباً شاملاً وعميقاً؛ بحسب مجلة الإيكونومست العالميّة المتخصّصة في عالم الأعمال. إذ يقدّم الكتاب منهجاً متكاملاً في تغيير وتطوير المنظمات، ويكاد يتطابق مع مفهوم "المنظمة المُتَعَلِّمة". ورغم أنَّ المجلة المذكورة أخَذَت عليه صعوبة تطبيق كلّ مراحل التغيير بتلك الصورة المتكاملة والمتداخلة التي يشرحها بكلّ تفاصيلها، إلا أنَّه بقي مرجعاً متكاملاً للتغيير والتطوير.



ويُرَكِّز مؤلِّفا الكِتاب على نوعين من القضايا الواجب معالجتها بطريقةٍ منهجيَّة؛ حتى يتحقق التحويل الإيجابي المطلوب للمنظمة. وقد جرى شرحهما بالتفصيل ضمن الكِتاب، وهما:

  1. قضايا إدارية (لن يتم الخوض فيها هنا لأنَّها ليست مجال هذا المقال).
  2. قضايا تعليمية (سيتم شرحها بإيجاز فيما تَبَقّى من سطور هذا المقال).

ورغم أنَّ النوع الأول قد جرى تصنيفه على أنَّه "قضايا إدارية" -وهو قد يبدو كذلك للوهلة الأولى- إلا أنَّ معالجة الكِتاب لتلك القضايا لامَسَت بقوة القضايا التعليمية؛ لكون النوع الأول سيحتاج بالضرورة إلى الكثير من المعرفة والمهارة والخبرة لدى كلّ مستوى إداري يجري تطويره بهدف تحقيق الاستفادة المَرجُوَّةِ منه. بيد أنَّ القضايا التعليمية هي "تعليمية" بطبيعة الحال، مما يعني أنَّنا سنحتاج إلى التعليم -فعلياً- في كلا النوعين من القضايا.

والأهم من ذلك أنَّنا سنكون مُضطرِّين للاعتراف بأنَّ ذلك التصنيف لا يمكن النظر إليه إلا باعتباره إجراءً نظريّاً يساعد في تسهيل تنفيذ خطوات التحويل الإيجابي.

يمكننا بهذا المنظور فقط، أن نَتَلَمَّسَ مدى أهمية التعليم ضمن المنظمة -بصرف النظر عن ماهيته- في التأثير على مسارها نحو تحقيق أهدافها. وحتَّى لا أُفسِدَ على قارئي الكريم متعة إثبات ذلك واستكشافه، ساُقَدّم فيما يأتي بعضاً من الإجراءات التي يقترحها الكاتبان بدون تصنيفها باعتبارها "إدارية" أم "تعليمية"، وسأكتفي بإعادة ترتيبها وفق التسلسل الذي أثق بأنه يُسَهِّل فهمها وتطبيقها لكلِّ مُهتَمٍّ فيها، وهي:

1. تنمية القيادات الإدارية:

يتوقف نجاح التحوّل على مرونة شخصية المدير العام وطموحه في تبني وتحقيق رؤية المنظمة، واستعداده للخروج على المألوف والتوجه بثبات وحزم نحو التجديد. لذلك فهو يتولّى توجيه وإعداد أفراد الإدارة العليا الذين ينقلون أفكارهم وأحاسيسهم إلى الإدارة الوسطى، والتي تعمل بدورها على كسب تأييد وحماس العاملين.

والآن... تَخَيَّل معي هذا السيناريو:

  • يتحدّث قادة المنظمة بحماسٍ ويقينٍ تامٍ عن رؤيتهم للتحوّل الإيجابي العظيم، وكأنّ إنجازه أمرٌ مُنتَهِ، وأنَّه مجرد قضية وقت لا أكثر.
  • جميع من في مواقع العمل متفائلون ومؤمنون وفرحون بذلك، وقد انتقل إليهم حماس قادتهم بما يكفي ليتحمَّلوا كافة أعباء التغيير المنشود. لذا بدؤوا بتشكيل فرق العمل دون أيَّة مُعَوِّقات، استعداداً للبدء بالتحويل.
  • باشرت الفرق أعمالها بهمَّةٍ عالية ونشاطٍ منقطع النظير... إلى أن تمَّ التحويل.

من الواضح بأنَّ هذا السيناريو لا يعدو كونه مجرَّد أحلام وردية، فالواقع السَّائد يُشير إلى أنَّ هذه العملية سيَشوبُها الكثير من القلق ومقاومة التغيير لدى معظم العاملين؛ كونها تنطوي على اعترافٍ ضمني بالواقع المُتَرَدِّي لمنظمتهم وأدائهم. وكذلك تحتاج إلى الكثير من الوقت والجهد والموارد المادية لكي يتِمَّ إنجازها. ولكنَّ التحويل أمرٌ لا مفرّ منه، حيث من المُفترَض أن يُفضيَ إلى واقع جديد أفضل مما هم عليه الآن؛ مما يجعل تشكيل فريق التحويل مهمّةً محوريّةً لا غنى عنها. ومن الطبيعي أن يتطلَّبَ ذلك قدراً كبيراً من المعرفة والتَّعَلُّم والخبرة، بُغية إنجازه بالشكل الصحيح على جميع المستويات الوظيفية والإدارية.

إقرأ أيضاً: 5 أسباب تفسِّر زيادة إنتاجية فريق العمل الذي يقوده "شخص لطيف"

2. تحديد نقطة ارتكاز للتعلم:

يقصد بالتَّعلُّم ضمن المنظمة: تعديل السلوك إلى ما يتوافق مع قيمها وأهدافها. ما يعني وجود كمٍّ هائل من المواقف والممارسات الجيدة أو الرديئة، ومعرفة أسباب كلٍّ منها في المنظمات؛ وهو ما يمكن اعتباره بمثابة نقطة ارتكاز للتدريب والتعلم.

هنا يأتي دور الخبراء ليستخرجوا منها المعرفة ويجيبوا عن الأسئلة والاستفسارات حول هذه الممارسات، ويسجلوا تلك الإجابات في قاعدة بيانات؛ بحيث يستطيع الجميع الاطلاع على إجابة أي سؤال عند الحاجة إلى ذلك.

يُطلق على هذه العملية اسم "الهندرة الحيوية" (الهندرة هي اختصار لما يُعرَف بـ: "إعادة هندسة العمليات الإدارية" وهي تختلف عن الهندرة التقليدية، حيث تُركِّز على توليد نقاط ارتكاز للتعلّم في كلّ المنظمة ومن خلال جميع أنظمتها، بدلاً من التركيز على عمليةٍ واحدةٍ. كما تحاول معرفة السبب والنتيجة لكلّ سلوك، بدلاً من التركيز على الخطوات فقط؛ وذلك بهدف الوصول إلى المقاييس الإيجابية من خلال القياس المتوازن.

3. بناء فرق التحويل الطبيعية:

تستمد فرق العمل أهميتها من انتقال عدوى الحماس والالتزام بين أفراد المنظمة. وتتولى هذه الفرق مهام حيوية من قبيل: تحليل المشكلات وتشخيصها واقتراح الحلول ومتابعة التطبيق. لذا لابد أن يجري التنسيق والتكامل بين جميع فرق العمل.

4. إعداد الأفراد للدخول في دائرة التغيير:

يجب إقناع الأفراد بضرورة وأهمية تحويل المنظمة وتهيئتهم له نفسياً، وإعدادهم معرفياً ومهارياً. وهذا ليس عملاً سهلاً؛ لأنَّ دخولهم دائرة التَّغيير سيسبب لهم بعض المعاناة. لذلك يجب أن تحرص المنظمة على الاحتفاظ بأفرادها؛ بُغية تقليص احتمالية انفصالهم عنها أثناء عملية التحويل.

5. الالتزام بتنمية الفرد:

انطلاقاً من اعتقاد المنظمة الراسخ بأنَّ القيم التي تُقدِّمها لجمهورها وعملائها في شكل سلعٍ وخدمات، تُمَثِّل في حقيقة الأمر تراكم معرفة ومهارات وخبرات أفرادها؛ تعمل المنظمة الناجحة على تنمية أفرادها بكل الأساليب المتاحة، إدراكاً منها بأنَّ الأصول البشرية هي أهمّ وأعظم أصولها؛ فهي تنمو وتتكيَّف مع ظروف البيئة، وتبتكر وتُجَدِّد. لذا أصبحت وظيفة مدير تنمية الموارد البشرية، تلي في الأهميّة وظيفة مدير عام المنظمة؛ لكون التنمية الحقيقية للأفراد لا تتم إلا من خلال برامج الاختيار والتعيين والتدريب.

6. توفير برامج خاصة لرعاية المتميزين:

تقوم المنظمات الناجحة بتوظيف طاقات أفرادها وتحولهم إلى متميِّزين في مجالات تَفَوُّق محددة تختارها بعناية. وبطبيعة الحال، يتطلَّبُ ذلك خلق مناخٍ تنظيميٍ يشجع على التعلم والمنافسة الإيجابية.

7. تحديد المهارات المطلوبة وتصميم البرامج التعليمية الملائمة لها:

التعلُّم المستمر هنا ليس من أجل تعلُّم أيّ مهاراتٍ تقليديةٍ، وإنَّما من أجل إيجاد مهاراتٍ لا بُدَّ منها لتحقيق أهداف المنظمة في كلّ مفصلٍ من مفاصل عملها. لدرجة أنَّ بعض المنظمات العملاقة وإيماناً منها بضرورة وأهمية تلك المنهجية، قد كَوَّنَت لنفسها شركات استشارية تتخصَّص في دراسة وتطوير الشركة الأم وتحويلها باستمرار إلى الأفضل؛ فشركة موتورولا الأمريكية -مثلاً- أنشأت جامعة خاصة بها، رغم التكاليف الباهظة لمثل ذلك الأمر.

8. الموازنة بين عرض وطلب المهارات:

تلتزم بعض المنظمات -لأسباب أخلاقية أو قانونية، أو كلاهما- بعدم فصل العاملين حتى بلوغهم سن المعاش. مما يُصَعِّب عليها إلغاء بعض الوظائف نتيجة عمليات تحويل المنظمة. لذا تلجأ إلى إعادة التدريب والتأهيل؛ بُغيةَ مواجهة التغييرات السريعة في التكنولوجيا والأسواق، رغم ما قد يتسبب به ذلك من بعض المشكلات النفسية والتنظيمية للأفراد المحَوَّلين. ومن هنا أنشأت شركة (إيه تي آند تي - AT&T) وحدة لموازنة عرض وطلب القوى العاملة داخل وحداتها التنظيمية، لمعالجة الآثار المترتبة على تحويل المنظمة. وراحت تُقَدِّم للأفراد المحوَّلين وظائف مؤقتة أو دائمة؛ بما يساعد على إعادة توزيع القوى العاملة بالشكل اللازم لتحويل المنظمة.

ولم يكتفِ الكِتاب باعتبار أنَّ بناء الفرد المتعلّم ذاتياً شرطٌ لازمٌ للنجاح في التحويل الإيجابي للمنظمة، بما يستلزمه ذلك من تنفيذٍ لبعض الإجراءات؛ وإنَّما أضاف عليه شرطاً مُكَمِّلاً آخر ينطوي أيضاً على بُعد تعليمي يتمَحوَر حول تنمية المنظمة من خلال إجراءات أُخرى تتضمن تصميمها وتنظيمها من خلال شبكات الفرق، وتجاوُز مفهوم الربح إلى المسؤولية المُجتمعية، والتعليم من منظور العالمية؛ وهو ما يعنينا هنا لارتباطه بالموضوع التعليمي، حيث تصاعَدَ مستوى الدور التعليمي للمنظمات إلى أعلى درجات الأهمية الاستراتيجية، فقد أصبحت المنظمات تنظر إلى كلّ حدثٍ أو موقفٍ تنظيميٍّ على أنَّه فرصةٌ تعليميّة.

لذا وفَّرَت الشركات الناجحة الكبيرة المصادر اللازمة لنجاح دورها التعليمي والمصادر التنظيمية والإدارية والبنية التكنولوجية الأساسية. ومن الأمثلة الحيَّة الناجحة على ذلك، مؤسسة "جون براون" التي أنشأت شبكة معلومات مركزية تضم مئة فرع في ثلاثين دولة، وبذلك فقد مَكَّنَتْ كل فرد من آلاف الموظفين العاملين لديها، من الدخول إلى الشبكة والاستفسار عن أيِّ معلومة قد يحتاجُها، وفي أيِّ وقت.

إقرأ أيضاً: تصميم المنظمة: ربط تركيبة المنظمة بأهداف العمل

9. إحداثُ تغييرٍ هرميٍّ تصاعُدِيّ:

بَعدَ أن تَسود ثقافة التعلُّم، يزداد حماس الأفراد عندما يُطلَب منهم البحث عن فرص تحسين الأداء وحلِّ مشكلاتهم بأنفسهم. وقد يحققون إنجازاتٍ مهمَّة كما حدث في شركة رولز رويس الشهيرة، والتي كانت على وشك الإفلاس في عام 1991، والتي عندما تبنَّت نموذج القياس المتوازن على مستوى الإدارة العليا، وأضافت نموذجاً آخر هو (مؤشرات الأداء الرئيسة)، تمكَّنت في غضون سنتين من:

  • تخفيض نقطة التعادل بنسبة 50%.
  • تخفيض دورة إنتاج السيارة بنسبة 70%.
  • زيادة دورة مخزون الإنتاج بنسبة 100%.

فعلى سبيل المثال: انخفضت ساعات تنجيد كرسي السيارة الخلفي من 27 ساعة إلى 9 ساعات. وليس بخافٍ على أحد ما يتطلَّبُه هذا المنهج المتكامل في التحويل من معارف ومهارات وخبرات متنوِّعة ومتكاملة، وكذلك ما سيعود على كافة العاملين من فوائد مادية ومعنوية من جراء تطبيقِه.

وبذلك يخلصُ الكاتِبَان إلى أنَّ أحد الجوانب الهامة للتغيير الإيجابي المنشود، يكمن في ضرورة اتخاذ التعلُّم المستمر في المنظمة منهجيّة دائمة ومتجدِّدة لكلّ العاملين فيها. بل إنَّها اعتبرت أنَّ بناء الفرد المتعلم ذاتياً، شرطاً ضرورياً لنجاحها.

ولتحقيق ذلك الشرط لتحويل المنظمة؛ فإنَّه لابُدَّ من تحسين المهارات والمشاركة، وزيادة الإنتاجية والاندماج وتحقيق الذات. ولا يمكن الوصول إلى ذلك إلا إذا تَوَفَّرَ مناخ تنظيمي يُشَجِّع على التعلم.

والسؤال الجوهري هنا: هل يستحق تطبيق مفهوم "المنظمة المُتَعَلِّمة" دفع هذا الثمن لتحقيق الأهداف الاستراتيجية؟ وإذا كان الجواب نعم، فما متطلَّبات ذلك؟ وكيف سيتم؟

والآن، قد يبدو من البديهي أن نتوقَّعَ موافقة معظم العاملين في المنظمة على تَبَنِّي التحويل المنشود رغم المصاعب والمتاعِب، بيد أنَّ الواقع يشير دائماً إلى وجود مَن لا يرغب أو لا يستطيع قبول ذلك.

وهنا يأتي الدور الحقيقي لقيادة المنظمة في حزمِها وحسمِها لمواقفها تجاه كلّ مَن يُعَرقل -عن قصد أو عن غير قصد- طريق النمو والازدهار.

فإذا كُنتَ قارئي العزيز قائداً لمنظمة، أو صاحب قرارٍ فيها، فما أنتَ بفاعل؟

المراجع:

  1. كتاب "كيف تدير التدريب" - دليلك الشامل في تصميم التدريب وتقديمه لبلوغ الأداء الأفضل، تأليف كارولين نلسن، الإشراف العلمي: المهندس أحمد الخطيب، منشورات الدار القيمة.
  2. كتاب "تحويل المنظمة" - كتب المدير ورجل الأعمال، إصدار الشركة العربية للإعلام العلمي (شعاع)، القاهرة، تأليف: فرنسيس جويلارت وجيمس كيلي.



مقالات مرتبطة