فلسفة الأخلاق: كيف يمكن للمعرفة أن تشكل الأخلاق؟

تُعَدُّ الأخلاق ضرورة مطلقة من ضروريات الحياة؛ فلا يمكن لدولة أن تقوم أو لمجتمع أن يتطور أو حتى ينشأ دون وجود الأخلاق، ولطالما كانت الأخلاق من الثوابت التي يجتمع عليها كل البشر تقريباً، وهي المفهوم الذي صمد في وجه رياح التغيير التي اجتاحت العالم في العقود الأخيرة، وبقيت الأخلاق ثابتة لم تتغير بصفتها حاجة قصوى للعيش الكريم، وما تغيَّر هو النظرة إلى مفهوم الأخلاق وتطور أدوات فهمها، ليس من أجل تغييرها؛ بل من أجل تطبيقها بشكل أصح وأسلم في كافة نواحي الحياة.



لذا سنقدم لكم في هذا المقال لمحة مبسطة عن مفهوم الأخلاق من وجهة نظر الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانط"، ثم نستعرض معاً وجهة نظر علم النفس الحديث المتعلقة بالأخلاق وعلاقتها مع العلم والمعرفة.

"إيمانويل كانط" ومفهوم الأخلاق المناقض للنفعية:

إنَّ مفهوم الفيلسوف الشهير "إيمانويل كانط" عن الأخلاق هو مفهوم مميز وفريد جداً؛ إذ يولي كانط ما يسميه بالإرادة الخيرة الأهمية الكبرى في الفعل الأخلاقي، وبصرف النظر عن العواقب أو النتائج التي تترتب على هذه الأخلاق - طبعاً مع التأكيد على عدم استغلال الفضائل في الأعمال الشريرة - وذلك لأنَّ الإنسان لا يستطيع أن يسيطر على النتائج أو يكون لديه معرفة تامة بها.

هنا يناقض "كانط" تماماً المذهب النفعي في الأخلاق أو ما يسمى بأخلاق النتائج، والذي يعتقد بضرورة أن يكون هذا السلوك مفيداً لعدد كبير من البشر حتى يكون سلوكاً أخلاقياً؛ إذ يفترض "كانط" أنَّ الأفعال الأخلاقية ليست هي الأفعال التي تنتج أكبر سعادة أو أعظم منفعة أو أعمق لذة؛ وإنَّما الأساس في الإرادة الخيرة التي تحرك الفعل وتقوده، وليس في النتائج أو المخرجات الخيرة للفعل.

هل يمكن أن تكون الأخلاق مناقضة لإرادتنا الذاتية؟

من وجهة نظر "كانط" فإنَّنا عندما نقوم بأفعال تناقض أو تخالف إرادتنا الذاتية، فإنَّنا نقوم باختبار حقيقي لإرادتنا الأخلاقية، فيجب أن يكون الدافع وراء الفعل الأخلاقي هو الحس بالواجب الأخلاقي، وهو من جهة أخرى، ابتعاد عن كل أشكال الأخلاق التي تقوم على مبدأ المنفعة أو اللذة؛ لأنَّ الأخلاق يجب أن تكون قيمة عليا نسعى إليها دون مقابل، ولمَّا كان الفعل يتحرك وفق غاية الحصول على مكسب سواء أكان مادياً أم معنوياً، فإنَّه يخرج عن تعريف الأخلاق بشكل كامل، ويصبح نوعاً من المصلحة، وهو ما يناقض القيمة العليا للأخلاق بوصفها أفعالاً دون أي مقابل.

كيف يمكن للأخلاق أن تتشكل وتنتشر؟

يجب على الإنسان ألا يقوم بأي فعل لا يتفق مع القيم والمبادئ التي يريدها أن تكون قوانين عامة للحياة والطبيعة؛ بل يجب عليه أن يتصرف وفق القاعدة الأخلاقية أو السلوكية التي يتبعها فقط، على أن تشكل في البداية قاعدة وحيدة لكل أفعالنا أو تصرفاتنا، ثم تصبح قاعدة يتبعها من حولنا في سلوكاتهم، إلى أن يأتي الوقت المناسب لكي تصبح قانوناً للحياة والمجتمع.

ربما بدا هذا الكلام ساذجاً، لكن لو فكرنا لبعض الوقت فيه لوجدناه منطقياً وعقلانياً؛ فإنَّ كل ما نتبعه اليوم من قيم أو مثل أو مبادئ أخلاقية قد مرَّت بالمراحل نفسها؛ إذ بدأت بوصفها تصرفات فردية حافظ عليها أصحابها وعلى قواعدها السلوكية الأخلاقية، ومع مرور الوقت انتشرت لتشكيل ثقافة مجتمعية شاملة، ومن بعدها قوانين أخلاقية للحياة العامة.

كيف يرى "كانط" حادثة الانتحار وفق قواعده الأخلاقية؟

في حال أراد شخص ما أن يُقدِم على الانتحار، ونفَّذ ما يريده وانتحر، فإنَّ فعله في هذه الحالة وحسب رأي "إيمانويل كانط" هو فعل خاطئ بشكل كامل؛ لأنَّ هذا الفعل لا يمكن أن يصبح قانوناً عاماً، فلو أصبح كذلك وصار الناس يسلكون الانتحار وانتحر الجميع، فإنَّه - وفق "كانط" - لن يبقى أحد لأجل تنفيذ هذا القانون أو اتباعه، وهكذا لأنَّ الانتحار لا يمكن أن يصبح قانوناً كلياً، فإنَّه من غير الممكن أن يكون فعلاً أخلاقياً.

طبعاً نحن هنا نتناول الانتحار بصفته مثالاً لا أكثر، فمن وجهة نظر علماء النفس الحديث، لا يمكن تصنيف الانتحار على أنَّه أمر أخلاقي أو غير أخلاقي؛ بل هذا التصنيف هو آفة فكرية حقيقية، فإنَّ من يُقدِم على الانتحار، يكون في أغلب الحالات إنساناً يعاني من اضطراب نفسي؛ أي إنَّه بحاجة إلى تدخل طبي ومساعدة طبية حقيقية مثله مثل أي مريض آخر.

إنَّ أول خطوة هي منعه من الانتحار بأيَّة طريقة، ولا يجب بتاتاً التطرق إلى الموضوع الديني أو الأخلاقي؛ لأنَّ موضوع الانتحار ليس بإرادة الإنسان عندما يكون اضطراباً نفسياً هذا أولاً، أما ثانياً فهو بالأصل يعاني من صراعات أخلاقية وعقائدية؛ لذا فنحن بذلك نزيد الطين بلة ولا نساهم أبداً في حل المشكلة؛ لذا يجب على الإنسان أن يعامِل كل كائن بشري وانطلاقاً من ذاته بصفته غاية وقيمة عليا بحد ذاتها، والابتعاد كل البعد عن معاملة الآخر على أنَّه مجرد وسيلة أو أداة أو مطية نركب عليها من أجل الوصول إلى غاياتنا الشخصية.

كما يجب على الفرد احترام الآخر؛ وذلك دون محاباة، فلا يغرك من يكثر من كلمات الحب والمديح، فهي نماذج جاهزة يقولها لمن يريد، ويكفي إبداء الاحترام؛ لأنَّ هذه المحاباة قد تكون في بعض الحالات وسيلة لاستغلال الشخص أو الحصول على مكاسب معينة.

شاهد: كيف أحمي نفسي من الانحراف الأخلاقي؟

ما هي علاقة المعرفة بالأخلاق وفق علم النفس الحديث؟

يقول خبراء علم النفس إنَّ الأخلاق بمفهومها العادي والبسيط الذي يتضمن فعل الخير للناس والامتناع عن الأذى، من غير الممكن أن يمتلكها الإنسان ويطبقها في الحياة العملية بشكل سليم ومناسب دون أن يمتلك المعرفة؛ فالإنسان عبارة عن بيئة معقدة من المشاعر والعواطف والأفكار والمعتقدات المتداخلة مع بعضها، والتي تتطلب قدراً من المعرفة والوعي من أجل تفريقها عن بعضها بعضاً؛ فعلى سبيل المثال، لا يستطيع كل الناس فهم أنَّ ما يعتقدونه قد يختلف بشكل أو بآخر عن الواقع، وأنَّ ما يشعرون به ليس بالضرورة أن يكون واقعياً أو منطقياً.

من هنا ينطلق خبراء علم النفس بأنَّ الإنسان الذي لا يمتلك المعرفة الكافية لفهم عواطفه أو مشاعره، فهو لن يكون قادراً على القيام بتعامل سليم ومنطقي مع الناس من حوله أو مع الأحداث المحيطة به، وستسيطر عليه مشاعره وعواطفه وسيتعامل معها على أنَّها حقائق مطلقة، وليست مجرد مشاعر أو وجهة نظر على الأقل.

هل الأشخاص الذين يمتلكون العلم والمعرفة هم أشخاص أخلاقيون أكثر من غيرهم؟

في بداية الإجابة عن هذا السؤال الهام، يجب أن نوضح مفهوم الشخص المتعلم أو الذي يمتلك العلم أو درجات علمية، فغالباً هناك لغط بين عامة الناس بين مفهومي المتعلم والمثقف؛ فالإنسان المتعلم هو الذي أتم دراسته الجامعية على سبيل المثال وأكمل علمه وحصل على درجات علمية في مجاله، قد يكون الطب أو العلوم الطبيعية أو الرياضيات وما إلى ذلك من التخصصات المختلفة.

أما الشخص المثقف، فهو الإنسان الذي يمتلك قدراً معيناً من الوعي الذي يدفعه إلى أن يقرأ ويأخذ معلومات في مجالات عدة، ومن مصادر متعددة ومفتوحة، وليس بالضرورة أن يكون قارئاً؛ بل يمكن للسفر على سبيل المثال أو خوض تجارب جديدة ومتعددة أن تُكسِب الإنسان نوعاً من الثقافة والانفتاح على الآخر انطلاقاً من فهم ذاته، ومن هنا، من الممكن أن يكون الإنسان المتعلم - وفق تعبيرنا السابق - شخصاً أخلاقياً أو لا، أما المثقف فهو في أغلب الأحيان إنسان أخلاقي.

إقرأ أيضاً: ما هي فلسفة السعادة البسيطة عند أبيقور؟

كيف يمكن أن يكون الإنسان المثقف لا أخلاقياً؟

يمكن أن يصف الناس البسطاء الإنسان المثقف على أنَّه غريب الأطوار أو مراوغ أو حتى يمكن أن يصفوه بالخيانة للإجماع والقانون والرأي السائد، والفكرة هنا تحتاج إلى وقفة بسيطة للشرح؛ فإنَّ المثقف وبحكم مراكمته للخبرات والتجارب والاستفادة منها، تولَّد لديه مستوى عالٍ من دقة الملاحظة والوعي والفهم والاستنتاج والغوص في تفاصيل ودقائق الأمور التي قد لا يكون البسطاء قادرين على فهمها أو ملاحظتها؛ لذلك فإنَّ المثقف قد يكون - ونلاحظ ذلك في حالات عدة - منبوذاً من قِبل مجتمعه وموصوفاً بصفات لا أخلاقية.

هنا من الممكن أن يكون المثقف لا أخلاقياً وفق الجهة التي ترى ذلك، ولكنَّه - من وجهة نظر الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانط" - شخص أخلاقي؛ وذلك لأنَّه يرى في تغيير العادات والتقاليد والنظام العام السائد، وسيلة لتحسين حياة الناس وحل مشكلاتهم، ومن ثمَّ فهو قد امتلك - وفق "كانط" - الإرادة الأخلاقية أو النية الأخلاقية السليمة، بصرف النظر عن بقية العوامل المحيطة.

إقرأ أيضاً: 8 طرق لتعليم أطفالك الأخلاق الحسنة

في الختام:

إنَّ كل ما طرحناه في هذا المقال، هو مجرد وجهات نظر، وليست حقائق مطلقة، ونود أن نختم مقالنا بما يمكن وصفه بزبدة الحديث، بأنَّ المستقبل هو للعلم والمعرفة فقط، فالعلم لا يشكل فقط الأخلاق والوعي؛ بل هو مصدر القوة والاتزان، على صعيد الفرد والمجتمعات والدول، فمن خلال تعليم الإنسان وتربيته وتثقيفه بطريقة صحيحة سنحصل على إنسان متوازن يعرف ما يريد وما لا يريد، ويميز بين الواقع وبين إدراكه لهذا الواقع، فالأخير هو جزء من الأول ولا يمكن أن يكون كله، ومن ثمَّ نحصل على إنسان أخلاقي يعرف ما له وما عليه، وينطلق بحب ومعرفة وتوازن لعمار الأرض.

المصادر: 1،2




مقالات مرتبطة