عندما تؤثر الصدمة في الجسد

تخيَّل لو أنَّ صوت الخطوات جعلك تشعر بالخوف على حياتك. إنَّه شعور عانت منه الكاتبة "كارين ستيفانو" (Karen Stefano) لأكثر من 30 عاماً.



قالت "ستيفانو": "عندما أخرج لأمارس رياضة الجري، أكون متيقظة جداً لأي شخص يركض خلفي وأسمع صوت الأقدام وهي تخبط على الأرض، وفي بعض الأحيان، أشعر بالرضى عن نفسي لأنَّني قادرة على التعايش مع الوضع، ولكن بعد ذلك أتأمل في بعض الأحداث التي تعرَّضتُ لها، وأقول لنفسي لن أخبر أحداً بما حدث لي على الإطلاق، ولم أتجاوز ذلك الأمر".

ليست كل خطوات الأقدام تثير نوبة ذعر، لكنَّ "ستيفانو" لا تعرف أبداً متى ينتابها الخوف؛ إذ تتذكر حدثاً حصل معها قبل بضع سنوات، عندما كانت تمشي في الشارع في صباح يوم مشمس في "سان دييغو" (San Diego)؛ إذ كانت "سان دييغو" منطقة آمنة، وكان هناك الكثير من الناس يتجولون، لكن عندما سمعت "ستيفانو" صوت رجل يركض خلفها، تملَّكها الخوف.

"درتُ حوله وكدتُ أصرخ في وجه الرجل المسكين، وقالت: "لقد تعرَّض للإهانة واعتذر بشدة مع أنَّه لم يرتكب أي خطأ على الإطلاق".

تستكشف "ستيفانو" مصدر خوفها في كتابها "ما يتذكره الجسد: مذكرات عن الاعتداء الجنسي وعواقبه" What a Body Remembers: A Memoir of Sexual Assault and Its Aftermath

كانت "ستيفانو" تبلغ من العمر 19 عاماً في صيف عام 1984، وكانت طالبة في السنة الثانية في "جامعة كاليفورنيا-بيركلي" (UC-Berkeley)؛ فذات ليلة، عندما كانت تسير إلى شقتها خارج الحرم الجامعي، سمعَت خطوات رجل ترك أثراً في حياتها.

كانت في طريقها إلى مبنى شقتها قبل حلول منتصف الليل بقليل، رأت "ستيفانو" الرجل في الشارع، ففي البداية، تجاهلَت وجوده - ربما كان مجرد طالب خريج - ولكن عندما سمعت أنَّه غيَّر خطوات مساره وتتبَّعها في المبنى، استشعرت القلق، وبعد لحظات قليلة، التقت عينا الرجل الزرقاوان بعينيها واتضحت دوافعه، وقالت "ستيفانو": "علم جسدي نواياه".

حاصر الرجل "ستيفانو" في القاعة التي تشبه النفق والتي أدت إلى شقتها، وكشف عن سكين، وأمسك بجسدها البالغ وزنه 110 أرطال بإحكام من الخلف، وأمسك السكين بإحدى يديه وغطى فمها باليد الأخرى. شعرت "ستيفانو" بالصدمة في البداية؛ لكنَّها بدأت بالصراخ بعد ذلك، وقد حاول المعتدي إسكاتها؛ لكنَّ صراخها ازداد ضراوة، وعندما سمع المعتدي صوت الجيران وهم يفتحون أبوابهم إلى الردهة، أطلق سراحها؛ عندها سقطت على الأرض بينما كانت خطواته تسير في الليل.

علامة العار:

تعرَّضَت "ستيفانو" لأذى جسدي صغير - مجرد كدمة منتفخة على شفتيها حيث أمسك المعتدي بفمها - ولكن حتى اليوم، ما تزال آثار الحادثة كالندبة التي ترفض الشفاء، وتقول إنَّ أسوأ جزء هو العار الذي يصاحبها.

تقول "ستيفانو": "بالعودة إلى عام 1984، لم يكن اضطراب ما بعد الصدمة مصطلحاً معروفاً، لقد كان للتو يدخل في المعجم. بالتأكيد لم أكن أعرف أنَّ هناك اسماً لما كنتُ أعاني منه، وأنا لم أتغلب على ذلك، فلقد أنكرتُ ما كنت أعاني منه من خلال استعمال التعبير الآتي: "أنا بخير".

جزء مما يولِّد الشعور بالعار بالنسبة إلى الضحية بعد الصدمة هو فقدان الشعور بالسيطرة؛ فأولاً، تجد نفسك تحت رحمة ظروف الضغط الشديد، بعد ذلك، يبدو أنَّ مقياس الذعر لديك يتحكم بك، وبعد أيام أو أسابيع أو حتى سنوات، عندما يكون واضحاً وضوحاً موضوعياً أنَّه لا يوجد خطر يلوح في الأفق، قد يظل جسمك يتصرف كما لو كان هناك تهديد آخر على وشك الحدوث.

إنَّك تحاول أن تقنع نفسك بأنَّ كل شيء على ما يرام؛ لكنَّ جسدك ما يزال عالقاً في حالة تأهب قصوى. قالت "ستيفانو": "هناك ضغط مجتمعي لإبراز صورة تبيِّن أنَّ كل شيءٍ على ما يرام؛ لكنَّك لا تتجاوز الأمر للدرجة التي تريدها".

لماذا يبقى الخوف مسيطراً علينا بعد مرور فترة طويلة على انتهاء الحدث الصادم؟ وفقاً لـ "إريكا هورنثال" (Erica Hornthal)، المستشارة الطبية والمعالجة الحركية الحاصلة على البورد والمتخصصة في اضطراب ما بعد الصدمة، فإنَّ جسدك لا يعمل ضدك؛ بل إنَّه يحاول فقط حمايتك.

قالت "هورنثال": "القضية في أساسها مرتبطة بالأمان؛ فهذه هي آلية النجاة الموجودة لدينا منذ بداية الزمان، وإنَّه الجزء الأساسي جداً منا الذي ننسى أنَّه موجود في بعض الأحيان، ولكنَّ هذا هو الجزء الذي يحاول حقاً الحفاظ على سلامتنا".

تصف "هورنثال" نوبة الذعر على أنَّها نوع من استرجاع الذكريات، تغرقك في الماضي لتعيش مرة أخرى مشاعر الحدث الصادم، حتى عندما لا تشكل بيئتك أي تهديد حقيقي.

توضِّح "هورنثال" أنَّ الذكريات لا تتكون بالطريقة نفسها في الصدمات كما هي عندما لا نكون تحت الضغط؛ لذلك عندما نواجه محفزاً يشبه الحدث الصادم - مثل خطوات الأقدام على سبيل المثال - يمكن أن تعود مشاعر المقاومة أو الهرب نفسها، تقول "هورنثال": "لا يعرف الجسد أنَّ كل شيءٍ على ما يُرام؛ بل إنَّه فقط يستجيب للحافز".

إقرأ أيضاً: لماذا يمكن أن يكون نمو ما بعد الصدمة أساس ازدهارك في عام 2021؟

التحدث عن مشاعر الألم التي تنتابنا:

توضِّح "هورنثال" أنَّه عندما يفقد ضحايا الصدمات كثيراً من السيطرة، فإنَّهم يلومون أنفسهم غالباً بوصف اللوم وسيلة لاستعادة بعض السيطرة، ومع ذلك، فإنَّ هذا لا يؤدي إلا إلى الشعور بمزيدٍ من العار، وتقول: "يمكننا استيعاب ذلك، وجعل أنفسنا نشعر كما لو أنَّنا تسبَّبنا في حدوثه، وسنبرر أنَّه كان خطأنا بقول عبارات مثل: "لو كنتُ قد فعلت هذا أو لم أفعل ذلك".

وفقاً لـ "ستيفانو" لا يمكننا مواجهة هذا العار إلا من خلال التحدث عن تلك المشاعر؛ إذ قالت: "بالتحدُّث عما حصل، فإنَّك تزيل العار عنك، فكبت الأسرار أمرٌ لا يساعدك على الشفاء؛ بل إنَّ الشفاء يتمثل فقط من خلال تسليط بعض الضوء على مشكلاتنا، ومن ثَمَّ يمكننا التخلص منها، ويمكننا جعلها أكثر قابلية للإدارة، ثم يمكننا مساعدة الآخرين".

لكنَّ القدرة على التعامل مع هذه المشاعر والتحدث عنها قد يستغرق الحياة كاملةً، خاصة إذا لم تكن لديك المهارات أو الدعم اللازم عندما تتعرض للصدمة لأول مرة.

تقول "ستيفانو" إنَّ ذعرها رافقها طوال حياتها مع ما رافق ذلك من غموضٍ مرتبطٍ بالتوقيت؛ إذ إنَّ الذعر تلاشى ببطء بعد سنوات قليلة من الحادثة، ويبدو أنَّه اختفى تماماً خلال السنوات التي عملَت فيها محامية في مجال الدفاع الجنائي، وخلال ذلك الوقت، مثَّلت العديد من الأفراد الذين يمارسون العنف، بعضهم ارتكب اعتداءات جنسية مماثلة لتلك التي تعرَّضت لها.

تؤكِّد "ستيفانو" أنَّها لم تشعر بأي ذعر؛ بل بالشفقة فقط، وتقول: "إنَّها مفارقة، لكنَّني أردت أن أطوِّر مشاعر التعاطف تجاه هؤلاء البشر الذين يعانون من عيوب شديدة؛ فقد كنت صادقة مع الله أنَّني الشخص الوحيد على وجه الأرض الذي يقاتل من أجلهم، فلم يكن للعديد منهم عائلة، ولم يكن بحوزتهم المال، ولم تكن لديهم أيَّة فرصة؛ فلقد تعرَّضوا لأضرار نفسية شديدة، وكان الادعاء يسعى إلى إصدار حكمٍ بإعدامهم".

عاد ذعر "ستيفانو" قبل نحو خمس سنوات، عندما كانت تعاني من صدمات عدة جديدة، مثل مشكلات مالية وطلاق مدمِّر وإصابة والدتها بالخرف، فخلال هذا الوقت، عادت الذكريات القديمة ونوبات الذعر المتعلقة بالاعتداء عليها في أثناء دراستها الجامعية؛ لكنَّ الاختلاف كان هو أنَّها اكتسبت الآن الحكمة والمنظور والمعرفة التي كانت تفتقر إليها عندما كانت في 19 من عمرها.

قالت: "كان ذلك عندما بدأت في الواقع بالقيام ببعض آليات التأقلم المفيدة، مثل الذهاب إلى الطبيب لتلقِّي العلاج".

ترى "هورنثال" نمطاً مشابهاً في مرضاها، وتظن أنَّه حتى أولئك الذين يعتقدون أنَّهم تعاملوا مع تجربتهم واجتازوها بنجاح، غالباً ما يُجبرون على مواجهة هذه المشاعر مرة أخرى.

تقول: "سيقولون: اعتقدت أنَّني عالجت هذا الأمر، لكن لماذا يعود مرة أخرى؟ ذلك لأنَّ جزءاً من دماغك ما يزال يخزنه، وكما رأينا مع حملة "أنا أيضاً" (Me Too) التي شهدَتها المنصات الإلكترونية مؤخراً، يأتي الناس بعد 15 أو 20 عاماً للتحدُّث عن قصصهم، وغالباً ما يكون ذلك بسبب عدم قدرتهم على التحدث عنها حتى ذلك الحين".

شاهد بالفديو: 8 تقنيات للتخلص من الضغط اليومي بسرعة

الاستماع إلى الألم:

بالإضافة إلى التحدث مع المعالج، وجدت "ستيفانو" الراحة أيضاً من خلال الجري، وإزالة حساسية حركة العين وإعادة المعالجة (EMDR)، التي تُعَدُّ من الطرائق المُجرَّبة للتعافي من الصدمات التي تتضمن حركات جانبية للعين. عادة نفكر في التحدث عن الأمر على أنَّه الوضع الأساسي لمعالجة التجربة التي نمرُّ بها، لكنَّ الحركة قد تكون جزءاً هاماً من اللغز؛ إذ يقول الخبراء إنَّ الجسم يحتاج أيضاً إلى وسيلة للتعبير عن قصته الخاصة حتى نتمكَّن من التقدم حقاً.

تعتقد "هورنثال" بصفتها معالجة للحركة أنَّ التعامل مع الجسم المادي أمرٌ ضروري للتعافي من الصدمات، وتؤكد أنَّ الحركة هي التي تسمح للمشاعر العالقة بالظهور مرة أخرى حتى نتمكن من التعبير عنها بالكلمات.

قالت: "هذا هو ما يتطلبه الأمر للتخلص من تلك المشاعر المحبوسة داخلنا، ولكي نعيد برمجة الدماغ وترتيبه وتغييره؛ إذ إنَّ الحركة هي اللغة الأولى التي نتعلمها، ومع تقدُّمنا ​​في السن، عادةً ما يتولى دماغنا الأعلى المسؤولية، ويمكننا أن نبدأ بتفسير شعورنا شعوراً معيناً، فنحن لا نستمع بالضرورة لأجسادنا كما كنا نفعل من قبل".

بالإضافة إلى تحريك أجسادنا بطرائق عدة للتخلص من الصدمة، نحتاج أيضاً إلى أن نكون منفتحين على ما يقوله جسمنا بمجرد ظهور المشاعر، ويميل معظمنا إلى تجاهل الإشارات التي يرسلها جسدنا لنا؛ لكنَّ الأمر صعب، خاصة عندما يكون مرتبطاً بالصدمة؛ ذلك لأنَّ الرسائل التي يجب على أجسادنا إيصالها في هذه الحالات يمكن أن تكون مؤلمة للغاية.

قالت "هورنثال": "إنَّ الأمر يتعلق بتحديد تلك المشاعر، وعندما تتعامل مع الصدمات والأشخاص الذين عانوا من ألم شديد، فإنَّ الكثير منها يكون مؤلماً؛ فالشعور بتحسن يؤدي إلى نتائج عكسية؛ إذ يتساءل المرء لماذا أريد أن أبقى في حالة اليأس هذه؟ أنا فقط أريد أن أشعر أنَّني بحالة جيدة".

إنَّها بالتأكيد ليست ممتعة؛ لكنَّها ضرورية؛ ذلك لأنَّه ما لم نأخذ الوقت الكافي كي نكون في حالة من عدم الراحة والاعتراف بالألم الذي نشعر به، فسيظل يطاردنا.

ترى "ستيفانو" أنَّ الديناميكية نفسها تؤدي دورها في صدمتها الأخيرة، ألا وهي وفاة والدتها، فقد توفيت قبل بضعة أشهر فقط، وتوضِّح "ستيفانو" أنَّها تشاهد نفسها وهي تقوم بالإنكار نفسه الذي قامت به عندما كانت في 19 من عمرها، وتؤكد أنَّها ما تزال تجد نفسها تتجنب الشعور بالألم.

قالت "ستيفانو": "أعتقد أنَّ عقولنا ستفعل أي شيء لمعالجة الشعور بالألم وتجنُّبه، ولكن إذا استمر عقلك في تجاهل تلك المشاعر لأنَّك لا تريد أن تشعر بالألم، فإنَّ جسدك سيجعلك تتعامل مع هذا الأمر بطريقة أو بأخرى، وتقول أيضاً: "يمكننا القيام بذلك بسهولة، أو يمكننا القيام به بصعوبة".

المصدر




مقالات مرتبطة