عقدة الإهمال: مفهومها وأشكالها وطرق علاجها

يحتاج جسم الإنسان ليبقى على قيد الحياة إلى العديد من العناصر الغذائية مثل البروتينات التي تساهم في النمو والكربوهيدرات التي تغذِّي الجسم وتحميه من الأمراض والفيتامينات والمعادن التي تساعده على محاربة الأمراض، أما الماء فقد جعل الله منه كل شيء حياً وليس جسم الإنسان فقط، فإنَّ توفر كل ما ذكرنا آنفاً بكميات كافية يضمن تمتُّع الإنسان بصحة جسدية جيدة، لكن هل هذا يكفي لنعيش حياة سعيدة ومستقرة؟



بالطبع لا؛ وذلك لأنَّه من الصعب أن يعيش الإنسان بسعادة واستقرار إن لم يتمتع بصحة نفسية جيدة أيضاً، فسعادة الإنسان تكون بحصوله على الحب من المحيطين به والاهتمام أيضاً، فذلك ما يساعده على التغلب على مصاعب الحياة مهما كثرت والنهوض بعد النكسات والخيبات التي لا بد من التعرض لها في الحياة، فدون الحب ينشأ الإنسان وحيداً حتى إن كانت عائلته تحيط به وينعكس ذلك سلباً على مختلف جوانب حياته.

كثيراً ما نصادف في حياتنا أشخاصاً يعانون من فقدان الحب، فنجدهم شخصيات ضعيفة ومهزوزة نفسياً ترمي بهم الحياة يميناً ويساراً ليبقوا وحيدين في النهاية، فمن السبب في ذلك؟ وهل البيئة المحيطة لم تقدم لهم الحب أم أنَّهم لم يكتفوا بكمية الحب المقدمة لهم؟

الشعور بنقص الحب والاحتياج الدائم إليه ليس بالضرورة نتيجة عدم حب الآخرين لك؛ إنَّما قد تكون أنت السبب في عيش تلك المشاعر، وهذا ما نسميه عقدة الإهمال، وفي مقالنا الحالي سنشرح لك مفهومها وأشكالها وكيفية التخلص منها.

مفهوم عقدة الإهمال:

تسمى أيضاً بعقدة الحرمان العاطفي، وهي شعور الفرد المستمر بعدم وجود أشخاص يحبونه ويهتمون لأمره ويتمسكون به خوفاً من خسارته، وهذا يجعله يراقب الإشارات التي تصدر عن الآخرين حتى البسيطة منها، فهو في احتياج مستمر للحب والاهتمام أيضاً؛ أي إنَّه يعاني من شراهة عاطفية من الصعب تعويضها وحاجة ملحة للحب لا يمكن قضاؤها، وهذا يتسبب بشعوره بالخوف الدائم من عدم الحصول على هذا الحب، فنجده في بحث مستمر عن علاقة عاطفية ترضيه مع التفكير المتواصل في كل ما يصدر عن الشريك من كلمات أو تصرفات رغبةً منه في التأكد من وفاء وإخلاص شريكه له.

قد يتطور الأمر لاحقاً إلى استجواب الشريك أو مراقبته، إضافة إلى الشعور بالحزن وخيبة الأمل عندما يقوم الشريك بتصرف لم ينل إعجابه مهما كان بسيطاً، مثل توجيه انتقاد له أو انشغاله عنه لبعض الوقت أو عدم تلبية دعوته لتناول الغداء بسبب عمله الكثير، وعلى الرغم من حصوله على مبررات منطقية لبعض التصرفات إلا أنَّها لا تمنع المُهمَل من الغرق في الحزن والوحدة ولا تمنع الأفكار السيئة من السيطرة عليه، كأن يفكر في أنَّ الشريك سعيد دونه أو أنَّه يخونه.

كما نلاحظ أنَّه يردد باستمرار بعض العبارات مثل: "لا تحبني"، "لا تريدني"، "سوف تتخلى عني"، "لا أحد يهتم لأمري"، "أنت تهملني" وغيرها من العبارات التي تُظهر الأفكار التي تدور في مخيلته والتي تجعل الشريك العاطفي يسأم منه في الكثير من الأحيان لينتهي الأمر بتركه فعلاً، فتزداد خيباته خيبة جديدة وتصبح حالته النفسية أسوأ مما سبق.

ما هي أسباب عقدة الإهمال؟

افتقار الإنسان إلى الحب والاهتمام والأمان في حياته سابقاً هو السبب الرئيس وراء عقدة الإهمال تلك، لكن ليس حب الناس المحيطين جميعهم؛ إنَّما حب الأب والأم وعلى وجه الخصوص الأم؛ إذ إنَّ الفترة التي تكون العلاقة الوحيدة في حياة الإنسان هي علاقته بأمه فقط - أي بعد الولادة وحتى عمر السنتين - هي الفترة التي تترك التأثير الكبير فيه طيلة حياته؛ وذلك لأنَّ الصحة النفسية للطفل الرضيع تؤدي دوراً أساسياً في تنشئته على أسس نفسية سليمة.

على الرغم من اعتقاد بعض الناس بأنَّ الرضيع لا يشعر بما يدور في محيطه، إلا أنَّ هذا الاعتقاد خاطئ، فهو يولَد وأجهزة جسمه على أتم الاستعداد للتفاعل مع البيئة المحيطة، لذلك ينتبه الرضيع إلى كل التفاصيل التي تدور حوله، كما أنَّ رحلته في التعرُّف إلى أمه قد بدأت منذ أن كان جنيناً في رحمها، فهو يولَد قادراً على تمييز صوتها وبعد الولادة يصبح قادراً على تمييز رائحتها عن رائحة أي شخص آخر.

لقد أكدت الكثير من الأبحاث أنَّ الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 3 سنوات ممن لم تربطهم روابط قوية مع والدهم أو والدتهم هم الأكثر معاناة لاحقاً من ضعف الشخصية وعدم الأمان، ولأنَّ الارتباط بالأم يغذي الاحتياجات العاطفية للطفل فينشأ وهو يشعر بالكثير من الأمان والثقة والحب، وخلاف ذلك صحيح أيضاً فافتقاره لما سبق يؤدي إلى معاناته من الإهمال العاطفي لاحقاً.

شاهد: 12 نصيحة للحفاظ على الصحة النفسية

أشكال عقدة الإهمال:

تظهر عقدة الإهمال لمن يعاني منها بشكل من الأشكال الآتية:

1. الشكل المتوازن:

وهذا الشكل له دور كبير في بناء علاقات إيجابية في حياة الفرد؛ إذ نجده يبحث عن إعجاب الآخرين وحبه لهم ولفت انتباههم باستمرار من خلال جمع الأسباب التي تجعله مستحقاً لذلك، فمثلاً نجده يحاول تحسين مظهره من خلال ممارسة الرياضة والسعي إلى الحصول على جسم رشيق، أو من خلال الظهور الدائم بملابس أنيقة، أو من خلال اتباع الدورات التدريبية لتنمية المواهب وتعزيز القدرات للوصول إلى النجاح والتفوق في الدراسة والتميز في العمل الذي يجعل الكثيرين يهتمون به ويرغبون بقربه دائماً.

قد تظهر العقدة بشكلها المتوازن عندما يسعى الفرد إلى تنشئة علاقة خاصة مع الله وحده من خلال الإكثار من ذكر الله والالتزام بالأوامر والطاعات والمداومة على تلاوة القرآن الكريم والابتعاد عن المعاصي والآثام؛ وذلك نتيجة إيمان الفرد بأنَّ الله وحده سيبقى معه ولن يتركه أبداً أما البشر فلن يفعلوا ذلك.

2. الشكل التصعيدي:

في هذه الحالة يكون الفرد على ثقة تامة بأنَّه أصبح متروكاً ومهمَلاً من قِبل الجميع، فلا يبحث عن الحب والاهتمام من أحد ولا يبحث عن العلاقات العاطفية التي تعوض النقص وتملأ الفراغ العاطفي؛ إنَّما أصبح يعيش عزلة اجتماعية سواء أكان وحده أم بوجود أشخاص آخرين إلى جانبه، فهو على ثقة بأنَّ الناس لا يكترثون لأمره وقربهم منه سيتسبب له بالمزيد من الآلام النفسية وخيبات الأمل وابتعاده عنهم سيجنبه ذلك.

3. الشكل التعويضي:

وهنا شعور الإنسان بنقص الحب والاهتمام يدفعه إلى تعويض ذلك بتقديم الفائض من الحب والاهتمام للمحيطين به على الرغم من اعتقاد بعضهم أنَّ "فاقد الشيء لا يعطيه"؛ إنَّما معاناة الإنسان من عقدة الإهمال قد تدفعه إلى إعطاء ما فقد بشكل مبالغ فيه وبأشكال مختلفة للعطاء.

فقد يضحي بوقته بالجلوس والتحدث مع شخص حزين رآه يجلس على حافة الطريق ويحاول إسعاده أيضاً، أو قد يتبرع بكل ما يملك من المال لشخص فقير، أو قد يشتري الهدايا باهظة الثمن ويقدمها لأصدقائه أو زملاء العمل.

يمكن تفسير ذلك بأنَّه سيشعر بالحب والامتنان والشكر من قِبل الطرف الذي قدَّم له الهدية فيساعده ذلك على تعويض النقص الموجود لديه، ويمكن أن نشبه المهمَل عاطفياً بهذا الشكل بالأم التي تضحي في سبيل سعادة أطفالها بكل ما تملك فيكون عطاؤها مادياً وعقلياً وعاطفياً وفكرياً.

4. العقلنة الدفاعية:

وهي الشكل الأصعب من أشكال عقدة الإهمال الذي يصل إليه الفرد، ومع تطور هذه العقدة، ينسف مختلف المشاعر والأحاسيس من قلبه ويرفض إنشاء أيَّة علاقة قائمة على المشاعر خوفاً من خيبة الأمل مجدداً؛ فيبني حياته وعلاقاته الاجتماعية على أساس الحسابات العقلية فقط، وقد يشعر بالاهتمام فقط تجاه الأشياء الرمزية التي ستدوم معه لاحقاً فلا يشعر بالأسف تجاه علاقة عاطفية انتهت ولا تجاه صداقة خسرها؛ إنَّما يفرح عند تخلصه من أي شخص يقوم بإثارة مشاعره.

حتى عند موت شخص من عائلته أو مقرب منه نجده يبدأ بتحضيرات العزاء بجدية أو بالذهاب إلى تقديم العزاء دون الانهيار أو الحزن على خسارته؛ إنَّما يشغل نفسه عن مشاعره.

كيفية علاج عقدة الإهمال:

على الرغم من أنَّ أسباب عقدة الإهمال تعود إلى طفولة الإنسان، إلا أنَّ علاج هذه العقدة يمكن من خلال ما يأتي:

1. الاعتراف بوجود عقدة الإهمال:

يجب على الفرد الاعتراف بمعاناته من عقدة الإهمال التي يسهل ملاحظتها من خلال ما ذكرنا آنفاً، كما يجب عليه الوعي لخطورتها على حياته الحالية والمستقبلية، فاحتمال استمراره وحيداً طيلة الحياة يكبر بسببها فيدرك أهمية السعي إلى التخلص منها.

2. التصرف الصحيح:

لا يجب السماح للأفكار السلبية بالسيطرة على الفرد؛ وذلك لأنَّه يدرك معاناته من عقدة الإهمال، ومن ثمَّ عند الشعور بالحزن وخيبة الأمل نتيجة تصرُّف قام به الشريك عليه مصارحته بذلك وإخباره بالأفكار الافتراضية التي نسبها إليه كي يفهم مقاصد تصرفاته فيساعد ذلك على تخفيف الشعور بالحزن.

شاهد أيضاً: ما هي أسباب الفراغ العاطفي؟

3. إخبار الشريك بالعقدة:

لأنَّ دور الشريك العاطفي أساسي في التخلص من عقدة الإهمال، فإن كان يدرك معاناة شريكه منها فلن يسأم من تصرفاته وأسئلته وحزنه؛ إنَّما سيحاول تجنُّب التصرفات والكلمات التي تحزنه وتشعره بالتخلي، أو قد يبرر تصرفاته التي ستشعره بتخليه عنه مسبقاً وسيحاول إظهار الاهتمام الدائم، وهذا يعزز ثقته به وسيمنعه أيضاً من التخلي عنه.

فمثلاً شريكك العاطفي لم يتصل بك طيلة اليوم، فبدلاً من الغرق بالحزن يمكن الذهاب إليه أو الاتصال به والاطمئنان عليه وإخباره أنَّك حزنت، وعندها سيقدم المبررات لك وستدرك أنَّه لا يقصد التخلي.

4. تقوية العلاقة بالله تعالى:

لأنَّ علاقة الإنسان بالله تعطيه الكثير من القوة والثقة بأنَّه ليس وحيداً في الحياة، فيساعده ذلك على التخلص من شعور التخلي رويداً رويداً.

إقرأ أيضاً: 10 أمور تجعلك محبوباً عند الأشخاص المحيطين بك في المجتمع

في الختام:

عقدة الإهمال تعني شعور الإنسان برغبة كبيرة في الحصول على الحب والاهتمام من الآخرين وخاصة الشريك العاطفي، فمهما قدَّم له الحب أراد المزيد؛ وذلك لأنَّ عطشه العاطفي لا يُروى، فيتسبب ذلك في الفشل بتكوين علاقات ناجحة ومستقرة في الحياة، وتأخذ عقدة الإهمال أشكالاً عدة، فقد تظهر بالشكل المتوازن الذي يدفع الفرد لمحاولة كسب إعجاب الآخرين، أو بالشكل التصعيدي الذي يجعله يبتعد عن العلاقات العاطفية لشعوره بأنَّ الجميع لا يحبه.

إقرأ أيضاً: نصائح مهمة لوقاية الأبناء من الأمراض النفسيّة

أما الشكل التعويضي فهو ما يدفع الفرد للتضحية والعطاء بكافة أشكاله وإغراق المحيطين بالحب والاهتمام، وأخطر الأشكال هو العقلنة الدفاعية التي تمنع الإنسان من الشعور بالحب أو غيره من المشاعر وتحوِّل اهتمامه للأمور المادية فقط، والسبب في ذلك كله هو افتقاد الإنسان للحب والاهتمام من أهله وخاصة أمه في طفولته وخاصة مرحلة الرضاعة.

أما العلاج فيبدأ بالإدراك والوعي الجيد لهذه العقدة ونتائجها السلبية على الحياة وليس إدراكك فقط؛ إنَّما إدراك الشريك يساعد على التخلص منها، كما أنَّ تعزيز العلاقة بالله تعالى يساعدنا على الراحة النفسية والتخلص من مختلف العقد النفسية وليس فقط عقدة الإهمال.

المصادر: 1،2،3




مقالات مرتبطة