تغيير معتقداتنا حول الأفكار

جاءت "تارا" (Tara) لرؤيتي عندما كانت في منتصف الثلاثينيات من عمرها، وحسب وصفها فقد قضت السنوات العشر الماضية من عمرها للتغلب على الهوس والقضاء عليه، وقد وصفت هذه الحالة بالتفكير الذي لا يمكن إيقافه.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن الطبيبة النفسية "نانسي كولير" (Nancy Colier)، والتي تقدم فيه لمحة عن كتابها "لا تستطيع التوقف عن التفكير: كيف تتخلص من القلق وتحرر نفسك من التفكير الوسواسي؟" (Can’t Stop Thinking: How to Let Go of Anxiety and Free Yourself from Obsessive Rumination).

لقد اتَّبعَت الطرائق كلها التي تعرفها عن المساعدة الذاتية لمدة عقد من الزمن، وحاولَت بشتى الطرائق إقناع عقلها بالتوقف عن التفكير وبالتحديد إيقاف الأفكار التي تنطوي على التقليل من قيمتها الذاتية، وكانت غالباً ما تستعمل تقنيات التفكير الإيجابي، والتي تضمنت عبارات التشجيع والامتنان.

وقد عملت "تارا" بجد لتُغير من الأفكار التي كانت تعاني منها؛ إذ جعلها هذا الوضع الصعب مضطرة طوال الوقت إلى ممارسة تمرينات المساعدة الذاتية ولكن لم تكن هذه الممارسة ممتعة كونها كانت مجبرة على ممارستها، ولكنَّها عندما لجأت إليَّ كان واضحاً أنَّها ما زالت تكافح في مواجهة هذه الأفكار وما تسببه لها من ألم.

كانت يائسة ومهزومة وجعلها هذا الوضع تشعر بالعجز تجاه حديث عقلها المستمر، وليست "تارا" الوحيدة التي تعاني من هذا الوضع، فلقد قابلت مئات الأشخاص الذين خاب أملهم باستراتيجيات المساعدة الذاتية والدعم النفسي.

وأنا أتعامل بشكل متواصل مع مئات الأشخاص الذين لم يستفيدوا من تقنيات المساعدة الذاتية ويشعرون بخيبة أمل بفعل الوعود التي تعطيها هذه التقنيات عن حياة جديدة كلياً.

إذا كنتَ من الأشخاص الذين جربوا تقنيات غير مجدية، فلا تقلق؛ إذ ليس خطأك أنَّك لم تعثر على ما تريده، فالسيطرة على مضمون أفكارنا هي حل مؤقت، وربما يمكن وصفه بأنَّه ضماد تخفي تحته الجرح الخطير.

قد تعمل هذه التقنية نوعاً ما عندما تسير الأمور بسلاسة ونكون راضين عما يحدث في حياتنا، ولكن عندما تتخذ الأمور منحى صعباً وتظهر التعقيدات في الحياة، فإنَّ الأفكار الإيجابية لا تُرسَّخ في أذهاننا؛ وفي هذه الحالة تفشل استراتيجيات الإصلاح وتعود منظومة المعتقدات القديمة إلى العمل.

قد يكون التفكير الإيجابي مفيداً ويعطي إحساساً بالرضى، ولكنَّه لا يعالج المشكلة الحقيقية.

هذه التقنية ليست قوية بما يكفي لإحداث تغيير حقيقي في المعتقدات الكامنة وراء الأفكار السلبية، ففي النهاية لا تعدو تقنية الأفكار الإيجابية أن تكون مجرد إسعافات أولية لحالة أكثر عمقاً وأكثر تأثيراً؛ وهذا يجعل التفكير الإيجابي حلاً غير مناسب، ليس فقط لعدم موثوقيته؛ بل إنَّ السبب الحقيقي لقصوره هو أنَّه يعالج مشكلة خاطئة؛ إذ عندما تكون الاستراتيجية هي استبدال الأفكار السلبية بأخرى إيجابية، فإنَّنا نعتمد على معتقدات مُضللة؛ إذ تفترض ما يأتي:

"يمكننا؛ بل ويجب أن نكون قادرين على التحكم بأفكارنا، وما تقوله أفكارنا هام جداً، كما أنَّ لها القوة والسيطرة علينا، وأخيراً، علينا التحكم بأفكارنا على الرغم من أنَّنا لسنا على ما يرام"؛ باختصار شديد، هذه المعتقدات خاطئة بالمطلق.

يؤكد التفكير الإيجابي - بشكل غير صحيح - أنَّ رفاهيتنا تعتمد على ما تقوله أفكارنا في أيَّة لحظة، ومن ثم فإنَّ إرادتنا القوية والسيطرة على الأفكار هي مفتاح سعادتنا.

هذا المعتقد، يؤكد أنَّنا ما زلنا تحت رحمة محتويات أفكارنا، وما زلنا معتمدين على شيء خارج نطاق سيطرتنا؛ بمعنى أنَّ التفكير الإيجابي يدعي أنَّنا نمتلك القدرة على التغيير، ولكنَّه في الواقع ينفي امتلاكنا للقوة اللازمة لإجراء التغيير.

إقرأ أيضاً: 3 تحيزات معرفية تؤثر في قراراتنا اليومية

تروِّج تقنيَّة المساعدة الذاتية لنوع من الذخيرة الإدراكية، وتطلب منا أن نكون واعين لأفكارنا ونحاربها في حال كانت من النوع الذي لا نرغب فيه.

لكن إذا كان ما تطلبه هو أن تتخلص من سيطرة أفكارك، فيجب عليك بالأحرى أن تتوقف عن محاولة التحكم بأفكارك، والتوقف عن محاولة التغلب عليها.

ما يحررنا من التفكير السلبي ليس الانتصار في الحرب ضد أفكارنا مراراً وتكراراً وفي كل لحظة؛ بل إخراج أنفسنا من حلقة الصراع معها تماماً.

كيف نخرج من المعركة في مواجهة أفكارنا، وما هي الاستراتيجية التي يجب اتباعها كي نتمكن من تحقيق ذلك؟ تبدأ العملية التي أقترحُها بتغيير جذري في المنظور الذي يقترحه نظام التفكير الإيجابي.

يقول التفكير الإيجابي: إنَّه من أجل أن نكون في حالة جيدة، يجب أن تتجه أفكارنا نحو ما نرغب فيه؛ وهذا الاعتقاد لا يقترح أنَّنا نعتمد على أفكارنا في تحديد حالتنا فحسب؛ بل إنَّنا وأفكارنا نُشكِّل كياناً واحداً غير متمايز أبداً.

لكن ماذا لو أنَّ هذا الاعتقاد خاطئ؟ سيكون من المفيد إذا أردت أن تخرج من الصراع مع أفكارك، أن تبدأ الاعتقاد بأنَّك بخير لا يعتمد على تصحيح أفكارك مُطلقاً، وعلاوةً على ذلك لا يعتمد على ما ترغب فيه ولا حتى على موافقتك على أفكارك.

في إمكانك أن ترى الدليل على صحة هذا الاعتقاد من خلال التالي: عندما يذهب عقلك في التفكير باتجاه معيَّن يخالف واقعك، فأنت ما زلتَ تعيش الواقع نفسه.

نحن نبقى على ما نحن عليه مع التفكير أو دونه؛ وهذا يوحي بقوة أنَّنا لسنا مصنوعين من أفكارنا، ونظراً لأنَّك ستختبر التمرينات الموجودة في هذا الكتاب بشكل متكرر، فإنَّك ستكون قادراً في بعض الأحيان على ملاحظة أفكارك وهي تتشكل، وستراها وهي تظهر وتأخذ مسارها ومن ثمَّ تختفي.

وحقيقة أنَّنا نستطيع ملاحظة أفكارنا وفهم ما توحي به، تؤكد حقيقة أنَّه من المستحيل أن نكون وأفكارنا شيئاً واحداً؛ وذلك لأنَّه من المتعذر أن يستطيع الإنسان أن يراقب شيئاً يحدث أمامه ويكون في الوقت نفسه هو هذا الشيء أو الحدث.

وللعلم، فقد اتَّضح أنَّ رفاهيتنا تعتمد على إدراكنا أنَّ أفكارنا ليست نحن، وبعد هذا التوضيح، جرِّب أن تسأل نفسك: "ماذا لو لم أكن أنا وأفكاري شيئاً واحداً؟ بل ماذا لو كنت أنا مجرد مراقب لهذه الأفكار، وأنَّني آلية من آليات الإدراك التي تجعل الأفكار قابلة للظهور؟".

أعطِ هذا الاحتمال فرصة ليصبح معتقداً تتبناه؛ وذلك من خلال ملاحظة هذه الحقيقة والمواظبة على الاعتقاد بها في كل الأوقات.

تظهر الأفكار وتختفي في مجال وعينا وهذه حقيقة صحيحة للغاية، ولكن على أي حال نحن لسنا مسؤولين عن مضمون هذه الأفكار، فالأفكار يمكنها أن تتضمن أي شيء، بينما نبقى نحن على خير ما يرام.

تتوقف أفكارنا عن السيطرة علينا عندما نبدأ بملاحظتها بأسلوب المراقب الخارجي، ونتوقَّف عن الاعتقاد بأنَّ مسؤوليتنا هي تصحيح الأفكار الخاطئة أو التغلب عليها؛ إذ تبرز الحرية من خلال الوعي، وتحديداً الوعي لما يحدث داخل عقلك؛ إذ إنَّ الاعتقاد الصحيح يعني أن تتعامل مع الأفكار بوصفك مراقباً وتتخلى عن مسؤولية التحكم بها.

المصدر




مقالات مرتبطة