بناء الهوية الوطنية

عمل المجتمع العربي خلال تاريخه الطويل على بذل الجهود من أجل الحفاظ على ثقافته وخصائص هويته المميزة التي تفرَّد بها على مر العصور، هذه الهوية التي تمثل صورة المجتمع العربي وتعبر عن سمات أفراده وصفات شخصيته وتكسبه صفة التفرد عن باقي المجتمعات.



يواجه المجتمع العربي عموماً ودولُه على وجه الخصوص خلال الوقت الحالي تحديات ومخاطر غير مسبوقة تستهدف وحدته وتلاحم نسيجه؛ فقد مر المجتمع العربي بتحولات كبيرة وأزمات متلاحقة كثرت خلال السنوات الأخيرة أثَّرت في مجملها في هويته، فقد حاولت القوى الخارجية التي تسعى إلى السيطرة عليه بمختلف الطرائق سواء السياسية منها أم العسكرية اللعب على موضوع الهوية والانتقال من الحديث عن هوية المجتمع العربي الواحدة التي تميز بها عبر العصور إلى الحديث الطائفي الهدام؛ حتى أصبح الوطن العربي برمته ممثلاً بدولة يعيش ضمن ما يمكن أن نسميه: " أزمة هوية "، فتأجَّج الصراع وساد وتعمق الاختلاف وذلك بهدف خدمة مشاريع سياسية محددة.

المجتمع العربي ممثلاً بشعوبه يعيش حالة من الفوضى غير المسبوقة وليس فقط الحكومات؛ فالأساس الطائفي الذي اتخذ منه المجتمع العربي وسيلة لإعادة تقسيم نفسه لا ينبئ بمستقبل عربي جيد لأبنائه؛ لذا فإنَّ الهوية الوطنية العربية الجامعة هي أبرز ما يجب مراجعته؛ فليس من الخطأ الاعتزاز بالانتماءات الدينية المختلفة في مجتمع متعدد الطوائف بالأساس؛ لكنَّ الخطأ يكمن في تحويل هذا الاختلاف إلى خلافات سياسية وصراعات وحروب دموية في محاولة إلى إقصاء الآخر وإلغاء وجوده والظفر بالحياة منفرداً.

التعددية والتنوع الموجود في المجتمع العربي ليس سلبياً على الإطلاق أو حالة فريدة لم يشهدها مجتمع سواه؛ بل هو حالة مألوفة منذ تكوينه، وكل ما يحتاج إليه هو الإيمان بهذه التعددية والعمل على تحقيق المساواة وحفظ الحريات العامة ضمنه دون تمييز بين فئة وفئة أخرى ووضع مصلحة المجتمع في المقام الأول وفوق الانتماءات الفرعية.

مفهوم الهوية الوطنية:

مجتمع

يرى "بيتر تاب" عالم الاجتماع أنَّ الهوية هي: "الإحساس الذي يجعل شخصاً ما يشعر بكونه هو ويبقى كذلك في الزمن؛ وبمعنى أكثر اتساعاً إنَّه نسق من الأحاسيس والتمثيلات التي يستطيع بواسطتها فرد ما الإحساس بتميزه، وبهذا المعنى هويتي هي ما يجعلني مماثلاً لنفسي ومختلفاً عن الآخرين".

الهوية تمثل ماضياً متأصلاً في حياة الفرد، فهي تشمل كل ما يوجد في حياته من تقاليد وعادات وقيم ومعايير وتراث وأخلاق وسلوك وفكر ولغة وفنون وعقيدة وأدب وكل شيء يأخذه من المجتمع الذي يعيش فيه، وهذه الهوية هي التي تميز مجتمع عن مجتمع آخر.

بعضهم قال عن الهوية الوطنية أنَّها: "المبادئ الأصيلة السامية والذاتية النابعة من الأفراد أو الشعوب، وركائز الإنسان التي تمثل كيانه الشخصي الروحي والمادي بتفاعل صورتي هذا الكيان، وتمثل الهوية الثقافية الجوانب الحياتية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والحضارية والمستقبلية كلها لأعضاء الجماعة الموحدة التي ينتمي إليها الأفراد بالحس والشعور الانتمائي لها".

مكونات الهوية الوطنية:

لا شك في أنَّ تماسك أي مجتمع من المجتمعات يقوم على مدى فهم أفراده لقيمه وقواعده، هذا الفهم لا يكتسبه الفرد بالوراثة؛ بل من خلال تفاعله مع البيئة المحيطة وتعلمه من خلال هذا التفاعل خلال مراحل حياته المختلفة، ولا يمكن أن نفهم المجتمع بصورته الكلية، ولا النظم التي تحكمه سواء السياسية أم الاجتماعية أم الاقتصادية ما لم تحلل العناصر التي يتكون منها وطبيعة العلاقات التي تجمع بينها، وتتكون الهوية الوطنية لأي مجتمع عربي من:

1. العائلة أو العشيرة:

تمثل العائلة أو العشيرة الناقل الأول للتوجه الفكري والعقائدي في المجتمع؛ فهي المؤسسة الأولى التي تؤثر في أفكار الفرد وسلوكاته وأخلاقه؛ فهي التي تعمل وتحاول نقل كل ما يرغب به المجتمع وتطمح إلى تحقيقه لأبنائها؛ فللعائلة أو العشيرة دور هام في نقل العادات والتقاليد والأعراف إلى الأبناء، ومن ثمَّ المحافظة على هوية المجتمع وتطبُّع الأفراد بطباعه.

2. الطائفية والمذهبية:

تتميز مجتمعات الدول العربية بالتعددية، فتوجد فيه مذاهب عدة ولكل منها عاداتها وتقاليدها الخاصة بها، لكنَّ هذه التعددية لم تكن يوماً سبباً في الحروب؛ بل على العكس من ذلك لطالما ساد السلام وحالة من الاستقرار والتآخي بينها، وعلى الرغم مما يوجد بينها من اختلاف لم يصل يوماً إلى فكرة إلغاء الآخر أو إجباره على الهجرة والمغادرة أو حتى إجباره على الانضمام إلى بعضها.

على الرغم من وجود دول أو مدن منغلقة على دين واحد أو قومية واحدة، ظل الجميع لوقت طويل يحترمون ما يوجد بينهم من اختلاف، وشكَّل التراث العربي القوة الجامعة لمختلف تلك المذاهب؛ فالإحساس بالانتماء إلى التاريخ العربي الواحد ظل مسيطراً على أي نزاعات أخرى، وبقي فخراً لكل العرب في كل وقت.

كيف يمكن بناء الهوية الوطنية؟

1. تعزيز قيم المواطنة لدى أفراد المجتمع:

المواطنة تعني حب الوطن، هي الحكمة في السلوك، وعقلانية الانتماء؛ أي شعور الفرد بالانتماء دون إكراه أو دون أن يُطلَب منه تحقيق الانتماء؛ فرُوح المواطنة تقوم على مشاركة الفرد الطوعية بالاستناد إلى الإرادة المقصودة؛ فكل من يتمتع بها يصبح جزءاً من كلٍّ أكبر وهو المجتمع، يبقى معه ويعمل داخله، كما يكون الفرد الذي يتمتع بروح المواطنة قابلاً للتوجيه والسير ضمن مسار معين يريده المجتمع.

2. تنمية الشعور القومي:

وذلك من خلال إشعار كل فرد عربي بأنَّه جزء لا يتجزأ من هذا المجتمع الكبير بجميع أطيافه وطوائفه والانتماءات الموجودة ضمنه، وأن يبقى الدافع وراء كل سلوك يسلكه المواطن العربي باتجاه تحقيق الوحدة الوطنية، التي سوف تحقق بدورها السلام المجتمعي والرفاه الاجتماعي.

3. الحوار الوطني:

ينبغي إعادة ترتيب مكونات الهوية الوطنية من خلال عقد حوار وطني جاد يشمل كافة أطياف المجتمع من أجل التخلص من هاجس الخوف من الآخر الذي تعزز خلال الفترات السابقة في بعض دول الوطن العربي، مثل دول العراق وسوريا واليمن التي كانت نتيجة طبيعية للأحداث التي مرت بها تلك الدول؛ فالحوار وُجِد كي يوحِّد وجهات النظر ويبحث عن النقاط المشتركة مع الآخر التي تدفع بالأفراد للحياة معاً على أرض واحدة.

4. إتاحة فرصة للاختلاف في حدود المواطنة الحقة:

أي لا تتعدى الخلافات مصلحة الوطن والمحافظة على وحدته مهما عظم الخلاف وكبر.

5. تحقيق العدالة الاجتماعية:

أيضاً العدالة في توزيع الثروات، والعمل على تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وإدارة المجتمع وفق القواعد الإنسانية المتعارف عليها عالمياً، والنظر إلى المجتمع بوصفه جسداً واحداً متكاملاً.

إقرأ أيضاً: ما هي الرفاهية الاجتماعية؟ وكيف يمكن تحسينها؟

6. السعي إلى إنهاء أي وجود أجنبي على الأرض العربية:

الاحتلال هو أساس انقسام أي مجتمع.

7. تحقيق الاستقلال السياسي:

ذلك بالحد من التدخلات السياسية الخارجية الإقليمية والدولية التي تسهم في الانقسام وتعمقه، والاختلاف بين فئات المكونة للمجتمع.

8. قيام نظام سياسي حاكم يؤمن بالتعددية:

من خلال العمل على الحفاظ على الحريات العامة وضمان الحقوق والحث على تنفيذ الواجبات الفردية في المجتمع.

9. تعزيز ثقافة التسامح الوطني:

من خلال ترك ما حدث من سلبيات في الماضي القريب أو البعيد، ونشر ثقافة المحبة والتآخي بين أبناء المجتمع الواحد، والابتعاد عن الحركات الانتقامية وتصفية الحسابات.

10. نبذ العنصرية والطائفية:

من خلال نشر ثقافة التفكير بمصلحة الوطن في المقام الأول، وفعل كل ما يجب على الفرد بغرض المحافظة على وحدته والسلام فيه.

11. إعطاء الحرية الثقافية:

من حق كل فرد أن يتبنى ما يريد من مذهب بشرط أن تكون كل المرجعيات الثقافية في المجتمع قائمة على أساس مصلحة الوطن، وألَّا تشكل خرقاً للمذاهب الأخرى.

  • إيجاد صيغة لتلاقي الثقافات والمذاهب المختلفة بما يضمن وحدة المجتمع وأمنه.
  • امتناع الحكومات عن دعم أحزاب سياسية محددة على حساب أحزاب أخرى أو شخصيات محددة أو هيئات مؤيدة لما لديها من فكر لأنَّ ذلك سوف يولد الصراعات على نحو غير مباشر.

12. امتناع الحكومات عن ضرب الأحزاب أو الشخصيات أو الهيئات المعارضة لأفكارها أو المناوئة لسياساتها:

بل يجب البحث عن أسلوب تسعى من خلاله إلى تقريب وجهات النظر في المسائل الخلافية، ومحاولة كسبها بطريقة أو بأخرى، وتحقيق الاندماج المطلوب لسلام المجتمع.

إقرأ أيضاً: تنمية المجتمع المحلي

13. إيلاء موضوع حقوق الإنسان مزيداً من الرعاية والاهتمام بعيداً عن الشعارات:

ذلك سوف يعزز السلوك الحضاري للمواطنين الذي سوف ينعكس على انتمائهم ويزيد من قوة ارتباطهم بالدولة وتمسكهم بهويتهم الوطنية.

14. العمل على تعديل القوانين والتشريعات:

ذلك بما يكفل التكيف مع مستجدات العصر من جهة ويضمن سيادة الأمن والاستقرار من جهة أخرى.

15. تعزيز البناء القيمي والأخلاقي في المجتمع:

ذلك بمختلف الأساليب الممكنة، لا سيَّما التعليمة منها.

16. إحداث مجلس وطني يضم جميع التيارات الموجودة في المجتمع:

وترك باب الحوار مفتوحاً دائماً لمناقشة أي خلاف يمكن أن ينشأ بينها والتوصل إلى حل يحمي الوحدة الوطنية.

في الختام:

نحن نمرُّ اليوم في المجتمع العربي بتحولات جذرية سواء على الصعيد السياسي أم الاجتماعي، هذه التحولات تدفعنا إلى الحديث عن التنوع وأهميته لاستمرار الحياة في هذا المجتمع؛ فنحن حين نتحدث عن بناء الهوية الوطنية نكون قد أعلنَّا انتماءنا وأكَّدنا ارتباطنا بهذه الأرض وفق أساس راسخ وأكثر من مجرد الارتباط بالمكان أو الدولة أو اللغة أو الثقافة أو الدين، محاولين بذل ما استطعنا من جهود في سبيل تحقيق السلام والمحافظة على تماسك المجتمع العربي ووحدته.




مقالات مرتبطة