الوعي وغموضه (مقتطف من كتاب: الوعي، دليل موجز عن الغموض الجوهري للعقل)

إنَّ تجربتنا في الوعي متأصِّلة في هويتنا لدرجة أنَّنا نادراً ما نلاحظ أنَّ شيئاً غامضاً يحدث؛ فالوعي هو التجربة بحد ذاتها؛ ومن ثمَّ من السهل أن نغفل عن السؤال العميق الأكثر وضوحاً والماثل أمامنا كل لحظة: لماذا تكون المادة في الكون واعيةً؟ إنَّنا ننظر إلى الوعي كشيء لا صلة له بالغموض كما لو كان وجوده مُسلَّماً به أو نتيجةً حتميةً للحياة المعقَّدة، ولكن عندما نمعن النظر، نجد أنَّه من أغرب جوانب الواقع.



ملاحظة: هذا المقال مُقتطَف من كتاب: "الوعي: دليل موجَز عن الغموض الجوهري للعقل" (Conscious: A Brief Guide to the Fundamental Mystery of the Mind) للكاتبة "أناكا هاريس" (Annaka Harris).

قد يثير التفكير في الوعي القدر نفسه من المتعة التي نحصل عليها جرَّاء التأمُّل في طبيعة الوقت وأصل المادة، مما يولِّد داخلنا فضولاً عميقاً حول أنفسنا والعالم من حولنا. أتذكَّرُ أنَّني نظرتُ إلى السماء عندما كنتُ صغيرةً وأدركتُ أنَّ إحساسي المعتاد بأنَّني على سطح الأرض والسماء فوقي لم يكن تصوراً دقيقاً تماماً، ورغم أنَّني تعلَّمتُ أنَّ الجاذبية تجذبنا نحو الأرض فيما ندور حول الشمس - وأنَّه لا يوجد "صعود" و"هبوط" حقيقيان - إلا أنَّ شعوري بأنَّني على الأرض تحت السماء لم يتغير.

ولتغيير وجهة نظري، كنتُ أحياناً أستلقي في الخارج وذراعيَّ وساقيَّ ممدودتين لأستمتع بأكبر قدر ممكن من التواصل مع السماء والأفق، وفي محاولة للتحرر من الشعور المألوف بوجودي على سطح الأرض تحت القمر والنجوم، كنتُ أرخي عضلاتي كلها، مستسلمةً بذلك للقوة التي تثبتني بإحكام على سطح كوكبنا، وأركز على حقيقة وضعي: أنا أطفو حول الكون على هذا الكوكب العملاق المُعلَّق بفعل الجاذبية.

وبينما كنتُ مستلقيةً هناك، شعرتُ أنَّني كنتُ في الواقع أنظر خارجاً إلى السماء، وليس إلى الأعلى، والواقع هو أنَّ الابتهاج الذي اختبرتُه كان ناتجاً عن إلقاء نظرة على حقيقةٍ أعمق ألا وهي أنَّ الوجود على كوكب الأرض لا يفصلنا عن بقية الكون، والواقع أنَّنا كُنَّا ولا نزال موجودين في الفضاء الخارجي.

كتابي "الوعي: دليل موجَز عن الغموض الجوهري للعقل" (Conscious: A Brief Guide to the Fundamental Mystery of the Min) مكرَّس لهزِّ افتراضاتنا اليومية عن العالم الذي نعيش فيه، فبعض الحقائق هامةٌ جداً وغير بديهية مثل أنَّ المادة تنشأ من العدم، والأرض كروية تدور في واحدة من مليارات الأنظمة الشمسية في مجرتنا، والكائنات المجهرية تسبب المرض، وما إلى ذلك؛ لذلك نحن بحاجة إلى تذكُّرها مراراً وتكراراً حتى تتغلل أخيراً في ثقافتنا وتصبح الأساس للتفكير الجديد.

يحتل الغموض الأساسي للوعي - وهو موضوع حيَّر الفلاسفة والعلماء على حد سواء - مكانةً خاصة بين هذه الحقائق، أمَّا بالنسبة إلى هدفي من كتابة هذا الكتاب، فهو نقل الشعور بالابتهاج الذي يأتي من اكتشاف مدى دهشة الوعي.

قبل طرح أي سؤال حول الوعي يجب أن نحدد ما الذي نتحدث عنه في المقام الأول، ويستخدم الناس كلمة الوعي بطرائق متنوعة، على سبيل المثال: يستخدمها بعضهم للإشارة إلى حالة اليقظة أو الشعور بالذات أو القدرة على التأمل الذاتي، ولكن عندما نريد أن نميِّز الصفة الغامضة الكامنة في جوهر الوعي، يصبح من الهام أن نركِّز على ما يجعله فريد من نوعه.

فإنَّ التعريف الأساسي للوعي هو ذلك التعريف الذي قدَّمه الفيلسوف "توماس ناجل" (Thomas Nagel) في مقالته الشهيرة "ما معنى أن تكون خفاشاً؟" (What Is It Like to Be a Bat?) وهذه هي الطريقة التي أستخدم فيها الكلمة خلال هذا الكتاب؛ حيث إنَّ جوهر تفسير "ناجل" (Nagel) هو كما يلي: الكائن الحي واعٍ إذا كان هناك شيء يشبه ذلك الكائن الحي.

بعبارة أُخرى، الوعي هو ما نشير إليه عندما نتحدث عن التجربة بأبسط أشكالها، فالسؤال هنا: هل تتمثل التجربة في حقيقة وجودك في هذه اللحظة؟ يُفترض أن تكون إجابتك هي نعم، أو أهيَ مثل الكرسي الذي تجلس عليه؟ سوف تكون إجابتك على الأرجح بـ لا على حد سواء، وإنَّ هذا الاختلاف البسيط - سواء كانت هناك تجربة موجودة أم غير موجودة - والذي يمكِننا جميعاً استخدامه كنقطة مرجعية يشكِّل ما أعنيه بكلمة "الوعي"، فهل تكمن التجربة في حبة رمل أو بكتيريا أو شجرة بلوط أو دودة أو نملة أو فأر أو كلب؟ الجواب نعم، عند نقطة ما في هذا النطاق، ويكمن الغموض الكبير في سبب "تسليط الضوء" على بعض المواد في الكون.

إقرأ أيضاً: الوعي الذاتي: تعريفه، وأهميته، وطرق تعزيزه وتطويره

حتى يمكِن أن نتساءل: عند أيَّة نقطة في مرحلة تطوُّر الإنسان يتحول الوعي إلى الوجود؟ على سبيل المثال: تخيَّل كيسَةُ أُرَيمِيَّة بشرية عمرها بضعة أيام ومؤلَّفة من نحو مئتي خلية فقط، حينها لن نفترض أنَّه يوجد شيء يشبه هذه المجموعة المجهرية من الخلايا، ولكن مع مرور الوقت، تتكاثر هذه الخلايا وتتحول ببطء إلى طفل بشري يملك دماغاً بشرياً قادراً على اكتشاف التغيُّرات في الضوء والتعرُّف إلى صوت أمه حتى عندما يكون في الرحم، كما أنَّ عملية الاكتشاف هذه مصحوبةٌ بتجربة الضوء والصوت وهذا ما يجعله مختلفاً عن الحاسوب الذي يستطيع فقط أن يكتشف الضوء ويتعرَّف إلى الأصوات.

عندما يخبرك حدسك في مرحلة من مراحل تطوُّر دماغ الطفل بأنَّ هناك تجربة يتكشَّف عنها، ويكمن اللغز عندها في عملية التحول هذه؛ فحين يتعلق الأمر بالوعي، يبدأ الشيء من العدم، ثمَّ فجأةً وفي اللحظة المناسبة يُخلَق من العدم، ومهما كان هذا الشيء الأولي ضئيلاً، فإنَّ التجربة على ما يبدو تتَّقد في عالم الجماد وتتجسد من الظلام.

ذلك أنَّ الطفل يتألف من جسيمات لا يمكِن تمييزها عن تلك التي تدور حول الشمس، كما أنَّ الجسيمات التي يتكون منها جسمك كانت ذات مرة مكوناتٍ لعدد لا يُحصَى من النجوم، إلا أنَّهم سافروا مليارات السنين ليستقروا هنا - في هذا الشكل المعيَّن الذي أنت عليه الآن - وهم الآن يقرؤون هذا المقال، فتخيَّل تتبُّع حياة هذه الجسيمات من أول ظهور لها في الزمكان إلى اللحظة التي أصبحَت مُهيَّئةً بطريقة تُمكِّنها من تجربة شيء ما.

تُقدِّم الفيلسوفة "ريبيكا غولدشتاين" (Rebecca Goldstein) صورةً رائعةً وواضحةً عن هذا اللغز: من المؤكَّد أنَّ الوعي مسألةُ مادةٍ، فماذا يمكِن أن يكون غير ذلك وخاصة لأنَّ هذا ما نحن عليه، ولكن مع ذلك، لم يتم التطرُّق كثيراً إلى حقيقة أنَّ بعض أجزاء المادة لها حياة بذاتها، وتختلف عن أي خصائص أخرى لأيَّة مادة صادفناها حتى الآن.

في اللحظة التي تصبح فيها المادة واعيةً، تبدو كأنَّها غامضةٌ على الأقل، مثل اللحظة التي ظهرَت فيها المادة والطاقة إلى الوجود في المقام الأول، فلغز الوعي ينافس واحداً من أعظم الألغاز التي تحكم الفكر البشري، فكيف لشيء أن يظهر من العدم؟ على نحوٍ مماثل، كيف تنشأ الخبرة التي يشعر بها المرء من مادة غير فاعلة؟ وقد اشتُهِر الفيلسوف الأسترالي "ديفيد تشالمرز" (David Chalmers) بتسمية هذه المشكلة بـ "مشكلة الوعي الصعبة"، وعلى عكس "المشكلات السهلة" المتمثلة في تفسير سلوك الحيوان أو فهم العمليات التي تتم في الدماغ والتي تؤدي إلى تحديد الوظائف، كما تكمن المشكلة الصعبة في فهم سبب ارتباط بعض هذه العمليات الفيزيائية بتجربة مرتبطةٍ بها على الإطلاق.

المصدر




مقالات مرتبطة