القائد الرشيق: قدرة القائد على التكيف

ثمَّة مثلٌ صينيٌّ معروف يقول أنَّ تكيُّف الأشخاص الحكيمين مع الظروف يشبه اتخاذ الماء لشكل الإبريق الذي يوضع في داخله. ربما لم تكن القدرة على التكيف أكثر أهميةً في التاريخ المعاصر ممَّا هي عليه الآن. حيث تُعدُّ القدرة على التكيف وهي القدرة على التغيير (أو التغيُّر) للتأقلم مع الظروف الجديدة إحدى المهارات الأساسية بالنسبة إلى القادة وإحدى الكفاءات المهمة في الذكاء العاطفي. فقد أظهرت دراسةٌ أُجريت في العام 2008 من قِبَل وحدة الاستخبارات التابعة لمجموعة الإكونوميست (Economist Intelligence Unit) وحملت عنوان "الموهبة التنفيذية العالمية المُتنامية" أنَّ من بين الصفات القيادية الثلاث الأبرز التي ستكون مهمةً في السنوات القادمة: القدرة على تحفيز الطاقم (35%)، والقدرة على العمل بشكل جيد ضمن الثقافات المتنوعة (34%)، والقدرة على تسهيل التغيير (32%). بينما كانت الخبرة التقنية (11%) و"كسب مزيدٍ من الأشخاص" (10%) من بين الصفات الأقل أهمية. وبالتالي فإنَّ من المهم بالنسبة لك بصفتك قائداً أن تبذل جهدك لفهم الأشخاص الذين ينتمون إلى ثقافاتٍ مختلفة فقد أصبحت القدرة على التكيف الثقافي إحدى ضرورات القيادة. فعلى سبيل المثال ثمة أحد القادة الذين أعمل معهم حالياً يضم فريقه 22 ثقافة مختلفة.



من بين أحد القادة الذين يتمتعون بهذه الميزة الثمينة "روبرت مكدونالد" (Robert McDonald) وهو مدير العمليات في شركة "بروكتر وجامبل" (Procter & Gamble Company) والذي قضى جزءً كبيرً من العقدين الماضيَيْن في القيام بمجموعةٍ متنوعة من المهام الخارجية. حيث قال في مقابلةٍ أُجريت معه مؤخراً: "لم أتوقع أنَّني سأعيش 15 عاماً خارج الولايات المتحدة. لقد تغير العالم لذا يجب علي أن أتغير أيضاً. عندما تقرأ سيرتي الذاتية فإنَّك لن ترى أنَّ اللغات الأجنبية من بين المواد المفضلة بالنسبة إلي. ولكن عندما تخرج من ثقافتك يتوجب عليك أن تتعلم لغاتٍ أجنبية". إنَّ هذه الرغبة لدى الشخص في الخروج من منطقة الراحة والتعلم بشكلٍ مستمر كطريقةٍ للتكيف مع البيئات المحيطة المتغيرة تشكِّل علامةً فارقة بين القادة الناجحين وغير الناجحين.

لقد أنهيتُ للتو قراءة كتاب "النجاة اليومية: لماذا يقوم الأشخاص الأذكياء بأمور غبية" (Everyday Survival: Why Smart People do Stupid Things) لـ "لورنس جونزاليس" (Laurence Gonzales) وهو المحاضر في مختبرات لورنس ليفرمور الوطنية (Lawrence Livermore National Laboratories). يتحدث "جونزاليس" في هذا الكتاب عن الأخطاء الشنيعة التي نرتكبها عندما نعمل عبر سيناريو ذهني لا يتوافق مع متطلبات الواقع. حيث يوضح أن أحد أسباب حدوث ذلك يتعلق بالطريقة التي يعالج بها الدماغ المعلومات الجديدة. حيث يضع الدماغ ما يسميه "جونزاليس" "السيناريوهات الذهنية" أو النماذج الذهنية التي تحوِّل كل فعلٍ نقوم به إلى عمليةٍ أوتوماتيكية. على سبيل المثال نحن نبني في أثناء نمونا سيناريو سلوكي للحركات الجسدية التي نقوم بها عند ربط أحذيتنا. من خلال الممارسة يترسخ هذا السيناريو تدريجياً في أذهاننا ويجعل قيامنا بالفعل في نهاية المطاف أمراً سهلاً وآلياً بحيث نؤديه من دون حاجةٍ إلى التفكير. أحد الأمثلة الأخرى التي نتعلمها عن السيناريو السلوكي هو الانخفاض عندما يرمينا أحدهم بشيءٍ ما. تبسِّط السيناريوهات السلوكية حياتنا، وتزيد كفاءتنا، وتساعدنا على التحرك بسرعةٍ أكبر وبجهدٍ أقل. إنَّها لا تؤثر في أفعالنا فحسب بل فيما نتلقاه ونؤمن به. يقول "جونزاليس": إنَّنا نميل إلى تجاهل الأشياء التي لا تتوافق مع نماذجنا، وعدم تجريب ما تقول لنا السيناريوهات بأنَّه سيءٌ أو مستحيل".

إنَّ الكفاءة التي تتمتع بها هذه السيناريوهات تحمل بين طياتها أحد الجوانب السلبية وهو أنَّها يمكن أن تحرف انتباهنا عن المعلومات المهمة التي نتلقاها من البيئة المحيطة بنا. بمعنى آخر فإنَّ هذه السيناريوهات أو النماذج تحرف انتباهنا عن حقيقة حالةٍ ما وتدفعنا إلى تجاهل الإشارات التي نتلقاها لأنَّ الرسائل التي ترسلها لنا مخطوطاتنا هي أنَّنا نعرف هذه المعلومات مسبقاً. لذا فإنَّ القرارات التي نتخذها إزاء حالة ما "ليست قراراتٍ بالمعنى الفعلي للكلمة. بل هي ببساطة سلوكاتٌ آلية" كما يقول عن ذلك "جونزاليس".

قد تؤدي السيناريوهات الذهنية أيضاً إلى التشبث بفكرة "لقد كنا دائما نقوم بذلك بهذه الطريقة"، ورفض فهم الحقائق المتعلقة بالحالة الجديدة وتقبُّلها. حيث يقتبس "جونزاليس" عن "هنري بولتكن" (Henry Plotkin) عالم النفس في جامعة "يونيفيرسيتي كولج" (University College) في لندن قوله أنَّنا نميل إلى "تعميم الأمور التي نجحت معنا في الماضي على المستقبل". لذا فقم بكل ما نجح في الماضي، وتجنَّب كل ما لم ينجح. وهذا بكل تأكيد نقيض التكيف أو المرونة في مواجهة تأثير الظروف الخارجية سريعة التغيُّر. كما يمكن لهذا أن يجعلنا جامدين وغير متجاوبين في مواجهة التغيير، وأن ينزع منا الرغبة في تعلم وتبني طرائق جديدة يمكن أن تؤثر في قدرتنا على الاستمرار والنجاح على المدى الطويل. فالأشخاص الذين يتمتعون بدرجة عالية من القدرة على التكيف قادرون على التعامل مع التغيير بشكلٍ أكثر إيجابية، والقيام بما يلزم لتعديل منهجهم وتغيير أولوياتهم.

إليك بعض النصائح لتطوير قدرتك على التكيف:

  • عندما تلاحظ أنَّك تستخف بأفكارك فكِّر لوهلةٍ في السيناريو الذهني الذي تستخدمه والذي يؤثر في سلوكك. تتصف السيناريوهات الذهنية بأنّها آلية وبالتالي يجب أن يكون لديك نية التغلب عليها إذا ما كنت ترغب في تحسين قدرتك على القيادة.
  • ساعد الأشخاص الذين يعملون معك على التمييز بين الملاحظة والاستدلال وبين الحقيقة والحدس. يمكن للاستدلال والحدس أن يتأثرا بالسيناريوهات الذهنية التي ليس لها تأثير على الواقع. كن أنت الصوت الذي يلفت انتباه الآخرين إلى ذلك، وساعد الجميع على التوقف قليلاً بحيث يمكنهم تحليل الاستدلالات والتخمينات التي قد تكون صحيحة وقد لا تكون كذلك.
  • هل تصرُّ عادةً على التقيُّد بالتعليمات؟ وهل هذا ضروريٌّ بشكلٍ دائم؟ قد تُحسِّن إنتاجية فريقك إذا أعرت مزيداً من الانتباه إلى التأثير الذي قد يحمله ذلك في الأشخاص المشاركين؟ ما الذي سيحدث إذا ما طبقت الإجراءات المتبعة بمرونةٍ أكبر؟
  • تذكر أنَّك تنمو عندما تتجاوز حدود المتوقع منك وعندما تسعى إلى الخروج من مناطق راحتك. هل تعتمد على معلوماتك القديمة؟ هل تحتاج إلى تطوير مهاراتك؟ هل تعتمد على مكانتك بوصفها رمزاً للسلطة التي تتمتع بها؟ لم يعد لهذا فائدة في بيئة العمل المعاصرة التي يعمل فيها أشخاصٌ متخصصون وفائقو الذكاء. نحن في حاجةٍ إلى التكيف من خلال التطور المستمر وإعادة اكتشاف أنفسنا. في كتابه الذي يحمل عنوان " إعادة التفكير في المستقبل" (Rethinking the Future) يتحدث "وارين بينس" (Warren Bennis) عن أهمية إعادة تشكيل أسلوب القيادة والاستمرار في التكيف بالنسبة إلى القادة: "يمكن تشبيه الأشخاص الذين لديهم القدرة على التكيف بالأفاعي. ما الذي تقوم به الأفاعي؟ تغير الأفاعي جلدها الخارجي. ولكن المسألة ليست مسألة تغيير جلدٍ فحسب إنَّها مسألة استمرارٍ في النمو والتحوُّل وهي تعني أنَّ الأشخاص الذين يشغلون مناصب تنفيذية يجب أن يتمتعوا بقدرة غير عادية على التكيف". ينطبق هذا على كل مستوى من مستويات المنظمة: التغير أو الموت.
  • قد نميل عندما نشغل منصباً لفترةٍ طويلةٍ من الزمن إلى التعود على الوضع الذي نحن فيه وقد نخفق في تحفيز العملية لكي نتابع النمو والتحسُّن. إذا غادرت غداً ما الذي سيقوم به من يأتي بعدك لتحسين الأوضاع؟ فكر في القيام بالتغييرات نفسها التي سيقوم بها هذا الشخص.
  • في بيئتنا الحالية التي تتسم بالتحديات المعقدة والتغيُّرات المتسارعة تصبح القدرة على حل المشاكل أكثر أهمية. يقوِّم لك هذا الموقع (The Kirton Adaption-Innovation Inventory) (KAI) الطريقة التي يحل الأشخاص من خلالها المشاكل ويتخذون القرارات. حيث يفضل الأشخاص غير المتكيفون استخدام نهجٍ منظَّمٍ وأكثر قابليةٍ للتكيُّف في حل المشاكل، كما أنَّهم يميلون إلى البحث عن حلولٍ لمشاكلهم عبر العمل من خلال إطار عملٍ حالي بدلاً من تطوير إطار عمل جديد كليَّاً. من جهةٍ أخرى يفضل الأشخاص المبتكرون استخدام نهجٍ أقل تنظيماً وغير تقليديٍّ ومبتكَرٍ في حل المشاكل، كما أنَّهم يميلون إلى البحث عن حلول من خلال ابتكار أفكار جديدة. فأحدهم يسعى إلى القيام بالأشياء بشكلٍ أفضل بينما يسعى الآخر إلى القيام بها على نحوٍ مختلف. إذا افترضنا أنَّ فريقك يتألف إما من أشخاصٍ متكيفين أو من أشخاصٍ مبتكرين فإنَّه سيكون أقل نجاحاً من الفريق المُكوَّن من مجموعة متوازنة تضم هؤلاء وهؤلاء. إذا كنت ترغب في معرفة الجانب الذي يمكن أن يُصنَّف فيه فريقك زُر هذا الموقع (KAI).
  • إذا كنت تريد اختباراً لتقويم مستوى قدرتك على التكيف جرب (StrengthsFinder) أو (Emotional Competence Inventory (ECI)) حيث يقوِّم هذا الأخير القدرة على التكيف بناءً على أربعة معايير:
  1. الانفتاح على الأفكار الجديدة.
  2. التكيف مع الحالات.
  3. التعامل مع المطالب غير المتوقعة.
  4. تعديل الاستراتيجية أو تغييرها.

إنَّ القدرة على التكيف ليست مجرد إحدى الكفاءات التي من الرائع أن يتمتع الشخص بها ولكنَّها ميزةٌ تنافسية لك بصفتك قائداً ولمنظمتك.

إذاً أين يمكن تصنيف منظمتك فيما يتعلق بالقدرة على التكيف؟ وما الذي تحتاج إلى القيام به لمواكبة وتيرة التغيير بالنظر إلى التعقيد المتزايد الذي تشهده أجواء العمل في أيامنا هذه؟ لقد قال "بنيامين فرانكلين" منذ فترةٍ بعيدة: "من الممكن ارتداء الملابس الواسعة ولكنَّ الملابس الضيقة ستتمزق". ما الذي يمكنك أن تقوم به اليوم لتوسيع وجهة نظرك، والحدود المفروضة عليك، وحجم ومعنى ما تقوم به بصفتك قائداً؟

 

المصدر: هنا




مقالات مرتبطة