الفرق بين استثارة المشاعر والمشاعر القوية

إن القضاء على الخجل المتعلق بالأمراض النفسية ينطوي اليوم على التحدث بصراحة وبصوت عالٍ عمَّا تمر به؛ إذ يتغلب صوتك على ذلك الصوت الذي يصدح في رأسك، والذي يخبرك "بتحمل الأمر" أو "أن تتظاهر بالأمر حتى تنجح"، وحتى تشجيع الناس في حياتك على فعل الشيء نفسه.



نتيجةً لذلك، اعتاد معظمنا على استخدام المصطلحات الطبية السريرية في محادثاتنا غير الرسمية بوصفها طريقة للتواصل والتعاطف مع بعضنا بعضاً، لكن عندما نستخدم مصطلحات الصحة العقلية والصدمة النفسية بلا مبالاة، والأسوأ من ذلك، بطريقة خاطئة، فإنَّنا نُضعف تأثيرها، ونقوي في النهاية الخجل المتعلق بالأمراض العقلية بدلاً من إضعافه.

تتضمن الأخطاء الأكثر وضوحاً التي نستخدمها في محادثاتنا أن تقول لشخصٍ ما: "إنَّك موسوس" لمجرد أنَّه ينظم جواربه حسب اللون، أو تستخدم مصطلح "ثنائي القطب" كصفة لوصف شيء متذبذب، كأن نقول: "الطقس اليوم ثنائي القطب"، وآخر مصطلح نفسيٍّ تحوَّل إلى كلمة طنانة هو القول إنَّك "مُنفعل" عندما تكون مشاعرك قوية.

يعني الانفعال في اللغة اليومية وجود رد فعل سلبي قوي استجابة لحدث أو موقف، مثل الشعور بالغضب أو الانزعاج؛ لكنَّ علماء النفس لا يفكرون بشأن هذا المصطلح بالطريقة نفسها مثل كلِّ اللغات، فإنَّ لغة الصحة العقلية ضعفت ويساء استخدامها اليوم بعد أن أصبحت مطروقةً جداً.

إذا تعلمنا استخدام المصطلح استخداماً صحيحاً، فيمكننا أن نبدأ جماعياً في هدم أحد أكبر العوائق التي تحول دون وجود روابط أقوى، ألا وهو سوء الفهم.

إنَّنا نصنع ما يسميه علماء النفس خطأ الإحالة الأساسي، أو الميل إلى عزو الأفعال السلبية من قبل الآخرين إلى شخصيتهم، وليس إلى الظروف التي يعيشونها، وعندما يكون شخص ما واضحاً بشأن أسباب انفعاله، يساعدنا ذلك كي نفهمه فهماً أفضل ونتعاطف معه أكثر، وهو أحد أفضل الطرائق لتقوية العلاقات والمجتمعات.

يوصي الخبراء لبناء هذه القوة بتعلم الفرق بين المشاعر القوية والانفعال، حتى تتمكن من التعبير عن نفسك وفقاً لذلك.

كيف يُعرِّف اختصاصيو الصحة العقلية الانفعال (استثارة المشاعر)؟

كان مصطلح "منفعل" في الأصل جزءاً من أعراض اضطراب الكرب التالي للصدمة (post-traumatic stress disorder) مثله مثل استرجاع ذكريات الماضي، وإدارة الغضب وردود الفعل الشديدة أو المتطرفة الأخرى للأحداث التي تبدو طبيعيةً في الوقت الحاضر.

من الأمثلة الأكثر شهرةً على ذلك الجندي المتقاعد الذي يصاب بالذعر ويستعد للقتال بعد سماعه صوت قوي في السيارة؛ يعني ذلك أنَّ الانفعال يشير حرفياً إلى أنَّ شيئاً ما في الوقت الحاضر قد أثار ذكرى مؤلمة سابقة، ممَّا فعَّل بدوره استجابة الكر أو الفر في الجسد؛ أي لم يعد الشخص يعيش كلياً في الوقت الحاضر؛ بل عاد ذهنه إلى صدمة الماضي.

يبدو الأمر خارجاً تماماً عن سيطرة الشخص، وغالباً ما يعاني أداء وظائفه اليومية خلال هذه النوبات، وفي علم النفس الحديث، يطبِّق الخبراء أيضاً مفهوم الانفعال على حالات نفسية أخرى، مثل الإدمان واضطرابات تناول الطعام؛ فالفكرة هنا هي أنَّ بعض المحفزات (كرؤية شخص يشعل سيجارة)، قد تزيد من احتمالية المشاركة في سلوكات تحاول تغييرها أو تجنبها (كالتدخين).

قد يكون التفريق بين المشاعر القوية والانفعال أمراً محيراً، فلا يوجد فقط أوجه تشابه عديدة فقط بين الحالتين العاطفيتين؛ بل إنَّ تجربة كلٍّ منهما تختلف من شخص لآخر؛ فتوجد بعض الاختلافات الدقيقة التي يمكن أن تساعد على توضيح الحالة التي تعيشها بالفعل.

شاهد بالفيديو: 6 عادات لتحسين الصحـة العقلية

يتركَّز الانفعال حول الماضي؛ أمَّا المشاعر القوية؛ ففي الغالب تتركَّز حول الحاضر:

عندما ينفعل شخص ما، فهذا يعني أنَّه يعاني رد فعل سلبي عاطفي أو جسدي قوي لمحفز ما، قد ينطوي على استجابةٍ من أيٍّ من حواسنا الخمس.

إذا تعرَّض شخص ما للإساءة عندما كان صغيراً، فقد لا يتذكر كثيراً عن الشخص الذي أساء إليه، لكن بعد سنوات عديدة، يمكن أن تتسبب نفحة من عطر هذا الشخص سيلاً من الذكريات والعواطف غير السارة، وتسبب نوبة هلع أو تدفع الشخص لينأى بنفسه.

الشخص الذي يتعافى من إدمان الكحول ويحضر حدثاً لم يتوقع فيه تقديم الكحول قد ينفعل أيضاً عند رؤية النادل أو زجاجات الخمر، وتغمره مشاعر الخوف أو الغضب إضافةً إلى بعض الأعراض مثل التنفس السطحي والهيجان.

تعيد المحفزات إحياء الذكريات المؤلمة أو الصادمة أو الرغبة الشديدة في ممارسة السلوكات المدمرة وغير الصحية التي تحاول تغييرها، في حين أنَّ المشاعر القوية تكون في الغالب مزعجةً أو غير مريحة مقارنةً مع اللحظة التي سبقتها فقط.

إذا علَّق شخص ما على وزنك أو مظهرك، فقد يحفز ذلك استجابةً عاطفية سلبية في الوقت الحالي، مثل الشعور بالإهانة أو الخيانة، ومع ذلك فإنَّ هذه المشاعر رغم كونها مروِّعة، قد تكون مركِّزة على الحاضر فقط، وليست متجذرة في صدمات أو سلوكات سابقة مرتبطة باضطراب الصحة العقلية.

لكن بالنسبة إلى شخص يعاني اضطراب الأكل، قد تؤدي هذه التعليقات نفسها إلى سلسلة من الذكريات المؤلمة والمعتقدات الخاطئة التي تجعلهم يشعرون بأنَّ صدماتهم السابقة قد عاودت الظهور، ممَّا يؤدي إلى انتكاس المرض.

لا توجد درجات للانفعال على عكس المشاعر:

وفقاً لما كان مقصوداً من المصطلح في الأصل، فقد تكون منفعلاً أو لا، وقد يكون الشخص قادراً على الحفاظ على بعض الوعي في الواقع الحالي، ولا ينغمس تماماً في ذكريات الماضي؛ لكنَّه ما يزال منفعلاً.

قد تكون بعض محفزات الانفعال أكثر أو أقل قوة وتؤدي إلى ردود فعل أكثر أو أقل حدة، وقد تكون حتى سلسلة متصلة لا نهائية، لكن أيُّ شيء قد تواجهه يكون محفزاً لانفعالك أو غير محفز، وقد تتأثر المشاعر في عدد من العوامل من ناحيةٍ أخرى.

عودةً إلى تلك التعليقات عن مظهرك: إذا كنت تستمتع بيوم رائع، فقد ترد على التعليقات بردٍّ مناسب وتكمل يومك، بينما بعد يوم قاس في العمل، من المحتمل أكثر أن تغضب، علماً أنَّ التعليقات المستمرة عن مظهرك، أو أيِّ نوع آخر من الضغوطات المحددة والمستمرة، يمكن أن تتفاقم في عقلك وتتحول إلى محفز مع مرور الوقت.

يمكن للانفعال أن يعوق أداءك اليومي:

لا توجد طريقة واحدة تناسب الجميع للتمييز بين المحفز والمشاعر القوية نظراً لأنَّ محفزات الانفعال شخصية جداً، ومع ذلك عندما تمنعنا فكرة أو تصرُّف أو شعور ما من عيش حياتنا أو تعوق أداءنا اليومي، من الأفضل اللجوء إلى المشورة الطبية لاكتساب منظور أفضل.

إذا أبدى شخص رد فعل أقوى من ردود فعله الأخرى المعتادة، فإنَّ الأمر عندها يستحق التحقق، والتجنب أو الخوف الشديد أو التهيج والكوابيس جميعها أمثلةٌ على الأعراض التي يجب مناقشتها للتحقق من أنَّ الشخص يبدي استجابة صدمة أم استجابة خوف.

إشارات إلى أنَّك تستخدم صفة "منفعل" بطريقة غير محترمة:

على الرَّغم من أنَّ المصطلح اليوم أصبح مرادفاً للمشاعر القوية وغير السارة وطريقةً لوصف كيفية استجابة الناس لحدث مثير للانفعال، لا يعني ذلك أنَّنا ينبغي ألا نكون أكثر وعياً في استخدامنا له في محادثاتنا اليومية.

إحدى الطرائق التي غالباً ما يستخدم بها الناس المصطلح المستخدم بطريقةً غير محترمة هي عندما يقول أحدهم: "لقد انفعلت كثيراً في أثناء ذلك"، إنَّ هذا لا يبطل تجربة الشخص المنفعل فقط؛ لكنَّه يخبره أيضاً أنَّه يتصرف تصرفاً غير لائق، وهو أمر مؤذٍ وغير مفيد، ناهيك عن كونه غير صحيح.

عادةً ما يعرف الشخص المنفعل أنَّه أبدى رد فعل قوي لا يتناسب مع اللحظة الحالية، وقد يكون محرجاً من ذلك؛ لكنَّ التعليقات القاسية لن تفيد شيئاً سوى وصمه بالعار وإيقاعه في شرك صدمته النفسية.

بالمثل، عندما تخبر شخصاً ما أنَّه سبَّب لك الانفعال أو أنَّ موقفاً سبَّب لك ذلك، فقد تقلل عن غير قصد من تجربة شخص مصاب باضطراب عقلي، فإنَّ انزعاجك بسبب تأخر صديقك لا يماثل رؤية تذكير بصدمةٍ نفسية سابقة، التي تسبب لك الخوف والقلق الشديدين.

شاهد بالفيديو: كيفية التحكم بالانفعالات وضبط النفس

3 استراتيجيات للتعامل مع الانفعال:

توجد طرائقٌ عديدة للتعامل مع الانفعال، وتختلف فاعليتها من شخص لآخر، لكن هذه الاستراتيجيات الثلاث تنجح عادةً بالنسبة إلى معظم الناس:

1. عيش اللحظة الراهنة:

عندما تتفعل استجابة الكر أو الفر وتبدأ في الشعور بالذعر واسترجاع صدمات الماضي، قد تساعدك هذه الاستراتيجية على العودة إلى اللحظة الحالية وتقليل مستوى الاستثارة، وإنَّ أبسط طريقة للقيام بذلك هي التدرب على التركيز على الحواس الخمسة.

ابدأ بتسمية خمسة أشياء يمكنك رؤيتها، ثم المس أربعة أشياء في محيطك، وحدد ثلاثة أشياء يمكنك سماعها، ولاحظ شيئين يمكنك تذوقهما وابحث عن شيء يمكنك شمه، مثل شمعة أو زيوت عطرية.

2. إرخاء العضلات:

على غرار عيش اللحظة الراهنة، يسمح لك إرخاء العضلات بتقليل مستوى التوتر العضلي الذي قد يصاحب الانفعال. لذا ابدأ بشد قبضتيك لمدة ثلاث ثوان، ثم حررهما، وكرِّر الشد لمدة ثلاث ثوانٍ أخرى ثم حرِّر مرة أخرى. كرِّر التمرين ليشمل جميع العضلات الرئيسة في جسمك واحدة تلو الأخرى، مثل عضلات الساعد وعضلات الكتفين والوجه والبطن والساقين والقدمين؛ مع الشد لمدة ثلاث ثوان مرتين.

3. التواصل الاجتماعي:

إنَّ التحدث إلى صديق أو أحد أفراد الأسرة يساعد على تقليل مستوى التوتر والتهيج، وإن لم تتحدث عما أثار انفعالك، وبمجرد ملاحظة أعراض الانفعال، مثل تسارع ضربات القلب وصعوبة التنفس وتسابق الأفكار والشعور بالتجمد، تواصَل فوراً مع شخص يجعلك تشعر بالراحة.

إنَّ الأفكار اللاعقلانية ليست منطقية؛ لذلك لا فائدة من محاولة التفكير فيها؛ فالشيء الوحيد الذي يمكنك فعله هو أن تقبل وجودها وتلهي نفسك حتى تهدأ تلك الأفكار.

إقرأ أيضاً: كيف تسيطر على مشاعر الانفعال الزائد

في الختام: كيف تساعد شخصاً منفعلاً؟

عندما ينفعل شخص ما، يبدو عادةً أنَّ ردود أفعاله أو سلوكاته غير مرتبطة بواقع اللحظة الحالية، وقد لا يبدو أنَّهم ينظرون إليك أو يتحدثون إليك، قد يصرخون أو يركضون أو يتجمدون أو يهاجمون أو يختبئون، بينما تتساءل عما حدث للتو.

أفضل شيء يمكنك القيام به هو عدم الرد عليهم أو عدم جعلهم يشعرون بالخزي، خلال هذه النوبة، تأكَّد من وجودك بجانبهم لدعمهم والقيام بما قالوا لك إنَّه مفيد لهم، سواء كان ذلك تشتيت انتباههم أم إخراجهم من الموقف أم جعلهم يضحكون.

إقرأ أيضاً: ما هي الانفعالات وأنواعها؟ وما مدى تأثيرها على الصحة

إذا لم يشاركوا معك أسباب انفعالهم أو آليات التكيف التي يتبعونها، يمكنك أن تحاول إعادتهم إلى اللحظة الحالية؛ لكنَّ ذلك يتعلق أكثر بمدى التفاهم المتبادل بينكم، وفي بعض الحالات تكون أفضل مساعدة يمكنك تقديمها هي عدم فعل أيِّ شيء على الإطلاق.




مقالات مرتبطة