العاطفة بين الإهمال والإغراق

حديثنا في هذه المقالة حديث ذو شقين: حديث حول الإهمال، وحديث حول الإغراق. وقبل أن ندخل في موضوعنا، لا بد لنا أن نقف وقفة سريعة على عجل حول ما قاله بعض أئمة اللغة عن معنى هذا المصطلح الذي شاع حول حديثنا وصار على لسان الصغير والكبير.



يقول ابن فارس: "العَطفُ أصل صحيح، يدل على انثناءٍ واعوجَاج، يُقال عَطفتُ الشَيء إذا أَمَلتَه، وانعَطَفَ الشَيءُ إذا انعاَج، وتَعطَّفَ بالرحمة تعطُّفاً، والرجل يَعطِفُ الوسادة يُثنيها، ويقال للجانبين العطفَان".

وقال في اللسان: "وتَعطَّف عليه أي وصلَه وبرَّه، وتَعطَّف على رَحِمِه رقَّ لها، والعَاطِفَة الرحِم صفة غالية، ورجل عَاطِف وعَطَوف عائد بِفَضْله حَسَن الخُلق".

قال الليث: "العَطَّاف الرجل الحَسَن الخُلُق العَطُوف على الناس بِفَضلِه وعَطَفتُ عليه أشْفَقْتُ". وهكذا نرى أنَّ "المعنى اللغوي" لا يبتعد كثيراً عما يُطلق عليه بالمصطلح المعاصر "العاطفة" وإن كانت أخذت أمداً أبعد من ذلك.

فحين تُطلق العاطفة فإنَّها "تطلق على تلك المشاعر المتدفقة السيَّالة التي تدفع الإنسان لاتخاذ مواقف من القبول أو الرفض، أو الحب أو الكره، تُطلق على تلك الحماسة التي تتوقَّد في نفس صاحبها، لقبول هذا العمل أو رفضه".

وصار الحديث كثيراً حول العاطفة حديث الرفض، وحديث الانتقاد؛ أي يكفي لتجرح فلاناً من الناس أن تصفه بأنَّه "صاحب عاطفة"، أو بأنَّه "صاحب حماس" أو كما يُقال: "متحمِّس"، صارت كلمة جرح مطلقاً، وهذا يعني أنَّ فاقد العاطفة وفاقد الحماس هو الرجل الأولى بالتعديل.

إنَّنا ومع شعورنا بإغراق؛ بل ومزيد من الإغراق في العاطفة، ومع شعورنا بأنَّ ثمَّة مواقف تدفع إليها العواطف كثيراً لا بد أن نحجِّمها ونحُد منها، إنَّنا مع ذلك ينبغي ألَّا نهمل دور العاطفة وألَّا نقع في خطيئة الإهمال لها.

إهمال العاطفة:

إنَّ الدعوة إلى إهمال العاطفة كما قلنا، دعوة بحاجة إلى مراجعة وإلى إعادة النظر إلى أمور، منها:

أولاً، خلق الله العاطفة في الإنسان أصلاً:

فقد خلقه يحمل مشاعر وعواطف من الحب والكره، والقبول والرفض والحماس. فالدعوة إلى إلغائها دعوة إلى تغيير خلق الله، والدعوة إلى إلغائها أنَّها خُلقت عبثاً، وحاشا لله عز وجل أن يكون في خلقه عبث، فهو سبحانه ما ركَّبَ هذه العاطفة في نفس الإنسان إلا لحكمة، ولمصلحة لا بد أن تتحقق من ورائها.

ثانياً، يتفق العقلاء من الناس على وصف فاقد العاطفة بأنَّه رجل شاذ:

فالرجل الذي لا تتحرك مشاعره، فلا يرقُّ قلبه لمشهد يثير الرقة والعطف، ولا يملك مشاعر الحب تجاه الآخرين أو مشاعر الرفض تجاه من يُرفَض، الرجل الذي لا يمكن أن تتوقَّد في قلبه حماسة أيَّاً كان الموقف، لا شك أنَّه رجل شاذ فاقد للإحساس والعواطف.

بل إنَّ الناس يرون أنَّ الرجل الذي لا يحس بالجمال، ولا يتذوقه في هذه الدنيا، رجل شاذ، فهو وصف مخالف للفطرة السوية، ولهذا، حين جاء رجل إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ورآه يقبِّل صغيراً، قال: تقبِّلون صغاركم؟ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "أو أملك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟".

إنَّه رجل شاذ بعواطفه، إنَّه كما قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "قد نُزعت من قلبه الرحمة" فصار تصرُّفه وسلوكه سلوكاً غير مُرضٍ ومرفوضاً، يستنكر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم على هذا الصحابي رضوان الله عليه، أن لا يملك في قلبه الرحمة، والرقة والعاطفة تجاه هؤلاء الصبية الصغار، فصار لا يُقبِّل أحداً منهم.

إقرأ أيضاً: طريقة تعليم الطفل العواطف والمشاعر

ثالثاً، حين نقرأ سيرة الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم نجد مواقف شتى تدل على هذا المعنى:

وسواء سميناها عاطفةً أم لم نسمِّها كذلك فلا مُشاحة في الاصطلاح، ولا يجوز أبداً أن نقيم جدلاً وحرباً حول المصطلحات والألفاظ، سمِّها ما شئت الهام أنَّها تعني الذي نريد، وإن اصطلحنا نحن على تسميتها بالعاطفة، فإنَّ هذا لا يعني أنَّ وصف العاطفة لفظ تهمة أصلاً ولفظ جرح، يتردد المرء من أن يصف به فلاناً من الناس فضلاً أن يصف به محمداً صلَّى الله عليه وسلَّم.

وإن اخترت أن تبحث له عن لفظ غير هذا فأنت وما تريد لكنَّنا نريد المعنى، ولسنا نقيم جدلاً حول هذا المصطلح وحول هذا اللفظ.

كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يملك هذا الشعور: يملكه مع زوجاته، ففي حجة الوداع تأتي زوجه عائشة رضي الله عنها وقد حاضت ولم يتيسر لها أن تأتي بعمرة قبل الحج، فتأتيه فتقول: يذهب الناس بحج وعمرة وأذهب بحج؟ ثم تلحُّ عليه صلَّى الله عليه وسلَّم، يقول جابر: وكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا هوت أمراً تابعها عليه، ويواعدها المحصَّب أو الأبطح ثم تذهب مع أخيها فتعتمر فتأتي إليه صلَّى الله عليه وسلَّم فيُوقظ ثم يقول: "أفرغتم؟" فتقول: نعم؛ فيؤذن أصحابه بالرحيل.

وفي موقف آخر أبعد من هذا كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه في غزاة ففقدت عقداً لها رضي الله عنها وحبس النبي صلَّى الله عليه وسلَّم الناس يبحثون عن هذا العقد، ويأتي أبو بكر الصديق رضي الله عنه إليها والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم نائم على حجرها فيقول: "حبستِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم والناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماء ؟!" قالت: "فما يمنعني أن أتحرك إلا مقام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على فخذي" حتى آيسوا من هذا العقد فلما أقاموا البعير وجدوه تحته، وتدركهم الصلاة وليسوا على ماء، فتنزل آية التيمم فيقول أسيد رضي الله عنه: "ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر".

يحبس النبي صلَّى الله عليه وسلَّم الجيش كله، ويبقيه يبحث عن هذا العقد، والقضية ليست قضية رجل يتعلق بالدنيا حاشا وكلا، إنَّما هي مراعاة لمشاعر تلك المرأة، فيحبس النبي صلَّى الله عليه وسلَّم الجيش ويحبس الناس، ويأتي أبو بكر الصديق رضي الله عنه غاضباً إلى عائشة؛ وذلك لأنَّها حبست الناس ويبقيهم صلَّى الله عليه وسلَّم حتى أدركتهم الصلاة وليسوا على ماء وليس معهم ماء.

وتأتي رضي الله عنها تنظر الى أهل الحبشة وهم يلعبون في المسجد ويقف صلَّى الله عليه وسلَّم يسترها وهي جارية لا يمل حتى تمل اللعب وتنصرف، فينصرف.

ونرى أيضاً هذا الخُلق عنده صلَّى الله عليه وسلَّم وتلك الرِّقة مع الأولاد فيأتي إليه الصبيُّ فيُقبِّله صلَّى الله عليه وسلَّم فيعترض عليه رجل جالس عنده، فيقول: "تُقبِّلون الصبيان؟ إنَّ لي عشرة من الولد ما قبَّلت أحداً منهم"، فيقول صلَّى الله عليه وسلَّم: "أوَ أملك أن نزع الله من قلبك الرحمة".

وفي الحديث الآخر ـ أيضاً ـ يقول صلَّى الله عليه وسلَّم: "من لا يَرحَم لا يُرحَم".

ويُؤتى بالنبي صلَّى الله عليه وسلَّم وصبيٌّ يحتضر وروحه تقعقع فيحمله صلَّى الله عليه وسلَّم ثم تنزل قطرات من الدمع من عينيه ويتساءل أصحابه: كيف لهذا القلب الكبير أن يرق؟ كيف له أن يحمل هذه العاطفة لمثل هذا الصبي، فيُقال ما هذا؟ فيقول: "هذه رحمة يجعلها الله في قلوب من يشاء من عباده".

ويموت ولده إبراهيم ويبكي صلَّى الله عليه وسلَّم ويقول: "إنَّ العين تدمع، وإنَّ القلب يحزن، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا، وإنَّا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون".

في حين يأتي أحد المتصوفة ويرى أنَّه سيبلغ هدياً أكمل من هدي النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يشعر أنَّه قد أُمر بالصبر على فقدان أولاده والرضا لهم، فحين يموت ولده يقوم هذا الرجل يرقص على قبره، فرحاً بهذه المصيبة، ويظن أنَّه قد بلغ من الرضا بقضاء الله عز وجل وقدره منزلة عالية؛ بينما هو قد فقد تلك المنزلة العالية التي سما إليها النبي صلَّى الله عليه وسلَّم حين يجمع بين الصبر والرضا بقضاء الله عز وجل، ويجمع بين الرحمة والرقة والعاطفة، التي لا يفتقدها إلا إنسان شاذ.

ويأتي الحسن والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم يصلِّي ساجداً، فيصعد على ظهر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، كما روى النسائي من حديث عبد الله بن شداد رضي الله عنه فيطيل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم السجود، حتى يقوم هذا الغلام فيسأله أصحابه فيقول: "إنَّ ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أقوم حتى يقضي حاجته".

ويدخل وهو يخطب صلَّى الله عليه وسلَّم فينزل من على منبره ثم يحمله ويعود إلى خطبته ويقول: "إنَّ ابني هذا سيِّد وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين".

وتتجاوز رحمة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وعطفه بني الإنسان إلى البهيمة والحيوان، فيروي عبد الله بن جعفر عنه أنَّ أحب ما استتر إليه لحاجته هدف أو حائش نخل، فيدخل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم حائطاً لرجل من الأنصار فإذا به جمل فلما رأى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم حنَّ وذرفت عيناه، فأتاه رسول الله فمسح دفراه فسكت، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: "من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟" جاء فتى من الأنصار فقال لي: يا رسول الله، فقال له: "أفلا تتَّقي اللَّهَ في هذِهِ البَهيمةِ الَّتي ملَّكَكَ اللَّهُ إيَّاها؟ فإنَّهُ شَكا إليَّ أنَّكَ تُجيعُهُ وتُدئبُهُ" - رواه أبو داود.

وفي حديث آخر عند أبي داود من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما عن أبيه قال: "كنا مع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حُمَّرة معها فرخان فأخذنا فرخيها فجاءت الحُمَّرةُ فجعلت تفرش فلما جاء رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "من فجع هذه بولدها ؟ ردوا ولدها إليها".

أرأيتم ذلك القلب الكبير العظيم، الذي لم تقف رحمته عند حدود زوجته أو عند حدود رعيته، أو حتى عند الأطفال لتتجاوز إلى الحيوان، فيكلم النبي أحد أصحابه في شأن جمل له يجيعه ويذله وكأنَّ هذا الجمل يشعر ويرى، هذا القلب الرحيم حين رأى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فتذرف عيناه مرسلة رسالة إلى النبي صاحب الرحمة المرسَلِ رحمةً للعالمين بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى.

فهو رحمة للناس من عذاب جهنم ومن فيحها، وهو رحمة للناس في أمور دينهم وهو صلَّى الله عليه وسلَّم رحمة حتى لهذه البهائم، ولهذا يصفه الله عز وجل فيقول: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)، (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ).

ويصفه حسَّان رضي الله عنه بأوصاف يعجز عنها البلغاء:

وأجمل منك لم ترَ قط عيني         وأحسن منك لم تلد النساءُ
خُلقتَ مبرءاً من كل عـيب كأنَّك قد خُلقت كما تشاءُ

 

كان عطوفاً عليهم رؤوفاً بهم صلَّى الله عليه وسلَّم ولهذا لا غرو أن يقولوا حين دفنوه: "ما إن نفضنا التراب عن أيدينا حتى أنكرنا قلوبنا" وكيف لا ينكرون قلوبهم.

لقد غيبوا علماً وحلماً ورحمةً       عشية واروه الثرى لا يوسدُ
وراحوا بحزنٍ ليس فيهم نبيهم وقد وهنت منهم ظهورٌ وأعضدُ

 

ووصف صلَّى الله عليه وسلَّم شاعرٌ آخر فقال:

وإذا رحمت فأنت أم وأبُ         هذان في الدنيا هم الرحماء
وإذا خطبت فللمنـابر هزة وإذا وعظت فللقلوب بكاء

 

هذا هو النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وهذا هو هدي صاحب القلب الكبير الرحيم العطوف، الذي مع ما يحمله من عبء الرسالة وهم حمل هذه الديانة والشريعة إلى البشرية كلها مع ذلك كله يجد في قلبه الغلام مكاناً له، والحيوان يجد مكاناً له لرأفته ورحمته صلَّى الله عليه وسلَّم.

أفبعد ذلك كله نطالب الناس أن يتجردوا عن عواطفهم ومشاعرهم وعما جبلهم الله عز وجل عليه!

إقرأ أيضاً: التعاطف أساس النجاح في العلاقات الاجتماعية

رابعاً، للعاطفة أثرها الذي يُذكر في إذكاء حماسة المسلمين للجهاد في سبيل الله ونزال العدو:

لقد وقف المسلمون في غزوة مؤتة حين بلغهم جمع الروم، وقفوا يتشاورون ماذا يصنعون؟ هل يطلبون مدداً من النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أم يرجعون؟

قال ابن اسحاق ثم مضوا حتى نزلوا معنا من أرض الشام فبلغ الناس أنَّ هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مئة ألف من الروم، وانضم إليه من لخم وجذام وبلقين وبهراء وبلي مئة ألف منهم عليهم رجل من بلي، ثم أحد أراشة يقال له مالك بن رافلة.

وفي رواية يونس عن ابن إسحاق فبلغهم أنَّ هرقل نزل بمآب في مئة ألف من الروم ومئة ألف من المستعربة فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين ينظرون في أمرهم وقالوا نكتب إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم نخبره بعدد عدونا فإما أن يمدنا بالرجال، أو أن يأمرنا بأمره فنمضي له، قال: فشجع الناسَ عبدُ الله بن رواحة، وقال: يا قوم والله إنَّ التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنَّما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور أو شهادة، قال فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة فمضى الناس.

وقال ابن إسحاق فحدَّثني عبد الله بن أبي بكر أنَّه حدَّث عن زيد بن أرقم قال كنت يتيما لعبد الله بن رواحة في حجره فخرج بي في سفره ذلك مردفي على حقيبة رحله فو الله إنَّه ليسير ليلتئذ سمعته وهو ينشد أبياته هذه:

إذا أدنيتني وحملت رحلي       مسيرة أربع بعد الحساء
فشأنك أنعم وخلاك ذم ولا أرجع إلى أهلي ورائي
وجاء المسلمون وغادروني بأرض الشام مستنهى الثواء
وردك كل ذي نسب قريب إلى الرحمن منقطع الإخاء
هنالك لا أبالي طلع بعل ولا نخل أسافلها رواء

 

قال زيد فلما سمعتهن منه بكيت فخفقني بالدرة وقال ما عليك يا لكع أن يرزقني الله الشهادة وترجع بين شعبتي الرحل.

وكأنَّك ترى في حال هذا الصحابي الجليل وقد خرج عاقداً العزيمة ألا يعود، ويسأل الله عز وجل أن يخلفه المسلمون بأرض الشام.

وحين قُتل صاحباه وتقدم، تردد وتلكأ فقال أبياتاً يستحث فيها نفسه:

أقسمت يا نفس لتنزلنه لتنزلن أو لتكرهنه       إن أجلب الناس وشدوا الرنه
مالي أراك تكرهين الجنه قد طال ما قد كنت مطمئنه

 

فيخاطب نفسه بهذه الأبيات ثم يدفعها إلى ميدان الشهادة، فيمضي رضي الله عنه مع صاحبيه، وهكذا حين تقرأ في السيرة أنَّه قبل المعركة يجمع القائد جنده وجيشه فيخاطبهم ويحمسهم ويحثهم على الاستشهاد في سبيل الله ويبين لهم فضل الشهادة وفضل الجهاد، حتى يوقد حماستهم وعزيمتهم إليه، أيسوغ بعد ذلك أن ندعوا إلى إلغاء الحماسة والعاطفة وهو يفعل فعله في النفوس؟

إقرأ أيضاً: تعبير الأطفال عن مشاعرهم: خطوة مُنجية من الوقوع في شرك الكبت

خامساً، العاطفة شيء هام في التربية:

وحين يفقد المربي العاطفة، فإنَّه ينشأ شاذاً وهي صورة نراها فيمن مات أبوه أو ماتت أمه، وتربى عند زوجة أبيه أو عند غيرها من النساء التي لا تشعر تجاهه بشعور الأم الحنون، كيف ينشأ هذا الشاب؟

ذلك أنَّ ثمة حاجة مُلحَّة لهم فقدوها ألا وهي الحنان والعاطفة، ولهذا يتربى هذا الشاب بعقل أبيه وحجره ويتربى -أيضاً- بعاطفة أمه.

ولحكمة بليغة خلق الله عز وجل العاطفة في الأم، عاطفة تذوب عندها أي عاطفة تلتقي في نقطة اتزان مع عقل الأب وحصافته، فيعيش الشاب ويعيش الطفل بين هذين الخطين المتوازيين فيعيش متوازناً مستقرَّاً.

وحين يُشدُّ أحد الخيطين أكثر من صاحبه، أو يُفقد أحدهما فإنَّه يعيش عيشة غير مستقرة، ومن ثم فلا غنى للصغير عمن يحوطه بالعاطفة، وعمن يحنُّ ويشفق عليه، وحين ينشأ خلاف ذلك فإنَّ الغالب فيه أن ينشأ فاقداً لهذا الإحساس، وفاقداً لهذا الشعور.

إنَّنا مع ذلك كله نسمع من يدعو إلى إلغاء العاطفة؛ بل من يُدرج العاطفة ضمن مراتب الجرح، فيصف فلاناً بأنَّه صاحب عاطفة، أو بأنَّه متحمس، وكم نرى العتبى واللوم على ذاك الذي أغاظه انتهاك حرمة من حُرم الله عز وجل فدارت حماليق عينه وغضب لله عز وجل، حينئذ يوصف بأنَّه متحمس، وطائش، وبأنَّه لا يحسب عواقب الأمور.

أما ذاك الذي يرى المنكرات ويرى مصائب المسلمين ويرى أجساد المسلمين تُقطع إرباً إرباً ومع ذلك لا تهتز مشاعره، ولا تتحرك عواطفه، ذاك يوصف بأنَّه رجل حكيم حصيف لبيب يضع الأمور في مواضعها.

إنَّني أحسب أنَّ هذه قسمة ضيزى، أحسب أنَّ هذا جوراً في الحكم.

ولقد كان الغضب والحمية لدين الله عز وجل خُلقاً عند أصحاب النبي صلَّى الله عليه وسلَّم؛ بل قبل ذلك عند النبي صلَّى الله عليه وسلَّم؛ حيث كان هيِّناً سهلاً ليِّناً فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء.

وكما أنَّنا ننكر على من يكون دافعه ووقوده الحماس والعاطفة وحدها، فإنَّنا أيضاً ينبغي أن ننكر وبالقدر نفسه على ذاك المتبلد الحس، الذي يرى مصائب المسلمين، ودماءهم تجري، وحُرُمات الله تُنتهك ودينه يُنقض عروة عروة، ومع ذلك لا يحرك فيه ساكناً، ولا يثير فيه حمية، ولا يغضب لله عز وجل.

ننتقل بعد ذلك إلى الحديث عن الشق الثاني، وهو:

شاهد بالفيديو: 6 عادات يومية لتنمية الذكاء العاطفي

الإغراق في العاطفة:

إنَّ الوسط سنة الله عز وجل في الحياة، فالمسجد الذي نصلي فيه، حين يزداد فيه التبريد يصل إلى حدٍّ مزعجٍ، ولا نطيق الصبر عليه، وحين ينقص عن القدر المعقول، يؤلم الناس الحر، ويزعجهم فلا يُطيقون الصبر عليه، وهكذا الطعام حين يكون بالغ العذوبة لا يستسيغه المرء، وحين يكون بالغ الملوحة كذلك، وشأن الله عز وجل في الحياة كلها الوسط؛ فالتطرف أمر مرفوض، ودين الله عز وجل قائم على الوسط.

وهو وسط بين الغلو والجفاء، فكما أنَّ إهمال العاطفة وإلغائها أمر مرفوض، فالإغراق فيها والتحليق في التجاوب معها هو الآخر أمر مرفوض وينبغي أن نكون وسطاً بين هذا وذاك.

وإن كنا أفضنا في الحديث عن الشق الأول إلا أنَّنا ـمعشر جيل الصحوةـ أحوج ما نكون إلى الحديث عن الشق الثاني وهو الإغراق في العاطفة، فنحن نعاني من إغراق في العاطفة، تختلف في صورها ومظاهرها، ومجالاتها:

الصورة الأولى، أن تحكمنا العاطفة في الحكم والتقويم:

فحين نحكم على فلان من الناس، سلباً أو إيجاباً، وحين نحكم على عمل من الأعمال الإصلاحية، والأعمال الإسلامية، وحين نقيِّم الناس، فإنَّنا لا يسوغ أن نندفع وراء عواطفنا، فنفرط في المدح والثناء، ونُحلِّق في أجوائها بعيداً عن الرؤية الأخرى؛ أي جوانب القصور، وجوانب الخلل.

فلا يسوغ حين نقيِّم أعمالنا وجهودنا، أن تكون العاطفة هي المعيار الأوحد للتقييم والحكم، ومن يحكَّم العاطفة في حكمه، لا بد أن يكون شخصية متطرفة إما ثناءً أو ذمَّاً، إما سلباً أو إيجاباً، فكثيرة هي الأحكام التي نطلقها من وحي العاطفة فقط، في أحكامنا ومواقفنا من الرجال والأعمال والجهود والمواقف، كثيراً ما يكون الحاكم الأول والأخير، والقاضي والشهود والمدعي هم العاطفة وحدها.

وحينئذ لا بد أن يكون الحكم حكماً جائراً بعيداً عن العدل، إنَّنا ومع تأكيدنا على أنَّ الثناء على من يُحسن أمر مطلوب، وأنَّ الإعجاب بمن يستحق الإعجاب أمر لا يُدعى إلى إلغائه والتخلي عنه، لكنَّنا مع ذلك لا يسوغ أن نُفرِط، ولا أن تحكمنا العاطفة وحدها في ذلك، وكثيراً ما تتحكم العاطفة في تقييم مواقف كثيرة من مواقف العمل الإسلامي، فتقود إلى نتائج مؤلمة.

أضرب لكم مثالاً: تجربة عشناها، كنا أغرقنا فيها، وتجاوبنا فيها مع العاطفة أكثر مما ينبغي؛ تجربة الجهاد الأفغاني، لقد بدأ هذا الجهاد، وقد نسيت الأمة الجهاد كله، بدأ وقد ضرب على الأمة الذل والهوان، وظنت الأمة أنَّها لن تعرف الجهاد ولن تراه.

وصار حتى الذين يُدرِّسون الفقه يقفز بعضهم باب الجهاد؛ وذلك لأنَّه لم يعد له مجال وميدان، فجاء أولئك وأحيوا في الأمة هذه الفريضة، وأحيوا سنة قد أُميتت وفريضة قد نسيتها الأمة، وحينئذ استفاقت الأمة، استفاقت على هذا الصوت، وإلى داعي الجهاد، وصُدمت بأولئك الذين خرجوا في تلك البلاد وقاموا لله عز وجل وأحيوا الجهاد في سبيله، وكان جهاداً حقاً ولا شك، وقام بدور كبير في إحياء الأمة ولا شك، لا يسوغ أبداً أن يُطوى، ولا أن يُهمل، لكنَّ الذي حصل أنَّنا أغرقنا كثيراً في العاطفة.

لقد بدأ الجهاد وفيه أخطاء، وانحرافات، وخلافات -شأن جهود البشر- فما بالكم بهذا الواقع الذي تعيشه الأمة، وما الجهاد الأفغاني، وما الأعمال الإسلامية كلها إلا إفراز لواقع الأمة الذي تعيشه.

وبدأ الجهاد وفيه ما فيه، من خطأ وخلل وفرقة وانحراف وفي الصف منافقون، ومع ذلك كله كان جهاداً شرعياً، كان جهاداً يستحق الدعم من الأمة، وأن تقف في صفه، لكنَّ الذي حصل أنَّنا أغرقنا في العاطفة فرفعنا منزلة أولئك إلى منزلة قريبة من أصحاب النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وإلى الملائكة.

وصرنا نفرط في الحديث عن الكرامات، ونستدل بها، ومنها ما كان صحيحاً، ومنها ما كان لا يقبله عقل ولا منطق؛ بل ما كان منها من رواية أهل الخرافة الذين اعتدنا على هذه الأباطيل منهم، وصرنا نتهم من يُشككُ في شيء منها بأنَّه من المخذلين، ومن يتحدث عن أخطاء الجهاد، وعن أخطاء المجاهدين ومن يُطالب بتنقية الصف، بأنَّه من المعوقين، فكنا دائماً نسمع التستر على الأخطاء، ودفن العيوب ونتجاوب في عاطفة جيَّاشة، ونتصور أنَّ ذكر الأخطاء والحديث عنها لا ينبغي، ولا يحقق المصلحة ويجعل الأمة لا تتجاوب مع هذا الجهاد، وطال عمر الجهاد وجاء وقت قطف الثمر، وما الذي حصل؟ وماذا كان موقف الناس؟

إنَّنا لا زلنا غير آسفين على ريال واحد قدَّمناه للمجاهدين، ولا زلنا غير آسفين على كلمة قلناها في دعمهم لأنَّنا نرى أنَّها كلمة حق، ولا زلنا لم نغيِّر مواقفنا.

لكنَّنا نرى أنَّنا نحن السبب في هذا الخطأ؛ حيث كنا نتجاوب مع العاطفة كثيراً، ونرفض الموضوعية، ونرفض النقد، ونرفض المصارحة؛ وذلك لأنَّ الجهاد أوقد عاطفة في نفوسنا، لم نستطع أن نضبطها، ونحكمها فيما بعد، حتى وصلنا إلى هذه المرحلة، التي يدمينا جميعاً ويؤلمنا أن نسمع تصريح الزعيم الروسي السابق "جورباتشوف" حين يقول: (لو علمنا أنَّ الأفغان سيصنعون ما صنعوا لسَلَّمناهم كابول منذ زمن بعيد).

كم يدرك قلبك المأساة والحزن والأسى وأنت ترى الآن السلاح الذي كان وراءه أموال المسلمين، وترى أولئك الذين صعدوا على جماجم الشهداء من كل بقاع المسلمين، ترى أخاهم يوجِّه السلاح والرصاص لأخيه.

إنَّني هنا لست بصدد تقييم هذا العمل، وهذا الجهاد -وهو مع ذلك لا يزال مفخرة من مفاخر الأمة، وإنجازاً من إنجازاتها- لكنَّ الشاهد هنا هو أنَّنا في تعاملنا مع هذا الحدث كنا نتجاوب كثيراً مع العاطفة، وكنا نُمارس الإرهاب الفكري ونمارس التثبيط ضد أي صوت ناصح يدعو إلى تنقية الصف ويدعو إلى تصحيح المسيرة، وأخشى -أيضاً- أن يقع الخطأ مثله.

وها نحن الآن نشهد الصحوة المباركة، مع ما فيها من إنجازات، ففيها أمراض بحاجة إلى علاج، ومراجعة، ومصارحة، وأن تتحدث عن أخطائها، تحت ضوء الشمس وفي وَضَح النهار، فأرجو ألا تسيطر علينا العاطفة مرة أخرى، فتدعونا إلى التستر على الأخطاء، ودفن العيوب، حتى تستفحل حينئذ وتستعصي على العلاج والمداواة.

إذاً من الإغراق في العاطفة أن تكون العاطفة وسيلة للحكم والتقييم.

الصورة الثانية، كون العاطفة هي المحرك للعمل:

ومن الإغراق في العاطفة -أيضاً- أن تكون هي الدافع الوحيد للعمل؛ أي أن يتجاوب المرء مع عاطفته، فيعمل عملاً، أو يتخذ قراراً، أو يقف موقفاً، والدافع الأول والوحيد له هو العاطفة، لا غير، وهذا عنوان الفشل والانحراف في العواطف.

ومع عدم إهمالنا لدور العاطفة، ومع أنَّنا نرى أنَّه لا بد أن يدفع المرء إلى أي عمل، عاطفة تتوقد في قلبه، ونرى أنَّ من يفقد العاطفة لا يمكن أن يحمل الدافع لعمل وإنجاز -مع ذلك كله- فإنَّنا نرى أنَّ العاطفة وحدها حين تكون الدافع للعمل، فإنَّها ستقود إلى نتائج غير محمودة، ونرى أنَّ التجاوب والإغراق في التفاعل مع العاطفة وحدها، على أنَّه إهمال للطبيعة الإنسانية حتماً، فقد خلق الله الإنسان بعقل وحلم وعاطفة، خلقه بمشاعر وخصائص شتى، والموقف الذي يقفه المرء ينبغي أن يكون إفرازاً لتفاعل كل هذه الخصائص التي فطر الله عز وجل الإنسان عليها، أما حين يكون إفرازاً لعامل واحد فقط فهذا إغراق في العاطفة وغلو وتطرف.

الصورة الثالثة، العلاقات العاطفية:

ومن الإغراق في العاطفة: العلاقات العاطفية التي قد تنشأ بين بعض الشباب، أو بعض الفتيات، فقد ينشأ بين شابين أو فتاتين علاقة ومحبة يتجاوز قدرها، وتعلو حرارتها حتى تتجاوز القدر الذي ينبغي أن تقف عنده، فتتحول إلى عاطفة جيَّاشة، وتتجاوز ذلك الدافع الأول الذي دفع إليها ألا وهو الحب في الله.

وهي صور ومواقف نراها جميعاً، وكثيراً ما ترد إليَّ هذه الشكوى، إما سؤال في محاضرة، أو رسالة يحملها إليَّ البريد، وهي رسائل مؤثرة يحكي صاحبها معاناته مع هذا الجحيم الذي يعيشه من لأواء هذه العلاقة العاطفية ويبحث عن الخلاص والمخرَج، والكثير من هؤلاء يطلب مني ألا أنشر رسالته، مع أنِّي أعرف أنَّه لن يُعرَف من وراء ذلك، لكن ما دمت قد استُؤمنت على ذلك، فلا يجوز أن تخون من ائتمنك، وإلا قرأت عليكم بعض تلك الرسائل التي تصوِّر لكم عمق المعاناة التي يعيشها مثل هذا الشاب.

قد تبدأ هذه العلاقة حبَّاً في الله عز وجل ثم تتطور إلى حد يتجاوز بعد ذلك هذا القدر، تتحول إلى مشاعر عاطفية يُبديها فلان والآخر، ويحاول كل منهما أن يُغلِّف هذه العلاقة بغلاف الحب في الله، ويحاول أن يطعِّم هذا اللقاء بشيء من التواصي وشيء من التعاون على طاعة الله عز وجل، وهي مكائد وحيل نفسية شيطانية حتى يَغفُل عن الداء، والمحرك الأساس.

وحين تستحكم حينئذ يصعب ويَعُزُّ الفراق، فحين ترى زيداً فأنت تنتظر قَطعاً أن يأتي عمرو، وحين يعتذر زيد عن المشاركة فهذا يعني بالضرورة أن يعتذر عمرو هو الآخر، وليس ثمة سبب إلا أنَّه قد اعتذر، وحين يكون الأول مشغولاً مع والده، فسيكون الآخر مشغولاً مع والدته، وإن لم يكن كذلك فثمة شغل هنا أو هناك، والقضية تتحول إلى أن يربط مصيره بمصير فلان من الناس، حتى لا يصبر على فراقه، ولا عن لقائه، وهكذا الشأن أيضاً عند الفتيات.

إنَّها صورة من الإغراق في العاطفة والتجاوب معها، وتقود إلى نتائج خطيرة، وتجعل هذه العاطفة تُحجَبُ عن غير هذا الشاب، فلا يُحب في الله إلا من أحب هذا الرجل ولا يبغض إلا من أبغض هذا الرجل، ويصبح هذا الرجل هو مقياسه، والآخر يبادله الشعور نفسه، وأما أصحابه وخِلاَّنه وإخوانه فلم يعد لهم مكان فسيح في قلبه حيث:

أتاه هواه قبل أن يعرف الهوى     فصادف قلباً خالياً فتمكنا

فاستحكمت هذه العلاقة وهذه المحبة حتى لم يعد في قلب كل واحد منهما مكان لغير صاحبه، ويكتشف أو يكتشفان الخطأ لكن بعد فوات الأوان، وحين يكون قد انساق مع هذه العاطفة وتجاوب معها فيصعب عليه التراجع حينئذ، ويأتي يبثُّ الشكوى ويطرح السؤال كيف الخلاص؟ أشعر أنَّها ليست محبة خالصة لله، أشعر بعمق المأساة والمعاناة إلى غير ذلك.

لكنَّه حينئذ أصبح لا يطيق الصبر والفراق، فيبحث عن العلاج حين قد صَعُبَ عليه ذلك، ولو كان منطقياً، وجاداً، ومقتصداً في بذل المشاعر العاطفية والعبارات التي ترقق العاطفة، لاعتدل فيها.

نقول ذلك ونحن لا نرفض المحبة في الله؛ بل لا نرفض الطبيعة التي تجعل فلاناً من الناس يشعر بارتياح لصاحبه، ويشعر أنَّه يميل إليه أكثر من غيره من الناس وهذه فطرة فطر الله الناس عليها (الأرواح جنود مجندة)، لكن أيضاً يبقى هذا بقدر معين محدود إذا تجاوزه تحوَّل إلى مرض وداء -عافانا الله وإياكم-.

وما على من ابتُلِيَ بمثل هذه المشاعر إلا أن يقطع الطريق من أوله؛ حيث قد يصل إلى مرحلة قد يشق عليه الرجوع بعدها.

إقرأ أيضاً: 7 نصائح ذهبية لتنمية الذكاء العاطفي عند الأطفال

الصورة الرابعة، التربية العاطفية:

فقد تسيطر العاطفة على المربي أياً كان أباً أو أستاذاً أو معلماً فيتعامل مع من يربيه بعاطفة جيَّاشة ويتجاوب مع مشاعره، وتسهم هذه العاطفة في حجب الرؤية السليمة والصحيحة لهذا المربي، الرؤية لواقع من يربيه، وتسهم هذه العاطفة في حجب ما يحتاج إليه، فهو مع حاجته إلى الترغيب، يحتاج إلى الترهيب، ومع حاجته إلى الحب والحنان، يحتاج إلى نوع من الجفاء حين ينفع الجفاء، والخشونة قد تنفع فهي كاليد تغسل أختها.

إنَّ إغراق المربي في العاطفة، يحجب عنه الأخطاء، والعيوب، والموضوعية، والحزم الذي يُحتاجُ إليه في مواقف الحزم، فينساق حينئذ تجاوباً مع هذه العاطفة الجيَّاشة، ويتخذ مواقفه وقراراته ويرسل برامجه استجابةً لتلك العاطفة، فهو يخشى أن يملَّ الشباب، ويتضايق، ويسأم، يريد أن يُنفِّسَ عنهم، ولا تكاد تجد عنواناً أدق لهذه الأوهام وهذه المخاوف إلا التربية العاطفية.

وبعد ذلك يتعامل هذا الشاب مع غير صاحبه فلا يطيق الفراق للأول، وحين ترى من تربيه لا يطيق فراقك، ويضمن إليك حنيناً، حنيناً زائداً فهذا عنوان إغراقك في العاطفة، فإنَّك أيضاً ينبغي أن تربي تلميذك، وينبغي أن تربي من تحت إمرتك على أتم الاستعداد أن يتخلى من غير كره:

كم منزل في الأرض يألفه الفتى      وحنينه أبداً لأول منزل

لكن حين يزداد هذا الحنين فيتأثر القرار به، ويساوم عليه؛ فهذا دليل على إغراق في التربية العاطفية، وجَدَلاً نُقنع به أنفسنا أنَّ هذا عنوان نجاحنا، وعنوان إقناعنا للآخرين؛ وليس هذا إلا حيلة نفسية نخادع فيها أنفسنا.

الله الله في هذا النشأ، الله الله في هذا الجيل، إنَّنا معشر الشباب، معشر المربين بحاجة إلى جيل حازم، ويتحمل المسؤولية، وينتظر أن يُقال له: "لا" فيستجيب، وينتظر أن يُقال له: "سر في غير هذا الطريق" فيسير في غيره.

أما الجيل الذي لا يتجاوب إلا مع عواطفه، ومع مشاعره فهذا لا يَثبُت وقت المحنة، ولا وقت الفتنة ولا يؤمل فيه خيرٌ، وحين تغرق العاطفة في هذه الصور أو غيرها، فإنَّنا لن نجني من الشوك العنب.

إنَّنا سنجني أولاً الغلو ومجانبة الاعتدال، الغلو قبولاً أو رفضاً، والغلو والتطرف أمر مرفوض، ترفضه الطباع السوية والمستقيمة والسليمة، فضلاً عن المتأدِّب بأدب الشريعة وهديها.

وها أنت ترى أنَّك بمجرد أن تصف فلاناً بأنَّه متطرف فإنَّ هذا وحده يكفي في التنفير منه، ونقد موقفه وطريقته، إنَّ المحرك الأول للغلو والتطرف والإفراط هو العاطفة، فالغلو في المدح والثناء ليس إلا تجاوباً مع العاطفة، والغلو في الحبِّ والتعلق هو الآخر، والغلو في الرفض والرد هو الآخر كذلك.

والإغراق في العاطفة مدعاة لمجانبة العدل والإنصاف، فحين يقبل، يقبل جملة، وحين يرفض، يرفض جملة.

إنَّ صاحب العاطفة الذي يتجاوب معها لا يملك أن يضع الأمور في نصابها، ولا أن يقول هذا صواب وهذا خطأ، ولا أن يزن الأمور بميزان العدل، فهو لا يحمل إلا حكمين لا ثالث لهما القبول والرفض، الحب المغرق فيه، والبغض المغرق فيه.

أما طريق الوسط والعدل والإنصاف فهو لا يملكه، وهذا شأن من يشتط ويتطرف، لقد تطرف هو أولاً فاستخدم ميزاناً واحداً، وسار على طريق واحد، هو طريق العاطفة فقاده إلى هذه النتيجة والنهاية المتطرفة، وهو أيضاً يقودنا إلى الوصول إلى نتائج غير سليمة، وغير منطقية وكثيراً ما نجني من حماسة لم تُضبط ولم توزن، أو من عاطفة لم تحكم ولم توزن بميزان العقل والشرع، كثيراً ما نجني منها المواقف الخاطئة، والنتائج التي لا يقتصر وبالها على صاحبها، ولعلكم تتساءلون بعد ذلك ما العلاج؟

قد أكون أسهبت وأطلت في وصف المرض والداء، ولكنِّي أشعر أنَّ وصف الداء يتضمن في ثناياه وصف العلاج والداء.

أشعر أنَّنا حين ندرك أنَّ إهمال العاطفة جملةً أمر مرفوض، فهذا يعني، أن نضع عواطفنا في مواضعها، ونعرف أنَّ من الإيمان أن يتألم المسلم لآلام إخوانه، ويرحم، ويعطف، ويُشفِق، ويتحمَّس في مواضع الحماس، ويُحب في مواضع الحب.

ونشعر أيضاً أنَّ الإغراق في العاطفة هو الآخر أمر مرفوض، وأنَّنا كما قلت نُعاني في جيلنا المبارك الإغراق في العاطفة أكثر من الإهمال.

ونعاني من مواقف كثيرة، نكون فيها أكثر تجاوباً مع العاطفة، فالحل يتمثَّلُ في أن نزن مواقفنا وأعمالنا وأن نفكر فيها، ونشعر بأنَّ الله عز وجل كما خلق فينا عواطف فقد خلق فينا أيضاً عقلاً وحلماً، وأعطانا سبحانه وتعالى علماً بكتابه، وسنة نبيه صلَّى الله عليه وسلَّم، فالله عز وجل قد أعطانا موازين وقيم غير هذا الميزان وحده.

وحين لا نملك إلا هذه الصنعة ولا نزن إلا بهذا الميزان، فإنَّ هذا عنوان التطرف والغلو.

أرى أنَّ العدل والإنصاف، وزن الأمور والتأمل فيها، والمراجعة مما يُعيننا كثيراً على تجاوز هذه النتائج والآثار السلبية، ويبعدنا عن الشطط والغلو، وكلاهما غلو، الرفض والإهمال غلو، والإغراق والمبالغة في التجاوب هو الآخر أيضاً غلو، والوسط بين هذين الطريقين وبين هذين السبيلين فيه النجاة.

أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لطاعته، وأن يجنبنا وإياكم أسباب معصيته وسخطه، ويرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح؛ إنَّه سميع مجيب، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وآله وصحبه.

 

المصدر: تسجيل صوتي للداعية أحمد بن عبد الله الدويش بعنوان: العاطفة بين الاهمال والاغراق




مقالات مرتبطة