العادات ليست ردود فعل متهورة

إنَّ العادة هي أساس الروتين الذي يشكِّل الجزء الأكبر من حياتنا اليومية؛ فعندما لا نشعر بالانزعاج، نعيش حياتنا العملية دون الانخراط في أي شيء يشبه التقييم الحذر لما نقوم به في أي لحظة؛ إذ إنَّ تحضير قهوة الصباح أو اللَّحاق بقطار الصباح للذهاب إلى العمل لا يتطلب التأمل أو التفكير الواعي. وكما قال الفيلسوف الراحل "هوبير دريفوس" (Hubert Dreyfus): إنَّ العادات جزء من "ممارسات التأقلم التي نؤدِّيها كل يوم".



وانسجاماً مع هذا التوصيف للعادات، فإنَّ فلاسفة العقل وعلماء الإدراك على حدٍّ سواء في أغلب الأحيان يتصوَّرون العادات على أنَّها استجابات ميكانيكية وشبه تلقائية للإشارات البيئية التي تتكشَّف خارج نطاق سيطرتنا المدروسة. قد يبدو النظر إلى أنَّ مصدر العادات هو التهوُّر وردود الفعل بديهيَّاً عندما ندرك أنَّها كثيراً ما تؤدي إلى نتائج عكسية تعوق قدرتنا على تحقيق أهدافنا ورغباتنا.

على سبيل المثال، ربما وجد معظمنا في الفترة الأخيرة أنَّنا اعتدنا على مصافحة الناس، حتى عندما اعترفنا سابقاً بضرورة الامتناع عن القيام بذلك في ضوء الجائحة.

ومع ذلك، حتى أكثر تصرُّفاتنا الاعتيادية الدنيوية تظهر في الواقع قدراً كبيراً من الذكاء؛ في الواقع، وفي أغلب الأحيان، تراعي الظروف بذكاء وتتسم بالمرونة بطريقة يمكنها أن تدعم أهدافنا ومشاريعنا وتنظمها.

تذكَّر مثلاً القيادة على الطريق نفسه إلى العمل كل صباح؛ قد تجد نفسك غارقاً في الأفكار عما سيؤول إليه يومك، أو كيف يمكنك أن تشرح لمديرك سبب فشلك في إكمال بعض المهام، ومع ذلك ما يزال في إمكانك التنقل بسهولة في الطرق التي تقودك إلى وجهتك.

ومع السير تلقائيَّاً في الطرق التي تقودك إلى وجهتك، إلَّا أنَّك تظل قادراً على التأقلم بذكاءٍ مع أدقِّ تفاصيل الموقف، مثل مقدار سرعة أو تباطؤ السائق أمامك، أو تغيُّر إشارات المرور.

في محاولة لحساب البعد الذكي للعادة، ابتعد الباحثون عن تفسير العادات على أنَّها آليات غير ذكية، واتجهوا نحو تصنيفها ضمن أنموذج الاعتقاد. اللغز الذي نواجهه في توضيح طبيعة العادات هو شرح بُعدها الذكي مع الاعتراف بأنَّها يمكن أن تعمل في كثير من الأحيان ضد ذكائنا وتضللنا.

لماذا يجب أن نهتم بحل هذا اللغز؟ كان المفكرون العظماء منذ ما قبل "أرسطو" يميلون جداً إلى وصف البشر على أنَّهم حيوانات عاقلة؛ وذلك بفضل قدرتنا على تكوين معتقداتنا وتعديلها بذكاء.

وَفقاً لوجهة النظر هذه، فإنَّ بناء العادات الجيدة أمر حيوي، ولكن عند ترسيخ روتين معتاد، فإنَّه لا يصبح في حد ذاته ذكياً؛ ومع ذلك، إذا كنا جادين في عزو الذكاء إلى تفاعلاتنا المجسدة مع العالم، فإنَّ مفهومنا عن كيفية تفسير العقلانية البشرية سوف يحتاج إلى المراجعة، وسوف نحتاج إلى طرح أسئلة عميقة عن مفاهيمنا عن الذكاء الحيواني غير البشري.

نفى الفيلسوف البريطاني "جيلبرت رايل" (Gilbert Ryle)، في عمله الإبداعي "مفهوم العقل" (The Concept of Mind) نفياً قاطعاً أنَّ العادات كانت ذكية. إنَّ هذا الأمر قد يُفاجئ بعض الأشخاص؛ وذلك لأنَّ "رايل" معترَفٌ به على نطاق واسع من قبل الفلاسفة على أنَّه بطل تاريخي لوجهة النظر القائلة إنَّ السلوك الذكي لا يسترشد دائماً بالمعرفة النظرية. بالنسبة إليه، فإنَّ العادات هي مجرد آليات غير محكومة بالمنطق.

في الواقع، يقارِن "رايل" مقارنة واضحة بين الأفعال المعتادة والسلوكات الذكية والماهرة، مدعياً أنَّها "من حيث الجوهر ممارساتٌ معتادة يؤديها الشخص، وهي نسخة طبق الأصل عن ممارساتٍ أدَّاها أسلافه". إنَّ العادة هي طريقة غير ذكية ومملة للتفاعل مع العالم.

في أغلب الأحيان لا يكون اكتساب المهارات في الرياضة سوى عملية تنمية عادة حركية جديدة من خلال الممارسة المتكررة.

لاحظت الكاتبة "كلير كارلايل" (Clare Carlisle) في كتابها "عن العادات" (On Habits) أنَّ هذا النوع من التوصيف للعادة - على أنَّها غير ذكية و''تدهور للحياة وتقليل من العفوية والحيوية إلى الروتين الميكانيكي'' - تبنَّاه عدة من فلاسفة العقل المؤثرين على مر التاريخ، ومنهم "باروخ سبينوزا" (Baruch Spinoza)، و"إيمانويل كانط" (Immanuel Kant)، و"هنري بيرجسون" (Henri Bergson).

حتى يومنا هذا، تحدد الباحثتان "سوزانا راميريز فيزكايا" (Susana Ramirez Vizcaya)، و"توم فرويز" (Tom Froese) مفهوماً سائداً للعادة عبر العديد من مجالات العلوم المعرفية المعاصرة التي تتصورها على أنَّها "أنماط سلوك صارمة تُنشَّط تلقائياً من خلال إشاراتٍ يرسلها المحيط".

قد يجادل المرء الذي يميل إلى الاتفاق مع هذا المفهوم الميكانيكي للعادة على أنَّه غير ذكي بطبيعته بأنَّ اللغز الذي أشرنا إليه آنفاً غير واضح، فالعادات في النهاية غير ذكية.

في هذا التحليل، فإنَّ أي محاولة لتفسير العادات على أنَّها تنطوي على ذكاء تخلط خلطاً مباشراً بين العادة والمهارة؛ وهذا يعني ضمنياً أنَّ الأمثلة المذكورة آنفاً للعادات الذكية - مثل عادة القيادة على الطريق نفسه إلى المكتب كل صباح، هذا يسمح لنا بالوصول بفاعلية إلى مكان عملنا، حتى عندما نفكر في أفكار غير ذات صلة - ليست عادات؛ بل هي مهارات.

إقرأ أيضاً: 8 عادات يومية لتنمية الذكاء العاطفي

إنَّ هذه النظرة إلى العادات مضللة؛ فالواقع أنَّ العادات، مع ما يقوله "رايل"، ليست مجرد ردود أفعال خرقاء وصلبة تجاه المحفزات البيئية، أو "تصرفات أحادية المسار" للاستجابة للعالم بردود أفعال نمطية جداً.

لكي ندرك هذه الحقيقة فما علينا إلا أن نلاحظ أنَّ صياغة أي تمييز واضح بين العادة والمهارة ليس أمراً بديهياً أو ممكناً. من ناحية أخرى، تتكون العديد من مهاراتنا من عادات، على سبيل المثال، إنَّ اكتساب المهارات في الرياضة في أغلب الأحيان يكون مجرد عملية تنمية عادة حركية جديدة من خلال الممارسة المتكررة.

من ناحية أخرى، في أغلب الأحيان تشتمل العادات على المهارات، مثل عادة الصفير عندما تشعر بالملل. هذا عمل ماهر إلى حد كبير، ويمكن أن يشكل في بعض الحالات خبرة موسيقية حقيقية؛ لهذه الأسباب فقط، فإنَّ تقديم تمييز واضح بين المهارة والعادة، بحيث لا يمكن أن تكون الأفعال الاعتيادية ماهرة أو ذكية بحكم تعريفها، يشكل أمراً خاطئاً أو توكيداً غير سليم.

في معارضة التصور الآلي للعادات، يدعو بعضهم، مثل الفيلسوف "جيسون ستانلي" (Jason Stanley)، إلى مفهوم فكري، تكون فيه العادات ذكية؛ وذلك لأنَّها في الحقيقة نوع من "الإيمان الراسخ" عن طرائق تحقيق أهداف معينة.

في الأسابيع الأولى لنا في مكان العمل الجديد، سيكون لدينا اعتقاد عن كيفية الوصول إلى المكتب بنجاح؛ ومن خلال تنقُّلاتنا اليومية، يصبح هذا الاعتقاد تدريجياً تلقائياً وغير واعٍ تماماً. في هذه المرحلة، لا نحتاج إلى التفكير بوعي في المسار الذي يجب أن نسلكه إلى المكتب، ولكنَّنا بدلاً من ذلك نسترشد من خلال اعتقاد لا واعٍ عن كيفية الوصول إلى هناك بنجاح.

عندما يترسخ هذا الاعتقاد اللاواعي، قد يصبح أيضاً متصلباً أمام الأدلة المضادة، على سبيل المثال، قد نسلك هذا الطريق عن طريق الخطأ إلى المكتب حتى بعد إبلاغنا وقناعتنا الصادقة بأنَّ هناك طريقاً أسرع. وفقاً للمثقفين، فإنَّ العادة ليست سوى اعتقاد راسخ بعمق بهذا الشكل، وإذا تمسَّكنا بهذا الرأي، فيمكننا الحفاظ على النظرة التقليدية التي ترى العقلانية البشرية على أنَّها تعتمد على المعتقد.

إقرأ أيضاً: الشخص المتسرع: صفاته، ونتائجه السلبية، وكيفية التعامل معه

يبدو أنَّ هذه النظرة الفكرية للعادة بوصفها شكلاً من أشكال الاعتقاد، تعاني أيضاً من مشكلات خطيرة في تفسير الجانب الذكي لأفعالنا المعتادة؛ فالعادات، كما تُظهر الأمثلة آنفاً، في أغلب الأحيان تكون حساسة للسياق بشكل رائع، لكن إذا كان "ستانلي" يرى أنَّ الأفعال الاعتيادية ذكية وعقلانية فقط بحكم كونه يسترشد بالمعتقدات اللاواعية، فإنَّه يعتمد على فكرة أنَّ المرونة الذكية للعادات تعتمد على المرونة والتحديث السريع للمعتقدات اللاواعية.

إنَّ التأكيد على هذه المرونة يتعارض مع ادعائه بأنَّ العادات نفسها توجهها معتقدات غير واعية عنيدة ومتمردة. من غير الواضح أيضاً كيف يمكن للعمليات العصبية اللاواعية أن تنطوي على معتقدات. وقد حاول الفلاسفة عبثاً طوال عقود تقديم تفسير مُرضٍ لكيفية القيام بذلك.

على هذا النحو، إذا تمكَّنَت فكرة بديلة عن العادات من تفسير حساسيتها للسياق بنجاح دون الحاجة إلى الالتزام بفرض معتقدات خفية وغير واعية، فإنَّ مثل هذا الحساب سيكون أكثر جاذبية من الناحية النظرية. من خلال هذه العدسة البراغماتية، تُعَدُّ العادات كنزاً دفيناً من الاستجابات المحتملة لبيئتنا، مقيدة بالظروف، ولكنَّها منفتحة على العالم.

تواجه كل من المفاهيم الميكانيكية والفكرية للعادة صعوبات كبرى في شرح كيف تحافظ العادات على السلوك الذكي. لهذه المفاهيم مشكلة جذرية مشتركة، وهي الفشل في تقدير الدور المحوري للإدراك الذي أدركه الفلاسفة العاملون في التقاليد الظاهراتية والبراغماتية.

عندما نتبعها في إدراك الدور الحاسم للإدراك في توجيه أعمالنا المعتادة، يمكننا شرح الجانب الذكي للعادات مع تجنُّب أي حاجة إلى تعريفها على أنَّها معتقدات.

بالنسبة إلى "دريفوس" (Dreyfus)، فنحن خبراء في روتيننا اليومي المعتاد ليس أقل من "سيرينا ويليامز" (Serena Williams) الخبيرة في التنس مع أنَّ ما نحققه قد يكون أقل إثارة للإعجاب إلى حد كبير.

ونتيجة لذلك، بالنسبة إليه، هي أنَّ عاداتنا اليومية سوف تسترشد بالإدراك والحدس على مستوى الخبراء، على سبيل المثال، نمَّى معظمنا الآن ممارسات التباعد الاجتماعي، من خلال هذا المقياس، نظراً لأنَّنا ندمج هذه الممارسات في حياتنا اليومية، فنحن قادرون على الحفاظ بكفاءة على مسافة مناسبة تلقائياً.

عندما يقف شخص بجانبك في مصعد قريباً جداً، فإنَّك تدرك على الفور أنَّه يقف قريباً جداً، ويُستفَز أو "يُطالَب" بالعودة إلى الخلف واستعادة المسافة المناسبة.

شاهد بالفيديو: قوانين العقل الباطن

"دريفوس" محق في تسليط الضوء على الدور الهام الذي تؤديه المهارة الإدراكية في توجيه أفعالنا المعتادة، لكنَّنا نظن أنَّه تجب مراجعة روايته في جانب واحد هام. بالنسبة إلى "دريفوس"، عندما أصبحنا خبراء في إكمال بعض الروتين اليومي، فإنَّ العالم يجذبنا جذباً متزايداً للتصرف تصرفات واحدة مثالية ومناسبة.

بعبارة أخرى، عندما يصبح روتيننا اليومي مترسخاً، لن ندرك شيئاً سوى إمكانية اتباع مسار عمل مثالي فريد لكل موقف؛ باختصار، نحن نخشى أن يجعل هذا وجهة نظر "دريفوس" للعادات قريبة جداً من النظرة الميكانيكية الطائشة للعادة التي رفضناها آنفاً.

إنَّ الفيلسوف البراغماتي "جون ديوي" (John Dewey) يؤيِّد هذا. يفسِّر "ديوي"، مثل "دريفوس"، العادات على أنَّها تسهِّل السلوك الذكي من خلال تشكيل الإدراك، ومع ذلك، ينفي أنَّه عندما نصبح خبراء في تنفيذ الروتين اليومي، تصبح استجاباتنا المعتادة دائماً أنماط استجابة تلقائية تماماً.

بدلاً من ذلك، بالنسبة إلى "ديوي"، الذي يكتب في الطبيعة البشرية والسلوك: "كلما كثرت عاداتنا، اتسع مجال الملاحظة والتنبؤ المحتمل، وكلما كانت أكثر مرونة، كان الإدراك أكثر دقة في تمييزها وكان العرض التقديمي الذي يثيره الخيال أكثر دقة".

بعبارة أخرى، إنَّ أفعالنا الاعتيادية تُعدَّل بذكاء لتلائم السياق على وجه التحديد؛ وذلك لأنَّنا ندرك البيئة التي نشأت فيها شروط الاستجابات المعتادة الواسعة والتمييزية التي قد نتخذها تجاهها.

إذا نظرنا إلى العادات من خلال هذه العدسة البراغماتية، البعيدة كل البعد عن كونها ردود أفعال صريحة، فإنَّها ترقى إلى كنز دفين من الاستجابات المحتملة لبيئتنا الواقعة، المقيدة إلى حد كبير بالظروف، ولكنَّها منفتحة حقاً على العالم. كما أنَّ "ديوي" لا ينكر أنَّ أفكارنا ستغمرها العادة دائماً.

إنَّ فلسفة العقل المعاصرة مليئة بالتحذيرات الإيجابية من أنَّه لا ينبغي لنا أن نقع في انقسامات سهلة بين العمليات الذكية والطوعية من ناحية، والعمليات غير الذكية والتلقائية من ناحية أخرى.

في الواقع، حتى علماء النفس، مثل "دانيال كانيمان" (Daniel Kahneman)، الذين دافعوا دفاعاً مؤثراً عن آراء المعالجة المزدوجة التي يتألف منها الدماغ من "نظامين" متميزين - أحدهما معتاد على اللاوعي وسريع، والآخر بطيء وواعٍ وتأملي - اعترفوا بذلك لسنوات.

تتمثل إحدى الطرائق المؤكدة للتغلب على هذا الانقسام في ملاحظة أنَّه مع أنَّ العادات يمكن أن تشوِّه أهدافنا، إلا أنَّها يمكن أيضاً أن تكون حساسة للسياق بشكل رائع. سيتطلب تفسير حساسية السياق هذه الاعتراف بالدور المحوري الذي تؤديه المهارات الإدراكية في توجيه أعمالنا المعتادة.

من خلال تمييز الجوانب المرنة للعادات، فإنَّنا نبتعد عن وجهة نظر قديمة للفعل الذكي، بوصفه يسترشد دائماً بالتخوف الفكري المناسب للمعتقدات المدروسة.

المصدر: 1




مقالات مرتبطة