التخت الموسيقي الشرقي

الموسيقى العربية تمتد جذورها الأصيلة إلى آلاف السنين، وأهم ما تمتاز به اشتمالها على مجموعة كبيرة من الأجناس الغنائية من بينها "التخت الشرقي".



التخت العربي:

ظهرت موسيقا التخت الشرقي حوالي منتصف القرن التاسع عشر، حيث استوطنَت السرايا والقصور وبيوت الأغنياء والنُخبة في أول مراحلها وكانت تسمى آنذاك بموسيقا "الحُجرة" حيث عرفته حجرات القصور قبل خروجه لعامة الناس.

وكلمة "تخت" كلمة فارسية الأصل وتعني المنصّة، وهي المكان الذي كانت تعتليه الفرقة الموسيقية لتعزف أمام السامعين، يقودهم المطرب الذي يعدّ عميد أو رئيس التخت وكان الناس يتحلقون من حولهم.

أما كلمة "شرقي" تعود لكون جميع آلات التخت آلات موسيقية شرقية، إذ يتكون التخت من (القانون- العود- البُزق- النّاي- الدف)، ثم تطورت هذه المجموعة الموسيقية على يد الموسيقي السوري أنطوان الشوا عندما ضمّ إليها آلة الكمان عام 1865م.

ومع بداية القرن العشرين قام الموسيقار المصري محمد القصبجي بتطوير التخت مضيفاً إليه آلة التشيللو والكونترباص، بهدف تعزيز الإمكانيات النغمية لآلات التخت وانسجاماً مع متطلبات العصر.

كانت ألحان التخت قديماً محدودة التأليف عمادها المغنّي وعدد قليل من العازفين لا يتجاوز عددهم أربعة أفراد، والبطانة المذهبجية (الكورس) أو ما كانوا يسمونهم السنيدة او الصهبجية.

كان المغنّي يتوسط التخت وعلى يمينه العازفون (العود والقانون وعازف الكمان وعازف الناي). وعلى يساره ضابط الايقاع (الدّف)، ويليه جماعة المذهبجية (الكورس) وعددهم اثنان أو ثلاثة ويختارون من حفظة الموشحات والأدوار، وأن يكونوا من ذوي الأصوات القادرة التي تمتاز بوفرة المساحة الصوتية وخاصة الطبقات الحادة (الجوابات).

كان المغني يغني على تخته ثلاث وصلات بينها فترة استراحة، وتكون الأغاني التي تشملها الوصلة في مقام واحد، وتأتي الوصلة الثانية في مقام آخر، وكذلك الوصلة الثالثة.

آلات التخت العربي:

القانون:

وهي آلة موسيقية وترية من الآلات البارزة في التخت الشرقي والعزف المنفرد، أخذت مكاناً مرموقاً بما تتميز به من مساحة صوتية واسعة تغطي كافة مقامات الموسيقى العربية، ولهذا السبب تعتبر آلة القانون بمثابة القانون أو الدستور لكافه آلات الموسيقى العربية، ويرجع في أصله إلى آلة آشورية وترية من (العصر الآشوري الحديث)، وعلى وجه التحديد من القرن التاسع قبل الميلاد. تصنع آلة القانون عادة من خشب الجوز على شكل شبه منحرف قائم الزاوية، يعتمد الصانع في صناعته على قياسات معينة وثابتة ونوعية خشب جيدة. وأغلب آلات القانون مكونة من 78 وتر، لكل ثلاثة أوتار درجة صوتية واحدة.

العود:

سلطان الآلات وهو آلة وترية كُمَّثرية الشكل تحوي على 12 أو 14 وتراً مجمعة في 6 أو 7 مسارات، وتُعَدّ من الآلات العربية العريقة التي استخدمت منذ القدم ولا زالت تستخدم حتى الآن كأفضل آلة موسيقية، وقد انتشرت صناعته في أغلب المناطق العربية حيث أنّه آلة لا يمكن الاستغناء عنها، فهي تدخل في أغلب المعزوفات الموسيقية كما يمكن العزف عليها كعزف منفرد.

البُزق:

وهي آلة موسيقية وترية خشبية تشبه العود، ذات عنق طويل وجسم أصغر من العود، تشبه من ناحية الشكل الساز التركي والبوزوكي اليوناني، تعتبر من الآلات الشعبية المهمة في الشرق الأوسط، يتم العزف عليها غالباً بشكل منفرد ورغم ذلك أثبتت وجودها ضمن عائلة التخت الشرقي.

الناي:

وهو آلة موسيقية شرقية هوائية تستخدم في التخت الموسيقي الشرقي، يصنع من نبات القصب البري والخيزران، وهو عبارة عن قصبة جوفاء مفتوحة الطرفين بها ستة ثقوب على استقامة واحدة وثقب آخر من الخلف يتحكم به الإبهام.وقد استخدم الناي منذ القدم من قبل البابليين وقدماء المصريين.

الدّف:

آلة موسيقية إيقاعية عربية قديمة مشهورة مكوَّنة من إطار يسمى طارة يُشَدُّ عليه جلد رقيق، النقر على وسط الدف نقرة تامة ينتج صوت يسمى دم أو تم، أما الصوت الخفيف فينتج من النقر على طرف الدف ويسمى هذا الصوت تك دم دم دم تك دم دم تك. واستنادًا إلى المكتشفات الأثرية فالدف معروف في حضارتنا منذ الألف الثالث قبل الميلاد وأقدم الآثار عنه جاءت من بلاد مابين النهرين ويعود تاريخها إلى ما قبل الميلاد، وقد جاء هذا المشهد مرسومًا على جرة فخارية ملونة باللون القرمزي ويمثل الرسم ثلاثة نسوة ينقرن على دف دائري بواسطة العصا. وأحيانا كانت تستخدم الطبلة أو الرق في التخت الشرقي كآلات ايقاعية بديلاً عن الدف.

الكمان:

الآلة الخامسة التي أضيفت للتخت الشرقي، تعتبر من أهم وأدق الآلات الوترية لدى الغرب، قال عنها الفيلسوف هايني "الكمان آلة لها أمزجة البشر تتكلم بشعور العازف بها وتكشف أسرار عواطفه وتنقل عنه في جلاء ووضوح أقل التأثيرات وأضعف الانفعالات، ذلك لأنه يضعها أثناء عزفه عليها على صدره فتحمل أوتارها ضربات قلبه". وأساس آلة الكمان هي آلة الربابة العربية التي انتقلت مع العرب إلى الأندلس. تقدمت هذه الآلة بفضل العرب، ففي القرون الأولى بعد الميلاد أوجد العرب آلة الربابة ذات الوتر الواحد، ومنذ ذلك الوقت أخذوا في تحسينها على توالي العصور فأصبحت بعد مدة وجيزة ذات وترين متساويين في الغلظ ثم ذات وترين مختلفين فيه ثم إلى أربعة أوتار. ولما نقلها العرب فيما نقلوا معهم إلى الأندلس، أحبها أهل البلاد الأصليون وعملوا على تحسينها وأصبحت من أهم الآلات الغربية، ونتج عنها بعض الأنواع مثل الكمان الأوسط المعروف بالفيولا والكمان الجهير والأجهر وهم التشيللو والكونترباص.

إقرأ أيضاً: العلاج بالموسيقى: هل يمكن استخدام الموسيقى بديلاً عن الدواء؟

أشهر فرق التخت الشرقي العربي:

عُرف عن موسيقى التخت تأثرها ببعض القوالب الموسيقية التركية مثل البشارف والسماعيات واللونجات، ولكن كان تركيزها الأكبر على القوالب الغنائية الشرقية مثل الليالي والمواويل والأدوار والموشحات والطقاطيق، والتي امتاز بأدائها أشهر المغنين في ذلك الوقت مثل عبده الحامولي، منيرة المهدية، عبداللطيف البنّا ومحمد عبد الوهاب وعبد الحي حلمي والذين غنَّوا للملوك والأمراء في حفلات القصور وكانوا يتقاضون أجورًا مرتفعة من الباشوات والضيوف "السمِّيعة"، حينها نال الكثير من هذه الفِرق شهرة كبيرة كـ تخت إبراهيم السهلون الذي رافق المغنية الشهيرة أم كلثوم، والشيخ سيد الصفتي، وتخت محمد عبده صالح الذي رافق المطرب القدير صالح عبد الحي وغيرهم الكثير.

تميزت فرق التخت الشرقي بأدائها الموسيقي الغني والمزخرف بكافة الأشكال والحليات وفي الاختيارات والمؤلفات الموسيقية، وكان الارتجال أهم ما امتاز فيه التخت، حيث يُظهر مهارة الموسيقيين والمطربين، وهو أمر شبه مفقود الآن في الموسيقى العربية الحديثة.

كان للمشايخ المطربين فضلاً على التخت الشرقي أمثال الشيخ علي محمود والذي كان يعد عمدة المشايخ والمطربين في مصر أوائل القرن الماضي، والأخوين الشيخين درويش ومرسي الحريري، والشيخ سيد موسى، وكان لهؤلاء دور أساسي في نقل التخت الشرقي وتطويره من حالة الركود من خلال غناء التواشيح الدينية والقصائد الصوفية.

أشكال أخرى لفرق التخت الشرقي وتطورها:

ظهرت أشكال مختلفة من التخت الشرقي منها ما سُمّيَ بالصّحبجية، وهي عبارة عن تختين متقابلين يقوم أحدهما بالغناء في موضوع ما بشكل نقدي للواقع الموجود، ويقوم التخت المقابل بالرد عليه أو هجائه، كما كان يحدث مع الشعراء العرب في العصر الجاهلي من مديح وذم وهجاء، لكن هذه المرة في قوالب غنائية.

مع التقدم الحضاري والموسيقي أخذت فرق بالخروج عن الشكل التقليدي للتخت، وذلك بتكوين فرق أكبر حجمًا أو متوسطة الحجم سُميت بالـ "الفرقة الموسيقية"، وصلت في الحجم إلى فرق مماثلة للأوركسترا الغربية، كفرقة الموسيقى العربية بقيادة عبد الحليم نويرة، والتي تكونت في عام 1967م بهدف إحياء التراث الموسيقي والغنائي الشرقي بشقّيه الكلاسيكي والشعبي خوفًا عليه من الاندثار، تضمنت "الفرقة" أكثر من 40 عازفًا ومغنيًا.

وفي أواخر الستينيّات وبداية السبعينيّات، أخذت الآلات والمقاييس الغربية تأخذ دورًا مهمًّا في تغيير طابع وكيان الفرقة الشرقية، وذلك بتوظيف وإدخال آلات موسيقية كهربائية إلكترونية مثل الجيتار الكهربائي والأورغ والباص، والذي أعطى شكلاً وطابعًا جديدًا للفرقة الموسيقية الشرقية وأضعف من شأن التخت.

أيضاً تعمّدت بعض هذه الفرق إدخال ألحان تعتمد على الهارمونية المتبعة في الموسيقى الغربية، وتوظيفها في أداء القوالب الموسيقية الشرقية، وهو شيء لم يتوافق نسبيًّا مع ذوَّاقي الموسيقى الشرقية التقليدية، وحدّ من إمكانية استخدام المقامات الشرقية البحتة، مثل الرصد والبياتي والسيجا، حيث كان التركيز أكثر على مقامات وسلالم ذات طابع غربي، كالنهاوند والعجم والكرد وذلك لسهولة التعامل معها في التلحين المرتكز على الهارموني.

هذا ويشار إلى أنه في عام 2003م تم تأسيس أول تخت شرقي نَسَوي في الوطن العربي، ضمّ ثمانية من خريجات المعهد العالي للموسيقا بدمشق، رسالة الفرقة ("الحفاظ على الأصالة والتراث مع المزاوجة بين هذين الأمرين بحداثة مدروسة")، تهتم الفرقة بالموسيقا التراثية الكلاسيكية وتقدم مقطوعات آلية وغنائية، وقد أحيت العديد من الحفلات في بلدان مختلفة.

وأخيراً تكمن أهمية التخت الشرقي بأنّه كان ولا يزال مدرسة موسيقية جادة تتم فيه معرفة أسرار الفن الموسيقي الآلي والغنائي، يُكسِب العازفين والمغنين الخبرة لتعزيز مهاراتهم وإبداعاتهم في هذا الفن الموسيقي الشرقي الرائع.

 

المصادر:




مقالات مرتبطة