البريد من الحمام الزاجل إلى البريد الإلكتروني

مع التطوّر التكنولوجي وظهور وسائل الاتصال الحديثة أصبح استخدام الإنسان للبريد والرسائل البريدية القديمة نادراً جدّاً. فبعد أن كان يتطلّب تواصله مع الآخرين وقتاً طويلاً يبدأ بكتابة رسالته على الورق ومن ثمَّ التوجُّه إلى مكتب البريد لإرسالها أملاً في وصولها إلى وجهتها بعد عشرة أيّام، وانتظار رد على رسالته أيضاً، أصبح بإمكانه الآن أن يُرسل رسائله من أي مكان وبضغطة واحدة على كلمة إرسال إلى أي شخص في أي مكان في العالم وفي ثوان معدودة.



وفي الحقيقة فقد سبق هذه الثورة التي شهدتها الاتصالات في العالم مجموعة من المراحل والتطوُّرات التي مرّت بها وسائل التواصل بين البشر منذ آلاف السنين في شكلها وطريقة النقل، لتصبح أسرع وأكثر يُسراً.

كيف بدأ البريد؟

دَفَعَت حاجة الإنسان لنقل كلامه عبر المسافات البعيدة إلى اختراع الكتابة، واستدلَّ الباحثون على ذلك من خلال الآثار التي وصلت من حضارة أوغاريت (صاحبة أول أبجديّة مسماريّة)، والتي تضمَّنت رسائلاً مَلَكيَّة. وفي الحقيقة فإنَّ أوَّل وثيقة ذُكِرَ فيها البريد تعود إلى حوالي 2000 ق.م، بالإضافة لإيجاد رسائل يعود تاريخها إلى عام 1364 ق.م بين ملوك مصر القديمة وملوك الحيثيين وآشور وبابل وقبرص.

وقد نُظِّم البريد في عهد الفراعنة كما نُظِّم لدى الصينيين والفرس والأشوريين ما ساعد ملوك هذه الحضارات على إدارة ممالكهم الواسعة. وكان البريد في ذلك الوقت حِكراً على المسؤولين السياسيين والقادة العسكريين دون عامة الشعب. وقد نظَّم الفراعنة نظام نقل البريد خارجيّاً وداخليّاً، واستخدموا في نقلها سعاة يحملون الرسائل وينقلونها سيراً على الأقدام متّبعين في تنقّلاتهم داخل البلاد ضفّتي النيل، أمَّا خارج البلاد فقد كانوا يسلكون طرق القوافل والجيوش.

وبقي البريد يعتمد على نظام (التتابُع) حتّى القرن السادس عشر، ويعتمد هذا النظام على قيام الفارس أو العدَّاء بحمل الرسالة لمسافة محدودة ليسلّمها بعد ذلك إلى فارس أو عدّاء آخر يكون متواجد في مكاتب بريد وضمن مسافة معلومة، ومن ثمَّ يقوم هذا الأخير بنقل الرسالة إلى مكتب آخر وهكذا إلى أن تَصِل الرسالة إلى المكان المحدَّد.

الإشارات الدخانية:

الإشارات الدخانية

وتُعَد الإشارات الدُّخانية وسيلة قديمة جدّاً لنقل الرسائل، ويعود أوّل استخدام لها إلى الصين. حيث استخدم الصينيون الدخّان بأنماط معيّنة لإرسال الرسائل لمسافات طويلة على طول سور الصين العظيم، وذلك كإشارات تحذيريّة وتنبيههم في حال وجود خطر ما أو لنقل الأخبار لجنودهم خلال وقت قصير.

وقد استُخدِمَت الإشارات الدخّانيّة من قِبَل الهنود الحمر أيضاً لإرسال إشارات الاستغاثة، كما أخذ العرب نظام إشعال النيران على القمم والمرتفعات عن البيزنطيين، وذلك لنقل الرسائل المختصرة جدّاً، والتي يتم الاتفاق على معناها بشكلٍ مسبق.

البريد عند العرب:

البريد عند العرب

تعود كلمة البريد إلى أصل أعجمي ومعناها "مقطوع"، وتعود هذه التسمية إلى الإمبراطور الفارسي "داريوس" الذي قام بتنظيم أعمال البريد، وخصَّص له دَوَاب معيّنة مبتورة الذنب لتمييزها عن غيرها من الدَوَاب فسُمِّيت "بريد ذنب" إلى أن تمَّ تعريبها وحذف الجزء الأخير منها لتصبح "بريد".

وقد أجمع المؤرِّخون أنَّ العرب نقلوا النظام الأوّل للبريد عن الفراعنة والفُرُس، وفي عهد الدولة الأمويّة استُخدِمَ البريد بمعناه الحقيقي ثمَّ استُخدِمَ على نطاق أوسع وازدَهَر مع اتّساع الرقعة الإسلاميّة في الدول اللاحقة. ويُعَد أوَّل من وضع نظاماً للبريد هو معاوية بن أبي سفيان حسب ما تُشير الوثائق التاريخيّة، والذي وضع مركز البريد في مدينة البصرة في العراق والتي تبعد عن مكّة المكرّمة مسافة ثلاث أيام. فيما بعد قام عبد الملك بن مروان بتطوير ما بدأه معاوية بن أبي سفيان، حيث أمر بوضع العناوين على الطُرُق وإشارات تحدِّد المدن ومسافاتها واتجاهاتها ليستعين بها سعاة البريد الذين ينقلون رسائل الخليفة إلى الولاة والجنود.

وقد بَلَغَ عدد محطّات البريد في عهد الدولة الأمويّة ما يقارب تسعمئة وخمسين محطّة، والتي انتشرت في معظم أرجاء الدولة، وقد وُضِعَت في كل محطّة جياد قويّة وسريعة لنقل الرسائل وسعاة ورئيس ليراقبها، ومن ثمَّ يتم نقل هذه الرسائل من محطّة إلى محطّة. حيث يقوم الساعي بتبديل فرسه المُتعَب بفرس آخر قوي ليصل بسرعة إلى وجهته. وكان السعاة والرسل يقطعون مسافات بعيدة جدّاً متحمِّلين بذلك الجهد والمشقة لا يعوقهم حر الصيف أو برد الشتاء ليلاً أو نهاراً.

وقد بَلَغَ نظام البريد ذروته في عصر دولة المماليك، ولاسيما في عهد الظاهر بيبرس، الذي اهتمَّ بتنظيم البريد كما اهتمَّ بتنظيم الجيش تماماً، واعتمد عليه في الحروب من خلال شبكة مكاتب للسعاة الخيّالة، كما اعتمد على الحمام الزاجل.

الحمام الزاجل:

الحمام الزاجل

استُخدِمَ الحمام الزاجل قديماً على نطاق واسع لتوصيل الرسائل عبر المسافات الطويلة، ويعود ذلك بسبب قدرة الحمام الطبيعيّة على العودة لموطنه، وأفضل أنواعه هو حمام العراق المطوّق العنق بالأبيض. حيث كانت تصل سرعته من 40 إلى 50 ميلاً في الساعة.

وقد تمَّ استخدام الحمام الزاجل من قِبَل الرومان، والأغريق، والفرس والمغول. ويعتبر الأغريق أوّل من قام باستخدام الحمام الزاجل للإعلان عن نتائج الألعاب الأولمبيّة اليونانيّة من مكان إقامتها إلى المدن البعيدة عام 776 قبل الميلاد.

وأوّل استخدام عسكري للحمام الزاجل كان في زمن الإمبراطور الروماني أنطونيوس عام 43 ق.م أثناء حصاره لمدينة مورينا، كما استخدمه الفرنجة عند حصارهم للقدس عام 1098، واستخدمه أيضا صلاح الدين الأيوبي أثناء حصار عكا.

أمّا بالنسبة للعرب فقد اهتموا بالحمام الزاجل وكان لهم تاريخ طويل وحافل معه. وقد اعتمدوا في تأسيس نظام البريد على الخيل والجمال والبغال وتبادل الإشارات بالنيران والدخّان وغيرها لإرسال الأخبار والمعلومات العسكريّة من وإلى مركز الخلافة. إلّا أنَّ اتّساع رقعة الخلافة الإسلاميّة وكثرة الحروب  والفتوحات والفتن الداخليّة، إضافة لكثرة الثروات واتّساع مؤسَّسات الدولة ودواوينها استلزمت وجود وسيلة أسرع وأكثر كفاءة لعمل ديوان البريد بشكل فعّال يَضمَن من خلاله اتّصال أطراف الدولة الواسعة ببعضها وربطها بالعاصمة. فكان استخدام الحمام الزاجل من قِبَل الخلفاء العباسيين الذين أولوه الاهتمام والرعاية وقاموا بتحسين نسله واخضاعه للمراقبة الدقيقة، كما قاموا بتنظيم سجلّات خاصة بحركته.

واستُخدِمَ الحمام الزاجل أيضاً في عهد المماليك، وتمَّ إنشاء أبراج للحمام التي انتشرت لمسافات أبعد من تلك المخصَّصة للبريد البرّي. حيث يقوم الحمام الزاجل بنقل البريد بشكل متوالي من برج إلى برج آخر.

وكان يتم تمييز الحمام الزاجل الذي ينقل البريد عن غيره من الحمام الآخر من خلال وضع علامات معروفة على منقاره أو قص بعض من ريشه.

البريد في العصور الحديثة:

مع التقدُّم والتطوُّر الذي شهده العالم أصبحت الرسائل الحديثة تُكتب على الورق فتغيّرت نُظُم البريد وتمَّ استخدام الطوابع، وقد تطوَّرت الخدمات البريديّة بسرعة كبيرة حيث وُزِّعت الرسائل والطرود الثقيلة بواسطة عربات الخيل، ومن ثمَّ بالدراجة العادية والدراجة البخاريّة، إلى أن تطوَّرت عمليّة نقل الرسائل والطرود البريديّة باستخدام وسائل النقل الحديثة. فقد أدّى تطوُّر الملاحة البحرية، وظهور القطارات إلى تسليم البريد بشكل أسرع من ذي قبل، ممَّا أدّى لإقبال الناس بشكل أكبر على كتابة الرسائل. وبعد ظهور الطائرات كوسيلة نقل جويّة تمَّ نقل البريد من خلالها جوّاً ولأوَّل مرّة في عام 1910م وذلك ما بين مدينتين في بريطانيا، ومن ثمَّ بين مدينتين في الهند. وبعدها بأشهر تمَّ إنشاء «البريد الجوي» في كل من بريطانيا وأمريكا أوّلاً، ولاحقاً في كل دول العالم. ويُعتَبَر العراق أولى الدول العربيّة التي تأسَّس فيها دائرة رسميّة للبريد في العهد الحديث. ولم تَعُد خدمة البريد مقتصرة على نقل الرسائل فقط وإنّما شملت، خدمات نقل الطرود، والبرقيات، والحوالات الماليّة، والوثائق الرسمية.

في منتصف الثلاثينات من القرن العشرين شهد نظام إرسال الرسائل تطوُّراً كبيراً حيث جرى استخدام جهاز التلكس، وهو عبارة عن نظام توجيه برقيّات مشفَّرة، يستقبلها جهاز مماثل يقوم بفك الشيفرة ويقدِّمها مطبوعة. إلّا أنَّ استخدام هذا الجهاز بقي حكراً على المؤسّسات نظراً لكلفته المرتفعة، ثمَّ ظهر «الفاكس» فيما بعد وهو أقل تكلفة من التلكس، وهو جهاز يُستَخدَم لنقل الوثائق والصور والنصوص، حيث يقوم بعمل مَسح ضوئي لهذه الملفات ومن ثمَّ يتم نقلها إلى جهاز فاكس آخر مُرفَق بطابعة.

وقد تطوَّرت خدمات البريد عبر السنين لمواكبة احتياجات المستخدمين إلى أن طغت الرقمنة على العصر الحديث. حيث دخلت التكنولوجيا والانترنت حيز الإستخدام ممَّا أدّى لتغيُّر وسائل الاتصالات وتطوُّرها واستخدام البريد الإلكتروني لأوّل مرّة.

البريد الإلكتروني:

البريد الإلكتروني

تمَّ اختراع البريد الإلكتروني من قِبَل المبرمج الأميركي الرائد في مجال التكنولوجيا "ايموند توملينسون" في عام 1971م، وكان اختراعه هذا سبباً في تغيير طريقة تواصل الناس في أنحاء العالم.

عمل توملينسون في شركة "بولت بيرانك ونيومان" "BBN" والتي لعبت دوراً أساسيّاً في تطوير نسخة بدائيّة من الإنترنت تدعى أربانت ARPANET، والتي ترمز إلى الشبكة التي تربط المعاهد العلمية والجامعات في الولايات المتحدة الأميركية.

وسعى توملينسون لإيجاد طريقة تُمكِّن الناس من إرسال الرسائل عن طريق الحاسوب، وفي عام 1971م ابتكر توملينسون برنامجاً يتيح إرسال رسائل شخصيّة بين مستخدمي الكمبيوتر على خوادم مختلفة وذلك لصالح شبكة وكالة مشاريع البحوث "أربانت". كما استخدم إشارة @ للدلالة على هويّة المتراسلين، وقد قام باختيارها كونها أداة قليلة الاستخدام على لوحة المفاتيح، قبل أن تُصبِح من أكثرها شهرةً الآن.

إقرأ أيضاً: كيف تدير بريدك الالكتروني بفاعلية؟

في شهر يوليو/تموز من عام 1982 قام ريموند توملينسون بإرسال أوَّل رسالة إلكترونيّة في التاريخ والتي وَصَلَت على الفور إلى العنوان المُرسَلَة إليه، حيث أرسلها توملينسون إلى نفسه.

وقد شكَّل اختراع توملينسون ثورة في مجال التواصل، حيث انتشر البريد الإلكتروني على نطاق أوسع وبشكل كبير، وقد مكَّن هذا الاختراع مستخدمي الكمبيوتر من إرسال رسائل شخصية فيما بينهم على خوادم مختلفة.

أما في أيامنا هذه فقد وصلنا إلى قمة التواصل الإنساني عبر الإنترنت والهواتف المحمولة وتطبيقاتها المختلفة مثل الواتساب والماسنجر وغيرها والتي تنقل الرسائل بشكل لحظي وبتكلفة زهيدة.




مقالات مرتبطة