استشراف المستقبل والفجوة الاستراتيجية للقادة

تُعرِّف شركة "بوينغ" عملاق صناعة الطيران عن نفسها على موقعها الرسمي قائلةً: "أكبر شركة في العالم للطيران، ورائدة في مجال تصنيع الطائرات التجارية وأنظمة الدفاع والفضاء والأمن، وأكبر مُصَدّر للتصنيع في الولايات المتحدة الأمريكية. تدعم الشركة شركات الطيران والولايات المتحدة والعملاء الحكوميين المتحالفين معها في أكثر من 150 دولة". هكذا إذاً تُعرِّف عن نفسها أمام العالم -ويحقُ لها ذلك- فهي الشركة المصنعة لأكثر من 10000 طائرة تجارية من طراز بوينج تعمل حول العالم؛ وهو ما يقرب من نصف الأسطول العالمي من الطيران التجاري. ولكن إذا عدنا بالذاكرة إلى فترة الخمسينيات عندما كانت الطائرات المروحية تسيطرُ على عالم الطيران التجاري، نجد أنَّ شركة بوينغ لم يكن لها شأنٌ يذكر؛ فقد كانت السطوة التجارية لشركتَي "دوغلاس" و"لوكهيد مارتن" في تطوير الطائرات ذات المراوح. فكيف وصلت شركة "بوينغ" إلى ما هي عليه اليوم؟



بينما كانت الشركتان المذكورتان تركزان على عملهما في مجال الطائرات المروحية؛ نقلت بوينغ التركيز إلى المحركات النفاثة، والذي لم يعط النتائج المرجوة للشركة لسنواتٍ عدة؛ إلا أنَّ قادة الشركة لم يتخلّو عن ذلك التوجّه وكان لديهم "استشراف للمستقبل" قطفت الشركة ثماره لاحقاً.

فالمؤسسات بحاجةٍ إلى قادة يمتلكون قدرات وإمكانيات تؤهلهم إلى القيام باستشراف المستقبل، ليست المؤسسات وحدها من تحتاج إلى ذلك، فالدول أيضاً بحاجةٍ إليه؛ أطلقت إمارة دبي في عام 2017 تقرير استشراف المستقبل العالمي خلال المنتدى الاقتصادي العالمي (دافوس)، والذي يُعَدُّ الأولَ من نوعه في العالم. حيث قطعت به شوطاً هاماً في استشراف المستقبل. وأصبحت مصدراً لتقديم المعرفة إلى العالم يوفر للحكومات دراساتٍ وإحصائياتٍ لمستقبل العديد من القطاعات، وحجر أساس للقطاع الخاص في تبنّي الأفكار وتحويلها إلى واقعٍ ملموس؛ حيث ساهم 21 مختصاً من جميع أنحاء العالم في كتابة هذا التقرير في قطاعات استراتيجية مثل الطاقة والصحة والتعليم، وغيرها من القطاعات الحيوية.

ما هو مفهوم استشراف المستقبل؟

يُعَدُّ علم استشراف المستقبل واحداً من العلوم الاستراتيجية للدول والمؤسسات على حدٍّ سواء، فهو مبنيٌّ على الإلمام بتجارب الماضي والاستفادة من أحداث الحاضر، والتنبؤ بالمستقبل والتخطيط لتوجيهه وفقاً لمصالحنا على أسسٍ علميّةٍ واضحة. وهذا ما عَبّر عنه ديفيد ستار جوردن بقوله: "إنَّ العالم يقف جانباً ليسمح لكلّ من يعرف طريقه بالمرور".

ويُعرَّفُ مفهوم استشراف المستقبل بأنَّه: "مهارةٌ عمليّةٌ تنطوي على استقراء التوجهات العامة في حياة البشرية، والتي تُؤثِّر -بطريقةٍ أو بأخرى- على مسارات الأفراد والمجتمعات، ورسمُ نَهْجٍ استباقيٍّ واعتماد سيناريوهات يُمكن تحويلها إلى واقعٍ ملموسٍ يرتقي بالعمل المؤسّسي على أُسُسٍ ومعايير مبتكرة ترتكز على النتائج المُحَقَّقَةِ لتحقيق أعلى معدلات رضا المتعاملين وسعادة الناس، وتحديد الاتجاهات بعيدة المدى، وتخيّل مستقبلٍ مرغوبٍ فيه، واقتراح استراتيجيّات تحقق الأهداف؛ وذلك مع الأخذ في عين الاعتبار التدابير الواجب اتخاذها وتصحيح الانحرافات إذا حدثت".

وهل يغفل القادة عن استشراف المستقبل؟ الجواب هو: "نعم" و"كلا". إنَّ التوازن بين المهام اليومية الملحّة وأهداف منظورةٍ وقصيرة المدى؛ وبين استشراف المستقبل إحدى أهمّ التحديات التي تواجه القادة حالياً، وتضرّ بأداء الشركة مستقبلاً، والتي تسمى بـِ "الفجوة الاستراتيجية".

ففي كثيرٍ من الأحيان؛ ينجح القادة في تحقيق أهداف المؤسسة السنويّة ورفع ربحيتها بشكلٍ رائع، ولكن ما يغفلون عنه هو التفكير الجاد والمخطط له للمستقبل. إذ تتجه الشركات في حقيقة الأمر إلى القادة الذين يخططون للمستقبل، ولا ينشغلون بالمهام اليومية لدرجةٍ تُنسيهم التغييرات المتسارعة لما يحدث في عالم الأعمال. صحيحٌ أنَّنا بحاجةٍ إلى قادةٍ لإنجاز المهام اليومية، ولكنَّنا بحاجة أيضاً إلى إنجازٍ مستدامٍ وطويل الأمد.

عندما سُئِلَ بول لينواند مؤلف مشارك لكتاب "الاستراتيجية التي تعمل" عن سبب وجود فجوةٍ بين الاستراتيجية والتنفيذ في المؤسسات والشركات -حتى العالميّة منها- أجاب قائلاً: "أعتقد أنَّ هنالك شيئان كبيران يحدثان بالفعل. إحداهما هو أنَّ الشركات تمتلك طموحاتٍ كبيرة في بعض الأحيان، وتكون متحمّسةً تجاه سوقٍ معيّن ترغب في متابعته. بحيث يتكوّن لديهم حلمٌ كبيرٌ يرغبون في تحقيقه واستشراف المستقبل بخصوصه، لكن لا يقضون وقتاً كافياً للتفكير بشأنه، ولا يُدركون حجم الإمكانات اللازمة لتنفيذه؛ وهو ما لا يمكّنهم من القيام باستشرافٍ حقيقيٍّ للمستقبل، وإن كان مكتوباً بشكلٍ أنيقٍ ومنسّقٍ على الورق".

ويُكْمل حديثه عن الفجوة الداخلية في المؤسسات قائلاً: "والمشكلة الثانية هي أنَّه تتمّ في كثيرٍ من الأحيان إدارة الاستراتيجية وتنفيذها في إداراتٍ مختلفةٍ تماماً في الشركة. لذلك قد يكون لدينا كبير المسؤولين عن الاستراتيجية، والرئيس التنفيذي، وفريق الإدارة التنفيذي الذي يفكّر في الاتجاه الاستراتيجي. وفي المقابل؛ يكون لدينا قادة تنفيذيون، والعديد من الموظفين القلقين بشأن الجانب التنفيذي للأعمال. وإذا قمت بفصل هذه النشاطات، فإنَّك تخاطر بعدم تنفيذ الأشياء البالغة الأهمية التي تقود استراتيجيتك".

وهذا ما نجحت فيه شركات عالميّةٌ رائدةٌ مثل "أوبر" و"إيكيا" و"أمازون"؛ وهو الجمع بين تنفيذ المهام اليومية واستشراف المستقبل؛ بحيث يتأكدون أنَّ المهام اليومية تنفذ بشكلٍ صحيحٍ ووفقاً للإجراءات المقرّرة. إذ لا يمكنهم استشراف المستقبل عندما تكون العمليات اليوميّة غير دقيقة. ويضعون المستقبل نصب أعينهم في الوقت نفسه.

ويضيف بول حول دراسةٍ مهمّة: "في دراسةٍ أجريناها حول القيادة، طرحتُ أسئلةً حول مدى فعالية القادة في التفكير في الموضوعات التي تهمّ الاستراتيجية، ومدى فاعليتهم في تنفيذها. فكان ما نسبته 8٪ فقط من القادة قادرون على أن يكونوا رائعين في القيام بالأمرين معاً".

هذه النسبة المتدنية تبعث على القلق فعلاً، وتشير إلى أنَّ استشراف المستقبل يُعدُّ من التحديات التي تحتاج إلى اهتمام من القادة، واستثمار قدراتهم في تطويره.

إقرأ أيضاً: الشخصيّة القياديّة وأهم الصفات التي تجعل منك قائدًا ناجحًا

لربما لم تدرك المؤسسات والقيادات بعد أهمية مهارة استشراف المستقبل، فدعونا نسلّط الضوء على الفوائد العميقة للنظرة الاستشرافية في عالم الأعمال:

  • اكتشاف المشكلات قبل وقوعها، والتهيؤ لمواجهتها أو حتى قطع الطريق عليها بغرض الاستعداد المبكر للمستقبل، أو على الأقل المشاركة في صنعه بدلاً من الوقوف في موقف المتفرج.
  • إعادة اكتشاف الذات والغاية من المؤسسة، وإيجاد فهمٍ أفضل للموارد والطاقات الكامنة التي -إذا أُعيدَ استثمارها- تساعد المؤسسة على اكتشاف مسارات جديدة يمكن أن تحقق ما تصبو إليه من تنميةٍ مستدامة.
  • استشراف المستقبل ليس للمؤسسات وحدها، وإنَّما لقيادات الأمم الساعية إلى تحقيق التنمية؛ فمن خلال عمليات الاستكشاف وإعادة الاستكشاف تستطيع القيادات إعادة الثقة بنفسها، وتستجمع قواها وتحشدُ طاقاتها لمواجهة التحديات المستقبلية بطرائق وتقنيات علمية ودقيقة.
  • توفير قاعدةٍ معرفيّةٍ واسعة الخيارات يمكن من خلالها للقادة القيام بتحديدٍ مسبق للاختيارات المناسبة، وتجربتها ووضعها في موضع التطبيق عند إثبات أهليتها.
  • يتيح استشراف المستقبل للقادة البحث والانتقاء بين الاختيارات الممكنة والمتاحة، وترشيد عملية المفاضلة بشكلٍ علميٍّ ومدروس؛ ويمكن إخضاع كلّ اختيارٍ للمزيد من الفحص والبحث.

قد يلوح سؤالٌ هامّ في الأفق حول مدى قدرة القادة على استشراف المستقبل..

يبدو الأمر طبيعياً بالنسبة إلى الأفراد، فنحن جُبِلنا على التفكير في المستقبل والبحث في آفاقه، بحيث صار جزءاً من التفكير اليومي للأفراد. فهم دائمُ التفكير في مستقبلهم الوظيفي والعائلي والصحي ومستقبل أبنائهم. بينما تحتاج المؤسسات إلى مبادرات حقيقية للقيام بذلك؛ وفي هذا الصدد فإنَّنا نؤكّد على ما قاله "ريتشارد سلوتر": "إنَّ استشراف المستقبل يقع ضمن المقدرة الفطرية لدماغ الإنسان، وإنَّ كلّ إنسانٍ لديه مقدرةٌ على التفكير حول المستقبل. وما إن يدرك الأفراد ذلك، حتى يبدأوا بالانغماس في مفاهيم وأساليب المستقبليات، قبل أن يبدؤوا باستخدام المستقبليات أو طرق استشراف المستقبل في أعمالهم. أما المواقع الدائمة في المؤسسة فيجب إنشاؤها لتشجيع الاستشراف في المؤسسة بحيث يصبح القاعدة في العمل".

هل لدى المؤسسات المقدرة على التعامل مع المستقبل واستشرافه بشكلٍ مناسب؟

يتعامل قادة المؤسسات مع الاستشراف كونه أحد أهمّ المتغيّرات التي يمكن توجيهها لصالح الفرد والمؤسسة والمجتمعات. فهي تُجنِّبُ القيام بالمخاطرة، وتساعد في وضع حلولٍ للأزمات المتسقبليّة بكلفة اليوم بفعاليّةٍ تامة، والتي تكون أقلَّ تكلفةً من المستقبل في غالب الأحيان؛ وذلك مع ضمان سرعة الاستجابة، والتغلّب على عنصر المفاجأة والصدمة وعدم الجهوزية. ولكن تتفاوت مقدرة المؤسسات وقادتها في التعامل مع استشراف المستقبل من مؤسسة إلى أخرى، فتندرج ضمن فئاتٍ ثلاث:

  • الفئة الأولى: وهو موقف "العجز" الذي يسوده الخضوع إلى المتغيرات، والتي تركن إليه الإدارات التقليدية. فهي تنتظر الأحداث وتداهمها المتغيرات، فتعجز في غالب الأحيان عن التعامل معها تعاملاً إيجابيَّاً.
  • الفئة الثانية: وهو موقف "ردّ الفعل"، حيث انتظار التغيير للقيام باستجابةٍ ما. وهو موقفٌ قد يمكّن المؤسسة من التعامل مع المواقف الطارئة، بيد أنَّه لا يقودها إلى الأمام. إذ تتعامل المؤسسة في موقف ردّ الفعل مع كلّ حدثٍ بشكلٍ فردي؛ وهو موقفٌ يخضع بشكلٍ كبيرٍ إلى الحظوظ والأمنيات.
  • الفئة الثالثة: وهو موقف الاستشراف، ويُعدُّ موقفاً قيادياً حيث تتهيأ المؤسسة للتغيير، وتعمل في سبيل تحقيق تغييرٍ يخدم مصالحها. فهي تعمل جاهدةً على توجيه المستقبل في اتجاهٍ يخدم ما تصبو إليه.
إقرأ أيضاً: انفوغرافيك: الفرق بين المدير والقائد

ولذا من أهمّ التوصيات التي خرج بها جوزيف بيستوري للقادة ضمن مشروعه (Nextsensing) حول استشراف المستقبل هي:

  1. وسِّع مداركك مع فريق عملٍ مبتكر: أي غيِّر طريقة تفكيرك وانظر إلى الأشياء نظرةً مختلفةً ولا تكتفِ بتنفيذ المهام اليوميّة فحسب؛ بل نفذّها بالشكل الأمثل وطوّر نفسك في مجال الأعمال عبر قراءة الكتب التي تختصّ في هذا المجال. وكوِّن فريق عملٍ مبدعٍ يتطلّع إلى المستقبل بعين الحاضر، ويعمل بعضه مع بعض بشكلٍ مستمرٍّ من أجل استشراف المستقبل.
  2. قف في صفِّ التغيير: يبقى العديد من القادة أسرى الماضي الجميل والنتائج المبهرة في حقبة نجاح المؤسسات؛ لذا تجدهم مرتبطين ارتباطاً وجدانياً وعاطفياً معه. لذا ما يتعيَّنُ على القائد فعله لردم "الفجوة الاستراتيجية" هو أن يُقدِّر الماضي والمهنية التي نجحت من خلالها الشركة في فترةٍ من الفترات، إضافةً إلى قيادة التغيير في المؤسسة؛ فيحدد التوجّه الجديد لها ويتبناه ويدفعها باتجاهه. فحريٌّ به أن يكون سبَّاقاً إلى استخدام الطرائق والأدوات الجديدة بكلّ ثقةٍ وحماس.
  3. أنشىء بيئة عملٍ تستشرف المستقبل: بعدما تبنّى القائد توجهاتٍ جديدة تصب في مصلحةِ استشراف المستقبل؛ ينبغي له أن يخلق بيئةً تناسب القيام بالتجارب والتغييرات اللازمة لإنجاحها. من أخطر الممارسات في استشراف المستقبل هي المقاومة الداخلية التي تُفْشِلُ أيّ مسعىً حميداً للتطوير والتحديث. ولنا في قصة "شركة نينتندو" عند قيامها باستشراف المستقبل باتجاه الألعاب الالكترونية في 1977 عبرة وعظة لمن يعتبر ويتعظ؛ فقد وجد "هيروشي" المدير الجديد في وقتها مقاومةً كبيرةً من قيادات الشركة، ما اضطره إلى فصل كلّ المديرين واستبدالهم بمن يتوافق ووجهة نظره ومستقبل الشركة. ولم يكتفِ بذلك، وإنَّما خصص الأدوات والموارد المناسبة لإجراء التجارب على المنتجات الجديدة حتى أثبتت جدواها. وها هي "نينتندو" أصبحت إحدى أهمّ الشركات في هذا المجال، وثالث أكثر شركات اليابان قيمةً مع أكثر من 85 مليار دولار كقيمةٍ سوقيّة.
  4. كُن قائداً مستشرفاً للمستقبل: كن رائداً في استشراف المستقبل ولا تنتظر أن يقوم أحدٌ غيرك بهذه المهمة بدلاً منك. فلا ينبغي للقائد أن يظل منغمساً في المشاكل المؤسسيَّة اليومية مثل: أخطاء الموظفين ومشكلات التشغيل وخطط الصيانة وسواها، فهذه ليست من مهام القائد ولم يجرِ توظيفه من أجل ذلك؛ وإنما ليرى المستقبل بعين الحاضر، ويقود المؤسسة من الأمام، ويُقدِمَ على المخاطرة المحسوبة مع توفير كافة ظروف النجاح المؤسساتي.

لم تعد مهارة استشراف المستقبل ترفاً فكرياً بالنسبة إلى القادة، أو رفاهيةً مؤسسيّةً تتباهى بها المؤسسات؛ إذ وفي ظلِّ المتغيرات السريعة والمتلاحقة في القرن الحادي والعشرين؛ يجب على كلاهما تعلّم هذه المهارات إن أرادوا المشاركة في صنع المستقبل بفعالية، وامتلاك الخريطة الواضحة التي يهتدون بها، والبوصلة التي تقودهم إلى آفاق النجاح.

المراجع:




مقالات مرتبطة