4 طرق لتخفيف تأثيرات اضطراب نقص الانتباه

أحضرتُ لابني منذ عدة سنوات لعبة "السلم والثعبان" (Chutes and Ladders)، وقد اندمج الطفل في اللعب في الحال، وكنتُ أنتظرُ بصبرٍ نافدٍ اللحظة التي سيفوز فيها باللعبة، وأراقب حماسته وبهجته حينها، وعندما انتهت اللعبة صرختُ بحماسة: "لقد فزتَ يا بني!" متوقعةً أن يبادلَني مشاعرَ الحماسة والغبطة؛ لكنَّه بدلاً من ذلك راح ينظر إلى العبة وانفجر باكياً، فحرتُ في أمري واستعلمت منه عن سبب بكائه؛ فأخبرني بأنَّه لا يريد أن تنتهي اللعبة.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذٌ عن الكاتبة "إرين فالكونر" (Erin Falconer)، وتُحدِّثنا فيه عن 4 طرائق لتخفيف تأثيرات اضطراب نقص الانتباه.

عندما يتقدم الإنسان في السن، فإنَّه يفقد شعور المتعة بالعملية التي يقوم بها بحدِّ ذاتها، ويركز على النتيجة النهائية مؤمِّلاً الفوز، وقد يُعزَى هذا السلوك إلى عدم تركيز الانتباه، أو الإفراط في تركيزه، وربَّما لكلا السببين معاً.

كثُر الحديث أخيراً عن الجوانب السلبية لاضطراب نقص الانتباه، كما أفاد برنامج "إنعاش الأطفال حديثي الولادة " (NPR) نقلاً عن الدكتور "ديفيد غودمان" (Dr. David Goodman) الأستاذ المساعد في كلية الطب النفسي والعلوم السلوكية في جامعة "جونز هوبكنز" (Johns Hopkins University) أنَّ البالغين المصابين باضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط (ADHD) يعملون بصورة غير متَّسقة، ويتأخرون عن المواعيد، ويواجهون صعوبة في إدارة مهامهم اليومية؛ كتسديد الفواتير في المواعيد المحددة، أو دفع المبالغ المستحقة، كما أنَّهم أكثر عرضة لخسارة وظائفهم، أو إشهار الإفلاس.

يستشهد الصحافي الإنجليزي "تيم هارفورد" (Tim Harford) في أحد "مؤتمرات تيد" (Ted Talk) بالبحث العلمي الذي أُجريَ على طلاب جامعة "هارفارد" (Harvard) المصابين بضعف الانتباه، ومع ذلك نجحوا في تحقيق إنجازات إبداعية بارزة؛ كنشر رواية، أو تسجيل ألبومات موسيقية أكثر من ذوي معدلات الانتباه المرتفع.

لقد صعَّب وجود المشتتات التركيز على الموضوع قيد العمل من ناحية؛ لكنَّه أسهم من ناحية أخرى بتحفيز عملياتهم الإبداعية مع مرور الوقت، كما عبَّر د.هارفورد عن الوضع بقوله: "كان هؤلاء الطلاب قادرين على التفكير خارج الصندوق؛ لأنَّ صناديقهم كانت مليئة بالثقوب"؛ يعني هذا الكلام أنَّ تركيزَ كاملِ الانتباهِ على هدفٍ واحدٍ لا يخدم الإنسان دائماً.

يقتبس المؤلف الأمريكي "جيفري جيمس" (Geoffrey James) عن المؤلفة الأمريكية "بريغيد شولته" (Brigid Schulte) مؤلِّفة كتاب "منهمك: العمل والحب واللعب عندما لا يملك أحد الوقت" (Overwhelmed: Work, Love, and Play When No One Has the Time) عن التناقض البارز في الطريقة التي يعمل بها عقل الإنسان:

"تفيد دراسات علم الأعصاب بأنَّ الدماغ البشري يكون في أوج نشاطه في أوقات الفراغ والكسل، وتنشط في هذه الحالة "شبكة الوضع الافتراضي" (The Default Mode Network) التي تربط أجزاء الدماغ التي لا تعمل مع بعضها في الأحوال العادية، ويمكن أن تحدث ارتباطات جديدة بين الأفكار، والذكريات، والصور الذهنية وتؤدي إلى استنباط أفكار إبداعية خلال أوقات الفراغ".

يسهم الإفراط في التركيز على زيادة فاعلية العمليات العقلية في أثناء تأدية نشاطات محددة؛ لكنَّه يؤدي من ناحية أخرى إلى استبعاد معلومات يفترض الدماغ أنَّها لن تخدم الهدف قيد التنفيذ؛ لكنَّها يمكن أن تكون مفيدة في حقيقة الأمر، وينجم عن فرط التركيز أيضاً سيادة قانون الكل أو العدم، وبالعودة إلى مسألة الألعاب يمكن القول إنَّ المتعة الحقيقية للألعاب تكمن في اللعب بحد ذاته بصرف النظر عن الفوز أو الخسارة.

يقضي الإنسان الجزء الأكبر من حياته وهو يسعى صوب تحقيق أهدافه التعليمية، والمهنية، والأخرى المتعلقة بالعلاقات الشخصية، وجني الأموال، والشهرة، وهذا تصرُّف طبيعي وسليم تماماً؛ لأنَّ مشاعر السعادة والرضى تُبنَى على الإحساس بوجود هدف يقتضي العمل على تحقيق إنجازات بارزة؛ لكنَّ التركيز على الهدف النهائي وإغفال أهمية عملية الإنجاز بجميع مراحلها، يؤدي إلى تجريد الإنسان من إحساسه بمعنى الجهود التي يبذلها وجدواها؛ وبهذا تطغى مشاعر الإحباط؛ لأنَّ النجاح بعيد عن متناول اليد في الوقت الراهن، ناهيك عن مشاعر الفراغ المرافقة لتحقيق الهدف النهائي؛ نتيجة عدم الاستمتاع بمراحل عملية الإنجاز بحدِّ ذاتها.

تهدف الألعاب عموماً إلى المتعة والتسلية؛ لهذا السبب يستمتع الإنسان بفكرة اللعب بحدِّ ذاتها، ولا يفكر إلَّا بالترفيه عن نفسه، ويركز كامل اهتمامه على اللعب لدرجة فقدان شعوره بمحيطه.

تسترخي الأجزاء المسؤولة عن العمليات الإبداعية في الدماغ في هذه الحالة؛ ما يؤدي إلى استنباط عدد لا يحصى من الأفكار الإبداعية غير المسبوقة، ومع ذلك ثمة جوانب سلبية للنشاطات غير الهادفة والتسلية غير الواعية التي تهدف إلى الهروب من الواقع؛ لذلك يقتضي الحل تحقيق التوازن بين التركيز على عملية الإنجاز والإنجاز بحدِّ ذاته.

أُذكِّرُ هنا مجدداً بالطفل الصغير الذي يهتم بممارسة اللعبة بحدِّ ذاتها ولا يهتم بالفوز أو الخسارة، ومن هذا المنطلق يستحسن أن يقلل الإنسان من تركيزه على الهدف النهائي، ويبدأ بملاحظة مزيدٍ مما يحدث حوله خلال مراحل عملية الإنجاز وإدراكه بحيث يحقق التوازن فيما بينها.

يحتاج المصاب باضطراب نقص الانتباه إلى فرض أسس ثابتة للنظام في حياته؛ حتى يخفض من التأثيرات السلبية للاضطراب في أعماله اليومية.

شاهد بالفيديو: 10 حقائق قد لاتعرفها عن العقل البشري

 

فيما يأتي 4 طرائق لتخفيف تأثيرات اضطراب نقص الانتباه:

1. قبول الفوضى:

يروي الصحافي الإنجليزي "تيم هارفورد" قصة حدثت مع العازف الأمريكي "كيث جاريت" (Keith Jarrett) في عام 1975 في أثناء إحيائه حفلاً موسيقياً في دار "كولوجن أوبرا"، فقد اكتشف العازف حينذاك أنَّ البيانو غير موزون والمفاتيح السوداء في اللوحة لزجة، وكانت مفاتيح البيانو العلوية صغيرة، والدواسات لا تعمل، وما زاد الوضع سوءاً أنَّ آلة البيانو بحدِّ ذاتها كانت صغيرة جداً وغير قادرة على إحداث صوت قوي يلائم حجم الدار الكبير؛ لذا طالب عندها السيد "جاريت" باستبدال آلة البيانو وإلَّا فإنَّه لن يعزف وسيغادر الأمسية.

لم تستطع متعهدة الحفل الموسيقي المنتجة الألمانية "فيرا برانديس" (Vera Brandes) تأمين آلة بديلة؛ فطلبت من العاملين ضبط وزن الآلة بعد أن نفدت الخيارات المتاحة، وتوسلت إلى "كيث جاريت" ليعدُلَ عن قراره وهي واقفة في الخارج والسماء تمطر من فوقها؛ فأشفق عليها العازف في نهاية المطاف، ووافق على تأدية العرض الموسيقي.

أعرب "كيث جاريت" بعدها عن رضاه عن ذلك العرض؛ فقد وجب عليه حينها أن يرتجل لتعويض جوانب القصور في الآلة، وأسفر هذا الارتجال عن أداء استثنائي، وأصبح ألبوم البيانو هذا الأكثر مبيعاً في التاريخ، وأكثر الألبومات مبيعاً للجاز المنفرد في التاريخ.

لقد ركز "كيث جاريت" كامل انتباهه حينها على عملية العزف بحدِّ ذاتها بدل أن يقلق بشأن النتيجة النهائية؛ وبالنتيجة دخل الألبومُ المسجلُ في تلك الحفلة الموسيقية التاريخَ من أوسع أبوابه.

2. الخروج عن المألوف بين الحين والآخر:

يؤدي الإفراط في اتباع النهج العلمي وأنماط السلوكات والأفكار والعلاقات الاجتماعية الثابتة يوماً تلو الآخر إلى قصور عمل الأجزاء المسؤولة عن الإبداع في الدماغ، فعندما لا يحاول الإنسان أن يفكر خارج المألوف فإنَّه يظل حبيسه إلى الأبد؛ وبناءً عليه يُنصَح باستثمار الفرص المتاحة التي تدفعنا إلى خوض تجارب جديدة غير مألوفة؛ حتى لا ينتهي المطاف بالإنسان بعيش حياة رتيبة ضمن بيئة قاتلة لأيِّ بوادر إبداعية.

هنا تبرز فائدة اضطراب نقص الانتباه، ولكن بصرف النظر عن مدى قدرة العقل البشري على استبعاد مصادر التشتت المحيطة به، فإنَّ الخروج عن المألوف وخوض تجارب جديدة بين الحين والآخر، يؤدي إلى تحفيز رؤى ومواقف ووجهات نظر مبتكرة عن نفس الإنسان والعالم من حوله؛ فكما قالت الممثلة الأمريكية "أوما ثورمان" (Uma Thurman) للممثل الأمريكي "بين أفليك" (Ben Affleck) في فيلم "باي تشيك" (Paycheck): "بعض أفضل الأشياء التي تحدث في الحياة هي أخطاء محضة".

إقرأ أيضاً: 7 طرق لتوسيع الفكر والوصول إلى آفاق جديدة

3. اختيار نشاطات ترفيهية نوعية وهادفة:

تساعد عروض الغموض التلفزيونية، وبرنامج المسابقات الأمريكي "جيوباردي" (Jeopardy) مثلاً، أو قراءة كتاب ممتع، أو حل أحجية مع القيام بالتمرينات الرياضية يومياً على الاسترخاء دون التسبب بخمول العمليات العقلية الذي تحدثه عروض تلفزيونية ترفيهية، مثل برنامج "الرقص مع النجوم" (Dancing With The Stars)؛ أي باختصار يُحفَّز التفكير الإبداعي من خلال اختيار نشاط يشغل الدماغ ويساعده على الاسترخاء في آنٍ معاً.

4. النظر إلى الجوانب الإيجابية:

قد يُعِدُّ بعض الأشخاص هذا الكلام مبتذلاً؛ لكنَّه صحيح وفعال في حقيقة الأمر؛ فكلما ازدادت أفكار المرء السلبية وأفعاله ظهرت هذه السلبية على مشاعره؛ لهذا السبب يُنصَح بالانتباه إلى نمط الكلام بحيث يُركَّز على ترديد عبارات إيجابية، والامتناع عن قول كلام سلبي أو نقدي، ويميل البشر عموماً إلى النفور من كثيري الشكوى، وينطبق الأمر نفسه عندما يشتكي الفرد لنفسه.

إقرأ أيضاً: التفكير بطريقة مختلفة من خلال تغيير الأسئلة التي تطرحها

في الختام:

يجب أن تبتسم للآخرين وعلى الأرجح سيردون عليك بالمثل؛ بل يمكن أن تنشأ محادثة ودِّيَّة بينكم تؤدي بدورها إلى استنباط آفاق جديدة في طريقة التفكير والحياة بالمجمل، وبوسع التغييرات البسيطة أن تُحدِث تحولات جذرية في حياتك، وقد قَدَّم هذا المقال 4 طرائق بوسعها مساعدتك في هذا الصدد.




مقالات مرتبطة