هـل عـلينـا إلـغـاء لـقاح السّـل ؟

بقلم:أوليفيي بلوند Olivier Blond

 لا يفلت أي طفل في فرنسا من التلقيح، فالتلقيح بلقاح السّل(BCG) منتظم وإجباري. هل لا يزال هذا الإجراء مبررا ؟ في الوقت الذي لا ينفك فيه انعكاس سّل اللقاح علي مستوى البلاد في الانخفاض، تبقي فعاليّته نسبيّةتماما ؟ الوضع الراهن: التلقيح النهائي أو التلقيح الهادف؛ لن يكون اتخاذ القرار طبيّ فحسب.


تخلت السويد سنة 1975 علي التلقيح المنتظم للأطفال باستخدام لقاح السلّ، ولم تلجأ لا البلدان الواطئة ولا الولايات المتحدة له. أما ألمانيا فقد ألغته سنة 2000. غير أن اللقاح يبقى إلزاميا في فرنسا: يجب تلقيح جميع الأطفال، كما يجب تجديد الإجراء في حال تبيّن أن الحقن الأول غير فعّال. نقرأ في آخر تقرير

لمعهد (Institut Veille Sanitaire(IVS)):< إن السياسة الفرنسية في هذا الشأن إحدى السياسات الأكثر وزنا في العالم، ويحسن بنا إجراء دراسة مناسبة للاحتفاظ بها علي هذا الحال > (1 ). هل حان وقت التغيير ؟
ربما لا يعلم أحد حتى الآن كيف يمكن القيام بذلك، لكن معهد (IVS) يعترض في المقام الأول علي فرصة إعادة التلقيح.
السلام علي إعادة التلقيح
إن التلقيح اليوم إجباريا علي الأطفال الذين ينتسبون لجماعات( حضانات وأمومة)، وهو منتظم في سن السادسة. يبحث الأطباء بعد الحقن الأول علي وجود ردّ فعل لاختبار السليّن(Tuberculinique): تصلّب، ولطخة حمراء صغيرة تثبت حدوث الاستجابة الفعليّة لجهاز المناعة. ويستدعي غياب هذه الاستجابة لهذا الاختبار إجراء حقن ثان. بيد أن العلاقة بين ردّ فعل اختبار السلّين، وفعاليّة اللقاح غير مثبتة. فهناك حالات تغيب فيها الأولى وتحضر فيه الثانية. فضلا علي أنه لم يثبت إطلاقا فعاليّة إعادة التلقيح عند أشخاص فقدوا الحماية المرتبطة بالتلقيح الأول (primo vaccination). خلص ابتداء من 1995 قرار لـ المنظمة العالميّة للصحة (OMS) للقول: " لا يوصى بإعادة التلقيح عند الأشخاص الملقحين بلقاح السلّ، وأنّه لا وجود لأيّة نتيجة علميّة تؤكد فائدة هذه الممارسة "(2 ). ولم يتسبب وقف إعادة التلقيح في نفس السنة بفلندا- التي كانت بها الخصائص المتعلقة بتردد (Incidence) السلّ* متقاربة في سنة 1990 مع الوضع الفرنسي الراهن- في أي حالات إضافية للسلّ.
العنوان الأصلي للمقال: Faut- il supprimer le BCG ? , La Recherche, n° 356, septembre 2002.
* عدد حالات مرض ما في مجموعة سكانيّة معيّنة في وقت معيّن- الكاتب.
تعد فرنسا البلد الوحيد في أوربا رفقة البرتغال، وجمهوريّة التشيك الذين لا يزالون يمارسون التلقيح المزدوج. أعلنت منظمة الصحة العالميّة في دراسة مؤرخة في عام 1998: " عن وجوب إيقاف إعادة التلقيح في فرنسا والبرتغال، ووجوب تغيير القوانين التي تتعلق به. " (3 ). يبدو أن ذلك ربما سيقع قريبا، ولعل الحجج الماليّة تساعد في اتخاذ القرار الذي تتجه لتبنيه الحجج العلميّة والصحيّة: قدّرت دراسة أنجزت سنة 1996 الكلفة الإجمالية للسياسة الفرنسيّة للتلقيح بلقاح عصيّة السلّ (BCG) بمليون فرنك فرنسي سنويا؛ وتذهب 665 مليون من هذه القيمة، أي 88 % التابعة للتلقيح الأول، بمعنى لإعادة التلقيح تذهب سدى أو تكاد. > (4(
لكن النقاش حول إعادة التلقيح جرّنا لنقاش آخر، نقاش أكثر تعقيدا وحساسيّة: إنّه بكل بساطة نقاش التلقيح باستعمال عصيّة السلّ(BCG). ما هي عناصر المسألة ؟ يؤكّد (Daniel Lévy-Bruhl) منسق الدراسة علي
ما يلي:" تبنى القرارات في ميدان التلقيح، كما هو الحال في أية استراتيجيّة وقائيّة علي تحليلات
النفع-الخطر(bénéfice-risque)، بعبارة أخرى تتخذ القرارات علي أساس الموازنة بين الايجابيات والسلبيّات".
ما هي استراتيجيّة البلدان الفقيرة ؟
أشار (Jacques Grosset) من كليّة الطب بـ (Pitié-Salpêtrière)(12 ) منذ ثلاث سنوات بأن القضاء علي السلّ( في البلدان المصنّعة) يتوقف في قسم كبير منه علي نجاح الصراع المضاد للسلّ في البلدان الأخرى من العالم بسبب عدد حالات السلّ المستورد >. يهلك المرض كل سنة في البلدان الفقيرة زهاء ثلاثة ملايين شخص، علي الرغم من وجود علاج مضاد حيوي فعّال في نسبة 100 % تقريبا من الحالات. و يرجع معدل الوفيات لصعوبات الكشف المبكّر للمرض(dépistage)، بالإضافة أنّه ليس للأشخاص المعنيين دائما فرصة الحصول علي الأدوية، لكن يرجع السبب أيضا لطول فترة العلاج باستعمال المضاد الحيوي التقليدي( تصل مدّة العلاج إلي عدّة أشهر وأحيانا سنة)، وفي غالب الأحيان يتوقف المريض عن العلاج في منتصف الطريق.
وهكذا قررت منظمة الصحة العالميّة سنة 1994 انتهاج استراتيجيّة جديدة أطلق عليها اسم استراتيجيّة(DOTS) من أجل " علاج قصير المدى تحت المراقبة ". يتعلق الأمر بإنقاص مدة العلاج لبضعت أشهر، والتأكد بأن المرضى يتبعونه بانتظام ". بيد أن هذه الاستراتيجيات تستدعى تشييد منشئات طبيّة فعّالة وتحسيس الحكومات بمسؤولياتها، فضلا علي تموين جيّد بالأدوية. تقدر فعاليّة العلاج في البلدان التي تطبّق البرنامج (هنا في البنغلاديش منذ 1993) بنسبة شفاء تبلغ 78 % مقابل 45 % في حال غيابه. لكن بيّنت دراستين بأن التمويلات الحاليّة
لا تزال غير كافية بشكل كبير حتى تتمكن من الانتصار علي المرض:إنّها تسمح فقط بتثبيت عدد الضحايا. (13(
مـا هـو الـميـزان ؟
نذكر أولا إيجابيات اللقاح التي تتباين حسب تقديراتنا للأشكال المختلفة للسلّ، سواء منها الرئوية أو الواقعة خارج الرئة(extra-pulmonaire). ويتسبب السلّ الرئوي الذي قضى علي أوربا حتى منتصف القرن العشرين في سعال وبصق دم، وهما عرضين يمثلان المرض في تصور المجموعة الطبيّة. أما الأشكال الواقعة خارج الرئة الأكثر ندرة، ولكنها أكثر مباغتة فباستطاعتها إصابة أعضاء أخرى، حيث تتسبب علي سيبل المثال في التهاب السحايا الذي غالبا ما يكون قاتلا. ويبدو أن اللقاح يحمي أكثر من هذه الأمراض. ويرى (Christian Péronne) رئيس اللجنة التقنيّة للقاحات أنّ " اللقاح يقي الأطفال الصغار من الأشكال الخطيرة في أكثر من 80 % من الحالات. وبالمقابل لا تتجاوز نسبة الحماية 50 % بالنسبة للأشكال الرئويّة عند ا لكبار >. ألا يحسن بنا مرة أخرى أن نؤكد بأن عملية إثبات فعاليّة اللقاح غامضة: بيّنت الدراسات المختلفة التي أنجزت منذ نهاية الحرب العالميّة الثانيّة فعاليّة للقاح تتراوح بين 0 % و 80 % ! ، وربّما يعود التنوع الكبير لهذه النتائج لتنوع لقاحات عصيّة السلّ. والحق انّه إذا كان مصدرها جميعا الأصل الأولي(souche originelle) لـ كالميت(أ)(Calmette)، وغيرين(ب)(Guérin) فقد تطورت تدريجيا منذ قرن بالنظر إلي انتاجهما في المخابر. وهكذا يؤكد(Brigitte Gicquel) رئيس وحدة علم وراثة
أ‌) 1863 -1933: طبيب فرنسي ومختص في علم الجراثيم، اشترك مع Camille Guérin في اختراع لقاح السلّ. وضع وطور عدة طرق للتلقيح، سيّما لقاح السلّ. أصبح سنة 1927 عضوا بأكاديميّة العلوم، كما تبوئ منصب نائب مدير معهد باستور-المترجم
ب‌) 1872- 1961: عالم جراثيم فرنسي أوجد بالاشتراك مع Calmette لقاح عصية كالميت-غيرين المضاد لمرض السّل-المترجم
المتفطرات(génétique mycobactérienne) بمعهد باستور علي أنّ " تحليل شامل لجينومات هذه الأصول الأنثوية(souche filles) قد بيّن وجود اختلافات في عدّة مناطق من الجينوم"(5 ). أمّا بخصوص رقم النسبة القصوى للفعاليّة ألا وهو 0 % المسجل في الهند الجنوبيّة فيبدو أنّه يقحم عاملين آخرين. من جهة يقحم أخطاء منهجيّة، ومن جهة أخرى يقحم الحقيقة التي مفادها أن السكان الذين هم في اتصال منتظم مع المتفطرات القريبة جدا من عصيّة متفطر السلّ (Mycobacterium tuberculosis) يكتسبون حماية طبيعيّة ضد هذه الأخيرة؛ حماية تجعل من عصيّة السلّ آليا عصيّة خفيّة.
لا يزال يخيم علي المسألة شك آخر مهم، ألا وهو مدّة الحماية التي يوفرها اللقاح، والتي تقدر اليوم بخمسة عشر عاما. وبما أنّه يفترض بأن عمر اللقاح أقل من ستة سنوات، فذلك يعني إذن أن الشريحة التي يطالها اللقاح هي شريحة الأطفال وصغار السن فقط. لكن الوضع بفرنسا اليوم يبيّن أن الوفيات أساسا تطال الكبار بسبب السلّ، في الوقت الذي توفرت فيه علاجات بالمضادات الحيويّة الفعّالة في حوالي 100 % من الحالات المعالجة. لكن بما أنّ إشكاليّة< أطفال > تتميّز بكثرة الأشكال الواقعة خارج الرئة(formes extra-pulmonaire) التي غالبا ما تكون خطيرة جدا، وقد تركّز عليها- في أوربا- النقاش بشأن مناسبة أو عدم مناسبة الاحتفاظ بالتلقيح. يعرض الوضع علي أسس مختلفة في البلدان غير الغربيّة: الصين أو الهند مثلا، حيث يشكل السلّ كارثة كبرى. وتمرّ عمليّة مكافحة المرض في هذه البلدان عبر تحصل أفضل علي الأدوية، ومتابعة أفضل للعلاج: إنّه موضوع برنامج(DOTS) للمنظمة العالميّة للصحة( راجع:< ما هي الاستراتيجيّة في البلدان الفقيرة ؟ > )، كما تهدف العديد من البحوث لاستحداث لقاح جديد حقيقة فعّال في جميع شرائح العمر، غير أنّه لا يتوقع أي نتيجة ملموسة قبل عدّة سنوات .
السـلبـيّـات
لنرجع لسلبيّات اللقاح الحالي في سياق استخدامه في فرنسا. لا يخلو اللقاح تماما من الأضرار، حيث يسبب التهابات عقديّة(ganglions)، أو التهاب غددي ما بعد التلقيح(adénite post-vaccinales) بمعدل مرّة في ألف حالة. ويجب أحيانا أن ننتظر عدّة أشهر ليشفى المريض- وتستدعي في بعض الحالات عمليّة جراحيّة بسيطة- ولو أنّها التهابات حميدة نسبيّا. بالمقابل يمكن لهذه الالتهابات أن تؤدي إلي مضاعفات خطيرة عند الأشخاص ضعاف جهاز المناعة(immunodéprimés) (6 )، حينئذ نتحدث علي عصيّة BCGite( تنتهز فيها الجرثومة فرصة ضعف دفاعات جهاز المناعة حتى تتكاثر). ولهذا السبب يعفى الأطفال المصابون بفيروس فقدان المناعة المكتسبة(VIH) من إجبارية التلقيح.
هل نوقـف التلـقيـح أم لا ؟
ما هي بشكل ملموس الأهمية النسبيّة للجوانب السلبيّة والايجابيّة ؟ تتناسب حوادث التلقيح طردا مع عدد السكان الملقحين، ويحسب ذلك علي أساس تردد ثابت( بمعنى في فرنسا، تقريبا إجمالي الأطفال). ويسبب لقاح السلّ مئات الالتهابات الغدديّة سنويا، وذلك حسب (Vincent Jarlier) رئيس علم الجراثيم وعلم الصحة
بمستشفى(Pitié-Salpêtrière). وفضلا علي ذلك فإنّ الثمرة التي يجنيها التلقيح تتوقف أساسا علي تردد
السلّ (incidence de la tuberculose)، بمعنى عدد الأشخاص الذين يعانون من المرض. وإذا كان السلّ متواجد كليّة في عدد السكان فإنّ مفعول الواقي للقاح مهم بصفة آلية. غير أنّ عدد حالات السلّ المتجنبة أقل ضعفا بالبلدان التي يكون فيها المرض نسبيّ، وهو تحديدا ما هو الحال عليه في فرنسا. يمكننا لقاح السلّ سنويا من تجنب - لدى الأطفال أقل من ستة سنوات - عدد حالات التهاب السحايا، أو تجنب شكل آخر خطير يطلق عليه اسم التدرّن الجاورسيّ(tuberculose miliaire)، وذلك حسب تحاليل معهد (IVS). هل أن أثر مائة حالة التهاب غددي أكثر من أثر عشر حالات التهاب السحايا ؟ يرى (Vincent) بأن الايجابية علي هذا السؤال واضح:< تميل كفة المعطيات التقنيّة لصالح إلزامية التلقيح >. ويسمح الوضع بفرنسا حسب الاتحاد الدولي لمكافحة السلّ والأمراض التنفسيّة(UICTMR) بـ: < توقع وقف برنامج تلقيح تم بواسطة لقاح السلّ >. لكن الجميع لا يفهمون ذلك بهذا
حيث أكّد منذ فترة قصيرة (Joël Gaudelus) من مصلحة طب الأطفال بمستشفى (Jean-Verdier) في مدينة (Bondy)، وعضو اللجنة التقنيّة للتلقيح قائلا: < لا يزال الوقت مبكرا جدا في فرنسا لوقف التلقيح باستعمال لقاح
السلّ (BCG) >. ويضيف قائلا: < يجب قبل كل شيء أن نتوفر علي نظام مراقبة صارم، ومن المحتمل الاحتفاظ بتلقيح هادف(vaccin ciblé) (7 ). يستدل جل مناصري إلغاء التلقيح(abolitionnistes) بالسويد التي أوقفت التلقيح المنتظم سنة 1975، في الوقت الذي توافقت فيه تقريبا الظروف السائدة في البلاد -بالنظر للمرض- مع ظروف فرنسا اليوم. وحسب وثيقة أصدرها معهد (IVS) فإنّ < التردد الشامل للسلّ استمر في الانخفاض بنفس الوتيرة بعد [ وقف ] التلقيح كما هو الحال قبل ذلك >. لا يفاجئ هذا الإثبات (Daniel Lévy-Bruhl) الذي يعتبر < لقاح السلّ سوى أحد أدوات مكافحة مرض السلّ، و لا يعتبر اللقاح من أخر السلّ، بل أخرته المضادات الحيويّة والنظافة >. نستنتج بأنّ السلّ يختلف عن أمراض أخرى، تلك الأمراض التي لا حلّ لها إلا التلقيح، كمرض الجدريّ(variole)، أو الشهاق(coqueluche). غير أنّه لوحظ في السويد دائما ارتفاع طفيف في عدد حالات السلّ بعد سنة 1975، سيّما عند الأطفال المنحدرين من عائلات قادمة من بلدان نسبة السلّ بها مرتفعة، ويحتمل أنّ هؤلاء قد أصيبوا بالعدوى عقب قضائهم لإجازة العطلة مثلا... وهكذا عزّزت السلطات في بداية سنوات 1980 فكرة تزكية تلقيح مثل هؤلاء الأطفال.
كما يوجد في فرنسا أيضا تباينات كبيرة في تردد السلّ. وعادة ما يركّز المدافعين علي التلقيح المنتظم علي وجود المجموعات المشكلة للخطر(groupes à risque). وقد انخفض بانتظام التردد علي مستوى البلاد منذ عدّة عقود، وهذا في حال استثناء الارتفاع الطفيف الذي سجل في بداية التسعينيّات لعلاقته بوباء السيدا. لكن لم يعد هذا التردد للانخفاض منذ أربع سنوات: يوازي ارتفاعه في بعض المناطق- أساسا بباريس والتاج الباريسي(couronne parisienne) – الانخفاض المستمر الذي لوحظ علي بقية البلاد. وربما أحصي سنة 2002 6714 حالة سلّ، أي بتردد مصرح به بلغ 11.2 حالة لكل 100000 ساكن. وبيّن(Bénédict Decludt) من معهد (IVS) بأنّ هذه القيمة بلغت 100000 / 28.8 بجزيرة فرنسا ، و 100000 / 49.9 بباريس (8). أمّا حسب (Laurence Zunic) من مصلحة المساعدة الطبيّة الاستعجاليّة الاجتماعيّة(أ) (Samu Social) فتصل القيمة 100000 /240 عند من لا يملكون سكنا قارا(SDF) في باريس (9 ). مرّة أخرى نقول أنّ هذه الأرقام تتأسس فقط علي الحالات المصرح بها ( السلّ من الأمراض التي يجب التصريح بها )، أي حسب التقديرات نسبة تتراوح بين 65 % و 70 % من إجمالي الحالات.
إنّ العلاقة بين السلّ والظروف الصحيّة السيئة معروفة منذ مدّة: السلّ مرض الفقر. وليس من المدهش أنّ نجد في بعض المجموعات الاجتماعيّة المحرومة المتركزة في وحول العاصمة هذه الأرقام التي تفوق جدا المعدل الوطنيّ. فالمهاجرين القادمين من البلدان المصابة كثيرا بالمرض عرضة أكثر للعدوى بالمرض. في الوقت الذي يبلغ فيه تردد المرض عند الأشخاص الموليدين بفرنسا 68، يصل لدى الأشخاص المنحدرين من افر يقيا شبه الصحراويّة 125.3 . وهكذا طلبت معظم البلدان التي أوقفت برامج التلقيح الإجباري، والبلدان التي تعيش وضع مشابه لفرنسا، طلبت من الأطفال المنحدرين من آباء أجانب قدموا من بلد يشكل خطرا كبيرا إجراء التلقيح.
هل يمكننا القيام بنفس الشيء، أو علي الأقل أن نحصر التلقيح الإجباري في بعض المحافظات ؟ هل تقبل الجمهوريّة بعض < المجموعات التي تشكل خطرا > ؟ يعترف (vincent Jalier) < أنّه يصعب علي رجال السياسة التحكم عمليا في السلّ >. أمّا معهد(IVS) فيقترح في تقريره خيارين دون أن يبت في الأمر: < إجراء تلقيح فقط داخل مناطق يكون تردد السلّ فيها كبيرا، أو إجراء تلقيح داخل مناطق يكون فيها تردد السلّ كبير ،ومرتبط بعدد سكان يشكلون خطرا (populations à risque) علي مستوى مجموع البلاد
  
أ‌) مصلحة استشفائيّة فرنسيّة أنشأت بقانون مؤرخ في 19 جويلية 1972. تهتم بالتكفل المبكر للحالات الاستعجاليّة الطبيّة و الجراحيّة. وتتوفر المصلحة علي وسائل خاصة بها تسمح لها بالتدخل في الميدان عقب الحوادث، أو التدخل ببيوت المرضى عند الحالات الخطيرة. كما يتكفل بتنظيم عمليات الإنقاذ الطبيّة في حالة وقوع حادث جماعي، أو وقوع كارثة-المترجم
معـايير اتخـاذ القـرار
ألا يوجد معيار موضوعي وعلمي لاتخاذ القرار ؟ تكمن الصعوبة في قسم منها في الحقيقة التي مفادها أنّنا نزن في كفتي الميزان مواد مختلفة. كيف يمكن مقارنة التهابات الغدد مع التهاب السحايا ؟ أليس ذلك من قبيل العبث ؟
لقد طور اقتصاد الصحة مناهج متنوعة محاولا جلب إصابات مختلفة لمعيار مشترك. والمرجع المتبع عادة هو مرجع (Disability adjusted life years(Dalys)، أي < عدد سنوات الحياة دون عجز > التي ترتبط بعامل ممرض(pathologie). ويرتكز هذا المعيار علي إقامة نوع من معاملات العجز لكل مريض، حيث يسمح بحساب أثر كل معامل من المعاملات علي مستوى السكان.
مثلا، إذا أسندنا لمرضى الربو معامل 10 %، وعلم أنّه يصيب 10 ملايين شخص في فترة زمنيّة محددة بخمسين سنة، فيوافق الربو حينئذ خمسين مليون سنة من الحياة الضائعة. وتستعمل المنظمة العالميّة للصحة هذه المنهجيّة، غير أنّها طريقة معقدة للغاية، ولا تخلو من الغموض سيّما إذا تعلق الأمر بتحديد العجز. ولا تزال الدراسات علي أية حال دراسات مجزّأة(parcellaire) (10 ). ورّبما تتمثل محاولة فهم أخرى للموضوع في إرجاع جميع الأسباب للتكاليف الماليّة التي يتحملها المجتمع. غير أنّه باستطاعتنا الانتقال من محاولة فهم إلي أخرى، لكن هل يمكن اختزال الصحة والرفاه البشري في مجرد مثل هذه المعادلات ؟
مـقاومة السـلّ للقاح
تفجّرت العديد من الأوبئة المسماة الأوبئة متعددة المقاومة(épidémies multi résistante)، واختصارا باللغة الإنجليزية (MDR) بالمستشفيات و سجون الغرب في نهاية سنوات 1980. أمّا الجراثيم عند الأشخاص ضعيفي المناعة ( بسبب زراعة أو عدوى بالسيدا... ) فقد وجدت ميدان مفضل. وأصابت الأوبئة المحتجزين الذين شجعت لديهم الاختلاط، ونظافة غير كافية تطور المرض.أخيرا تمثل شريحة الأشخاص الذين لا يملكون سكنا قارا عدد سكان مصابة بالمرض بوجه خاص، وذلك بسبب ظروف معيشتهم، ولكن أيضا كان يصعب – كونهم مفككين اجتماعيّا – إقناعهم بتناول دوائهم بصفة منتظمة. والحال استنادا لعبارة المنظمة العالميّة للصحة: <من الأفضل عدم متابعة أية علاج من متابعة علاج خاطئ >.و يمكن أن يشجع وقف تناول الدواء ظهور أصول جرثومية مقاومة
و تحتاج هذه الأخيرة لعلاقات أكثر طولا، وبخاصة مضادات حيوية باهضة أكثر بنسبة تتراوح من 100 إلى 300 مّرة. يبدو أن الهيئات الصحيّة وفقت في التحكم في الوضع، حيث لا يبلغ عدد الحالات الجديدة من الأوبئة متعددة المقاومة MDR حسب المنظمة العالميّة في الولايات المتحدة أكثر من 1.2% حالة سلّ سنة 2000, مقابل 1.6% سنة 1997، وحوالي 0% في فرنسا سنة 2000, مقابل 0.5% سنة 1997. غير أنّ هذه النسبة تبلغ 10% بمدينة (Henan) الصينيّة و 14% في استونيا. نقل أطباء بلا حدود بأن 20% من المساجين في سجون الجمهوريات السوفيتية السابقة يعانون من سلّ متعدد المقاومة, أيضا (هنا بمدينة Kemerovo بسيبيريا سنة 2000 ).وتؤكد المنظمة بأن < حكم قصير أو أحيانا حتى انتظار حكم داخل السجن قد يتحول- بالنسبة للمحتجزين المصابين عقب قضاء فترة سجن وراء القضبان- إلى حكم بالسجن بالموت>. ويبلغ اليوم عدد الأشخاص المصابين بأصول الأوبئة متعددة المقاومة MDR في العالم حوالي 100.000 ألف شخص.
التـصـور الاجـتماعـي
يجب علي مثل هذا النوع من الحسابات أن يأخذ بعين الاعتبار حقيقة مفادها إمكانية تطور التصور الاجتماعي للأمراض. تصبح أحيانا أقل الأخطار بمجتمعنا المحميّ نسبيا غير مقبولا. وهكذا في الوقت الذي لم تشهد فيه فرنسا حالات التهابات السحايا بمثل هذه القلة، فإن الحالات الحديثة لالتهابات السحايا من
نوع س(méningite de type C)* بمدينة (Puy-de-Dôme) قد أثارت قلقا كبيرا، وتمخض عنها في شهر جانفي من عام 2002 حملة تلقيح هامة. وربما ينظر لعشرات حالات التهاب السحايا الإضافية التي قد يتسبب فيها وقف التلقيح الإجباري بمنظار مأساوي تماما.
6714 إنّه رقم حالات السلّ المصرح به في فرنسا خلال عام 2002، منه 6539 حالة بنواحي العاصمة و 175 حالة بمحافظات ما وراء البحر. ولم تشهد نسبة التردد المقدّرة بـ 11.2 حالة في كل 100.000 ألف ساكن أيّة انخفاض منذ 1997. ويعوض ارتفاعه بمنطقة(Ile-de-France) انخفاضه في المناطق الأخرى. ويعد الشباب المولود بالبلدان التي ينتشر فيها السلّ والأشخاص الموجودين في وضع اقتصادي واجتماعي مزر الفئة الأكثر إصابة بالمرض. و لا يمكن قلب هذا الوضع: ينخفض تردد المرض بمدينة (Seine Saint-Denis)، حيث يتم متابعة برنامج ميداني صارم منذ عدّة سنوات، في الوقت الذي ترتفع فيه بباريس التي أهملت بها منشئات الصراع المضاد للسلّ ( 11(
 
والحال مثلما نبّه إليه (Vincent) عندما قال: < ليست الصحة العموميّة طبا فحسب، بل هي أيضا اقتصاد وعلم اجتماع، وعلم السياسة >.أمّا (Daniel) فقد قال: < تكمن المشكلة اليوم في أخذ الشكوك المستمرة بعين الاعتبار من اجل تحقيق استراتيجيّة ما ، فضلا علي التعريف بمستوى الخطر المقبول >. ويتأسف العالم المختص في علم الأوبئة علي أنّه لا يوجد حتى اليوم عملية إعداد جماعيّة لهذه الاستراتيجيّة. ويضيف قائلا:
< لقد طرحت أزمة الكبّاد (ب( hépatite (B) هذه الأسئلة من قبل. وما يقوم به النقاش الناشئ حول لقاح (BCG) إلا أن يذكرنا بم سبق طرحه من أسئلة. لكن لا يوجد علي الدوام طريقة بسيطة لإشراك المجتمع في مثل هذا الاختيار >. وقد سجّل التلقيح بلقاح السلّ في أيامنا في دائرة القانون، وفي هذا الإطار يتعين علي البرلمان إذن التصويت علي قانون يعدل سياسة الصحة العموميّة، ومنه أن يعرض مثل هذا التعديل علي طاولة النقاش. وفي انتظار ذلك، كلّفت مجموعة بحث بتقديم اقتراحات بشأن نظام مكافحة أكثر فعاليّة مع ضرورة تطوير أعمال صحيّة موجهة للسكان المهاجرين والعابرين ( 11 )، وكل ذلك بطلب من الإدارة العامة للصحة، والمجلس الأعلى للصحة العموميّة بهدف الاستجابة للتباينات المسجلة علي مستوى تردد المرض.
 
 المصدر : موقع الدورية الطبية العربية