نعمة النسيان

عزيزة المانع

 
لندع جانبا كل ما قيل ويقال من الشكاوى والتذمر من ضعف الذاكرة وكثرة حالة النسيان، أو التخوف من أن يكون تكرر النسيان نذير شؤوم مؤذن باقتراب سيئ الذكر السيد الزهايمر أو أشباهه. ولندع أيضا كل ما قيل ويقال عن مزايا قوة الذاكرة وفضيلة التذكر، وأن ازدهار المعرفة وتقدم الحياة ما كان له أن يقوم لو لم تكن الذاكرة. لندع هذا كله جانبا ولنكن محايدين فنتحرر من تلك المؤثرات السابقة ولننظر إلى حياتنا بتجرد تام فنرى كيف ستكون لو أنها خلت من النسيان.


لو لم يكن النسيان، هل كان للانسان أن يشفى من الجروح النفسية، التي تمزق مشاعره وتطحن قلبه؟ وهل كان له أن يصفح ويغفر ويسامح؟ لو لم يكن النسيان هل كان للإنسان أن يحلق بعيدا عن أحزانه وخيباته المتلاحقة؟ لو لم يكن النسيان هل كان للإنسان أن يتحرر من مخاوفه الماضية أو ينبت في قلبه أمل جديد؟ لو لم يكن النسيان هل كان للإنسان أن يتغلب على آلام الفراق والفقد للأحبة، فما تعود تنخر قلبه صباح مساء؟

النسيان في بعض الأوقات نعمة، يرنو إلى نيلها المضرج بالألم والحزن، ويتلهف على امتلاكها من كان موشحا بالخيبات والفشل، وأكثر ما يكون التطلع إلى امتلاك هذه النعمة، وقت الأزمات، عندما تطارد الإنسان مشاعر الضيق والاكتئاب فيتمنى نسيان ما حدث له ومحوه من ذاكرته تماما. حين يصاب الإنسان بفقد حبيب غال، بموت أو بافتراق لا أمل في لقاء بعده، يضحي النسيان حلما يلوح محملا بنعيم الراحة وأريج الطمأنينة والسكون، وحين يبتلى بالوقوع في خطأ فاحش لا يمكن إصلاحه ولا التخلص منه، يصير النسيان علاجا ناجعا للضمير المضطرب والنفس القلقة. لكن النسيان، عيبه أنه يعز وقت الحاجة، ويتغلى عند الطلب، فيظل المحتاج إليه يتعقبه وهو ينأى، وكلما اقترب منه ابتعد عنه. وعندما يعز النسيان تصير الذاكرة عدوا قاتلا، فتمضي تلاحق صاحبها بالصوت والصورة، تنشب فيه مخالبها فتذبحه مرات ومرات، وهو أسير قبضتها لا يستطيع الإفلات ولا يجد له ملاذا.
في تجربة غادة السمان مع النسيان بعد فقدها زوجها المحب، أدركت أن لا شيء أصعب عليها من امتلاك النسيان، فهي كما تصف نفسها بإمكانها أن تفعل أي شيء، مهما صعب وتنجح فيه إلا النسيان، أمام النسيان هي ضعيفة عاجزة، فهي كما تقول: «تسلقت الإفرست والهيملايا بلا صعوبة، وسبحت مع أسماك القرش في قاع البحار، وراقصت الأخطبوطات، كل شيء كان سهلا، حتى القفز بلا مظلة من الطائرات، وحده النسيان استعصى علي، وهأنا أزورك وأبكيك». «يوما بعد يوم، عاما بعد عام، أفتش عن (قطع تبديل) لذاكرتي، لأنساك. وكيل قطع تبديل الذاكرة انتحر ليلة رأس السنة وترك رسالة تقول: ما من قطع تبديل لتجديد الزمن الهارب واستبدال ذاكرة الحب اللامنسي. وكل ما تملكه الآن، هو الآن!».

المصدر:موقع الصحه والحياة