من حقه

 

من حق المخالف أن تستمع له وأن تحترمه، وحتى وإن لم تقتنع بوجهة نظره، حتى لو كان بينك وبينه بعد المشرقين في الرؤى والمواقف، بل وفي العقائد! إن هذا هو الظاهر من سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم وما يجب عليه الاتباع، والذي لا يصدق أدعوه لتأمل ما رواه ابن هشام عن ابن إسحاق في هذه القضية، جاء فيما يرويه ابن هشام عن إسحاق عتبة بن ربيعة – وكان سيداً ذا بصيرة ورأي في قومه – قال في نادي قريش: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه، وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنّا؟ فقالوا بل يا أبا الوليد: قم إليه فكلمه، فجاء عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال يا ابن أخي إنك منّا حيث قد علمت من الشرف في العشيرة والمكانة والنسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم.. فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها فقال له رسول الله صلي الله عليه وسلم: يا أبا الوليد أسمع. قال يا ابن أخي: إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه.



 

فقال له رسول الله صلي الله عليه وسلم: أفرغت يا أبا الوليد؟ قال نعم.. قال فاسمع مني. ثم قال: "حم، تنزيل من الرحمن الرحيم، كتاب فصلت آياته قرآنا عربياً لقوم يعلمون، بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون، وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون. قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه، وويل للمشركين". ثم مضى رسول الله في القراءة وعتبة يسمع حتى وصل إلى قوله تعالى "فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود". فأمسك عتبة بفيه وناشده الرحم أن يكف عن القراءة، وذلك خوفاً مما تضمنته الآية من تهديد. ثم عاد عتبة إلى أصحابه فلما جلس بينهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال ورائي أني سمعت قولاً ما سمعت بمثله قط والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة. يا معشر قريش: أطيعوني وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه بنبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم. قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه. قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم.

 

إن الموقف موقف تفاوضي على مستوى عال وراق، ولابد لمثل هذه المواقف ألا تمر علينا مرور الكرام دون الاستفادة من عبرها وعظاتها خصوصاً أن طرفاً منها رسول الله صلي الله عليه وسلم، الذي وجب علينا اتباعه والتأسي به لقوله تعالي في شأنه: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً. الأحزاب 21. وأول هذه الدروس والعبر أن نعرف أن اختلافنا مع الآخر لا يبيح اغتياله اغتيالاً معنوياً بأن نصفه بكل نقيصة أو أن ننزع عنه ما جبل عليه من محاسن، لقد كان عتبة كافراً ومع ذلك لم يدفع كفره هذا موثقو الرواية من الاعتراف له بحكمته وبصيرته ورجاحة رأيه وعقله، وهذا ما يظهر من – (وكان سيداً ذا بصيرة ورأي في قومه).

 

ثاني هذه الدروس، وإن جاءت على لسان عتبة – هو استمالة الآخر بنقاط التلاقي والتأثير المعنوي، وليس ابتداره بنقاط الاختلاف، فقد قال عتبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما جلس إليه: (يا ابن أخي) وقال له إنك منّا حيث علمت من الشرف في العشيرة والمكانة والحسب). ثالث هذه الدروس هو البعد عن التهديد، أو الإجبار في الحوار، وعرض القضية المثارة للتفكير الحر فيها وهذا ما فعله أيضاً عتبة حيث قال فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها. ثم يجيء الدور على الشهاب المؤتم صلي الله عليه وسلم في أدب الحوار والاختلاف مع الآخر. فرسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: قل يا أبا الوليد، اسمع. مد جذور التواصل مع الآخر، وأظهر مرونة وسماحة فريدة. لِمَ؟

 

 

لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من الممكن جداً أن لا يفعل ذلك وأن يقطع الطريق من أوله لأن الذي يحمله ويدعو إليه لا يقبل التفاوض حوله، فهو إما أن يؤمن به من شاء أو يكفر أيضاً من شاء، ولا حلول وسط؛ ومع ذلك مد جذور التواصل كما ظهر!

 

ثم سمح لعتبة بعرض وجهة نظره كاملة دون أن يقاطعه فيها مطلقاً، على الرغم من اختلافه الجذري للاتهامات والافتراءات الموجهة له في كلامه وهذا أيضاً درس بليغ! إن الغالبية العظمى منّا – إن لم يكن كلنا – من الصعب علينا أن نسمح للمخالف أن يعرض وجهة نظره التي يشكك بنا فيها، ثم لا نقاطعه، بل نرد له صاعه صاعين. إن رسول الله صلي الله عليه وسلم سكت تماماً حتى أتم المخالف وجهة نظره ثم قال له: أفرغت يا أبا الوليد؟ وتأمل مناداته بكنيته توددا إليه لأن فيها عبرة وعظة، فلما قال له: نعم ...قال فاسمع مني. لأن هذا الهدوء والثقة والاحترام والاحتواء والمرونة ولنقل في ذلك ما شئنا هي التي ينبغي أن نكون عليها في حوارنا مع أي آخر، إذا كان لنا نصيب حقيقي في اتباعنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

ثم درس آخر، وهو استشهاد رسول الله صلي الله عليه وسلم بالقرآن كحجة مقنعة وقوية ومناسبة للموقف، إن عتبة رجل ذو بصيرة، وأمثال هؤلاء يسهل عليهم جداً إذا خاطبتهم بالمنطق والحق الخالص أن يقتنعوا بما تقول، فهم غير السفهاء الذين لا يعقلون – في أسلوب التعامل معهم، وليس أبلغ حجة من القرآن، فلم لا يكون القرآن طريقي إلى مثل عتبة هذا؟! إنها كلها دروس وعبر يجب أن نلتفت إليها، إن الأسلوب الذي دار به الحوار وأجراه رسول الله صلي الله عليه وسلم مع المخالف، جعل المخالف وهو الذي أتى في أول الأمر ليقنع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنطقه، أن يقتنع هو بمنطق رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى قال: إني سمعت قولاً ما سمعت بمثله قط والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة. يا معشر قريش أطيعوني وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه.... فوالله ليكون ملكه ملككم وعزه عزكم. ويا ليتهم سمعوا!. وصلي اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

عمرو خالد يكتب لمجلة المرأة اليوم بتاريخ 12 نوفمبر 2005