معنى الأخلاق

اليوم – بمشيئة الله تعالى - أكتب عن نقاط أساسية أخرى، محاولاً – قدر المستطاع – استيفاء الموضوع حقه من التوضيح والإبانة:



أولى هذه النقاط، تعريف معنى الأخلاق: أن الخلق عبارة عن منظومة نفسية دائمة راسخة في الإنسان، ومن هذه المنظومة أو تلك الهيئة النفسية تصدر الأعمال بسهولة ويسر وانسيابية من غير أن يتكلف الإنسان التفكير فيها أو حتى الروية قبل إتيانها، ومتى كانت هذه الأعمال أعمالاً جميلة ومحمودة – عقلاً وشرعاً – فإن هذه المنظومة أو تلك الهيئة النفسية تسمى خلقاً حسناً، والعكس صحيح! من المهم جداً في هذا التعريف الذي سبقته كلمتي – دائمة وراسخة – لما؟ لأن من يتصدق – مثلاً – مرة واحدة في حياته أو مرتان لا يقال عنه أنه سخي وكريم، وإنما ليوصف بالسخاء والكرم لابد أن يكون بذله للمال بذلاً دائماً ثابتاً، يفعله ويؤديه بسهولة من غير منازعات عنيفة من النفس تحاول رده عن فعل إنفاق المال.

والذي ينتقم لنفسه في كل مرة يساء إليه فيها، ويغفو مرة كل ألف مرة، لا يعقل أن يسمى غفواً أو صفوحاً، وإنما يسمى بذلك، إذا عفا وصفح ألف مرة، وانتصر لنفسه مرة! والإنسان الذي يثور في كل مرة يستثار فيها، ويحلم مرة كل ألف مرة ليس حليماً، وإنما كذلك يكون إذا كان حليماً حلماً دائماً راسخاً.

من هذا التعريف يستطيع المرء اكتشاف نفسه وأخلاقه، وباكتشاف الذات يقطع المرء نصف طريق الإصلاح – متى أراد ذلك - ويبقى النصف الأخر الذي يتم بالمجاهدة المبصرة الصادقة الذي أرجوه من قارئ المقال – الذي استوعب التعريف أن يستحضر نفسه ويعرضها على جملة أخلاقه كالحياء، والصدق، والبر، والوقار، والصبر، والشكر، والرضا، والحلم، والرفق، والعفة، والشفقة، والحقد، والبخل، والحسد، والبشاشة. ثم ليتأمل أين هو من هذه الأخلاق غير غافل أو متغافل عن محور التعريف وهي صفات الرسوخ والثبات والديمومة في الأعمال! لا شك أنه سيكتشف نفسه متى كان صادقاً معها

ثاني هذه النقاط: قابلية الأخلاق للتغيير

قد يتبادر إلى الذهن أن هذه الحقيقة عكس التعريف، الذي أكدت فيه على معنى الثبات والرسوخ والديمومة! غير أنه لا تضاد بل لا علاقة أصلاً بين الأمرين. دليلي على ذلك: عالم السيرك، ففي عالم السيرك تحول أسد الغابة ذو الطبيعة الوحشية الثابتة إلى حيوان مستأنس يسمح لمدربه بأن يضع رأسه بين فكيه ولا يؤذيه، وهذب كلب البحر تهذيباً جعله يلعب بالكرة مع أبناء فصيلته مدخلاً بذا البهجة والسرور على المشاهدين. كيف تم ذلك لو لم تكن أخلاق وسلوك هذه الكائنات الأعجمية قابلة للتغيير؟! إنها بلا شك قابلة للتغيير! نفس ما ذكرته لهذه الكائنات ينصرف على الإنسان وهو في حقه أيسر وأولى لكونه الإنسان المكرم، العاقل، خليفة الله في أرضه!

إن الذي يدعي أن أخلاق الإنسان غير قابلة للتغيير واحد من اثنين، إما إنسان - جاهل – بحقيقة النفس وبطريقة سياستها ، وإما مستثقل للمجاهدة، باحث لنفسه عن تبرير مريح لمسلكه في الحياة حتى لا يشعر بالذنب ويحيا كما يريد بغير ضبط ولا ربط. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيّن أن الأخلاق قابلة للتغيير إذ قال: إنما الحلم بالتحلم وإنما الصبر بالتصبر وإنما العلم بالتعلم، فالذي يريد أن يكون كريماً عليه أن يحمل نفسه على بذل المال، والذي يريد أن يربأ نفسه عن الغيبة عليه أن يلزم نفسه الصمت ويلجم لسانه متى أراد الكلام

إن الذي يتأمل النواة والنخلة ويحاول أن يفهم العلاقة بينهما سيظهر له، ويخلص إلى أن النواة خلقها الله خلقاً جعل فيه قابلية النمو، حتى تكون نخلة، شريطة أن تتعاهد وترعى. كذلك الأخلاق سلباً وإيجاباً! من الممكن لخلق إيجابي ضامر أن يرعى وينمى حتى يؤتي ثماره ناضجة طيبة ظاهرة ومن الممكن كذلك لخلق سلبي متأصل في النفس بالمجاهدة والتربية أن يضمر ويذبل حتى تيبس أوراقه وتسقط ثماره الخبيثة، وينتفي من صاحبه!

لو كانت الأخلاق غير قابلة للتغيير لما كان لتنزيل الشرع معنى، وما كان للوصايا والمواعظ والتذكرة أي فائدة ترجى. قال تعالى: "وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين" فكيف تنفع الذكرى إذا لم تكن هناك قابلية للتغيير. ومن صحيح الاعتقاد – أن الله تعالى - برحمته وعدله - إذا عذب إنساناً فإنما يعذبه بما كسبت يداه، وليس بما جبل عليه ولا يستطيع تغيير في نفسه. فالله تعالى لا يعذب مثلاً قصيراً على قصره ولا طويلاً على طوله، أو أسوداً على سواد بشرته أو أبيضاً على بياضها، فهذه الأمور كلها لا يملك المرء حيالها أي تغيير، بل لا يملك حيالها إلا الرضا والتسليم، أما الصفات الأخلاقية لكونها قابلة للتغيير فإن الله يثيب الباذل فيها خيراً ويعاقب المسيء لها بالسوء، قال تعالى: "قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها"، وجاء في الحديث القدسي (الكبرياء ردائي والعزة إزاري فمن نازعني فيها عذبته!) إن الذي يريد أن يحصّل علماً ما عليه أن يبذل في سبيله جهداً: جهد السعي إليه وجهد البحث عنه، وجهد الصبر على فهمه واستيعابه، وجهد تطبيقه وبغير هذا الجهد في مراحله المختلفة لن يكون ثم علم ولا تحصيل ولا شيء.

من الممكن أن يتحول ثرثار إلى شخص قليل الكلام متزن، ومن السهل تنازل عبوس عن عبوسه ولقائه الناس بوجه طلق، وليس مستحيلاً أن يخفف حقود حسود من حقده أو جسده ويصير سمحاً طيباً، أرى كل ذلك ممكناً متى استعان العبد بالله ووثق فيه وتحلى بالعزيمة والرغبة والصبر والمثابرة. إن النفس الإنسانية كالبدن في استجابتها للمجاهدة، من الممكن لبدين أن يصير رشيقاً، ومن الممكن لرياضي أن يرفع من لياقته، متى أجهدا أنفسهما بالتمارين الرياضية، كذلك النفس بالمجاهدة والمثابرة نستطيع أن نترقى إلى أشرف المنازل الأخلاقية، المهم البذل الصادق والصبر.

إنني غير غافل ولا منكر أن طبائع الناس مختلفة باختلافهم، فبعضها سريع القبول للحق والصواب والبذل والتربية وبعضها بطيء القبول، ولهذا الاختلاف أسباب صحيح أن المقام لا يتسع خوض فيها أو تحليل. وربما يكون ذلك في مقال أخر بإذن الله لكن المهم أن نثبت أن سرعة وبطء القبول والتغيير شئ، وأن مبدأ قابلية التغيير شئ أخر ولا يجوز ظن أو تعمد إحداث لبس بينهما.

ثالث هذه النقاط والتي أختم بها مقالي هذا: هي حدود الأخلاق الحسنة:

قد يظن ظان أن المقصود – من مجاهدة النفس للتحلي بالأخلاق الحسنة – هو الكبت والقمع العام للطبيعة والفطرة والغريزة الإنسانية! وهذه نظرة سطحية ليس عليها دليل من شرع أو عقل.

إن المطلوب هو الاعتدال! فماذا أقصد بالاعتدال؟! أقصد به التوسط بين الإفراط والتفريط، فالشجاعة مثلاً خلق حسن بين إفراط وهو التهور وتفريط وهو الجبن، والسخاء خلق محمود شرعاً وهو وسط بين التبذير والتقتير وقد أثنى الله تعالى عليه فقال: "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما"، وقال تعالى: "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط" والمطلوب في شهوة الطعام أن تكون معتدلة لا شره فيها ولا جمود، قال تعالى: "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين".

أعتقد أن هذه النقاط الثلاث التي ذكرتها في هذا المقال، مهمة، وأرجو من الله تعالى أن أكون قد وفقت في شرحها وتبيانها، وللموضوع تتمة في المقال القادم بإذن الله.

مقال الأستاذ عمرو خالد للأهرام العربي 28/12/2002