مظلوم

 

أتدرون ما هو؟ إنه الإسلام! إن الناس لا يفتأون يفترون على هذا الدين بكل شبهة وتهمة حتى لا يجعلوا له حجراً على حجر قاصدين بذلك الصد عنه والحط من شأنه! ومن أمثلة هذه الشبهات والتهم التي يرمى بها الإسلام إنه دين جامد يُحرم البسمة على كل فم والبهجة على أي قلب والزينة في أي موقع والإحساس بالجمال في أي صورة، وأحب أن أقول إن هذا الكلام لا أساس له في دين الله وإنه إذا كان الفن هو الشعور بالجمال والتعبير عنه فالإسلام أعظم دين غرس حب الجمال والشعور به في أعماق كل مسلم، فهناك من يتصورون أن المجتمع الإسلامي هو مجتمع عبادة ونسك، مجتمع جد وعمل، لا مجال فيه للهو مباح أو لعب منشط، مجتمع يحرم الضحك ويجعله من الموبقات، يقطع شفتي من يبتسم ويكسر سن من يضحك ويلاحق القلب الذي يفرح ليقيم له محكمة تفتيش ويضرب الوجه الذي ترتسم عليه البهجة حتى لا يعود لهذه المسخرة مرة أخرى؟! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.



 

وصدقوني لو كان الأمر مجرد شبهة في نفوس البعض لما اكترثت بإطالة الكتابة والحديث فيه، ولكن هذا الظن وللأسف عفريت يقبع في نفوس جماهير عريضة من المسلمين أنفسهم بل وغيرهم، ولذا تعالوا نستعرض الموضوع بشكل هادئ ونرى أين يثقل الحق فيه ولنبدأ بمتعة الجمال البصري، ونتساءل هل حرم الإسلام الاستمتاع بالجمال فيما دون التطلع إلى الحرام أو النساء الأجنبيات (يعني التي يحل للمرء الزواج بها)؟ من قال هذا؟ إن الله دعا إلى مثل هذا الاستمتاع في الكثير من آيات من القرآن الكريم قال تعالى: "ولقد جعلنا السماء بروجاً وزيناها للناظرين"· الحجر 16·

إن الله تعالى لما أمر بني إسرائيل بذبح البقرة دلهم عليها وحددها لهم بلون يسر من وقع بصره عليه قال تعالى: "قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِـعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ"· البقرة 69· إن الله تعالى جعل متعة الاستمتاع بالجمال البصري نعمة من نعم الآخرة التى ينعم بها على أهل الجنة، إذ قال تعالى: "يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ· الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ· ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ· يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ"· الزخرف: 68-71·

إن المرء من حقه أن يتساءل لِمَ خلق الله الألوان المختلفة ولِمَ يجعل الحياة كلها بكل ما فيها لوناً واحداً ومن حقه أيضاً أن يتساءل ولمَ امتن سبحانه على عباده بنعمة اختلاف الألوان؟ فقال تعالى: "وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ"· النحل 31· وقال تعالى: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ"· فاطر 27-28· لِمَ الأبيض والأحمر والأسود؟ ولِمَ في الجنة الأخضر كما في قوله تعالى: "مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ"· 67 الرحمن· وكما في قوله تعالى: "عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا"· 21 الإنسان·

لِمَ هذا التنوع في الألوان؟ أتراه يكون دعوة صريحة للاستمتاع بالجمال البصري الذي يغذي الوجدان ويلبي حاجة الإنسان الفطرية إليه؟! إن هذه الدعوة نفسها أقصد الدعوة إلى الاستمتاع بالجمال البصري ثابتة أيضاً بالنسبة للجمال السمعي، إن الأذن تستمتع بالصوت العذب الندي وتنفر من الصوت المزعج وما شابهه من أصوات تثير الاشمئزاز، وإلى غض الصوت دعا الإسلام وربى القرآن قال تعالى في ذكره لوصايا لقمان الحكيم لابنه: "وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ"· 19 لقمان·

فالقرآن الكريم وهو آية الإسلام الكبرى ومعجزة الرسول العظمى يعتبر معجزة جمالية إضافة إلى أنه معجزة عقلية، فقد أعجز العرب بجمال بيانه وروعة نظمه وأسلوبه وتفرد لحنه وموسيقاه حتى سماه بعضهم سحراً، إن الله تعالى دعا إلى تلاوة كتابه العزيز وتحسين الصوت فيه ليضاف إلى إعجازه البياني إعجاز جمالي آخر يجذب الناس إليه جذباً قال تعالى: "ورتل القرآن ترتيلا"· الزمر 4· ولو لم يكن المطلوب في تلاوة القرآن أن ينضم جمال الصوت والأداء إلى جمال البيان والنظم لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "زينوا القرآن بأصواتكم" رواه مسلم، بل إن الأمر ذهب إلى أبعد من ذلك حيث قال صلى الله عليه وسلم "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" رواه البخاري·

مع التنبيه على أن التغني المطلوب لا يعني التلاعب في التلاوة إن الآلاف المؤلفة بل الملايين التي يشاهدها المرء وهي تزحف من مسجد إلى مسجد خصوصاً في رمضان وراء قارئ دون قارئ ولا تفعل ذلك غالباً لأن أحدهم أحفظ من الآخر بل لأن أحدهم أندى وأعذب صوتا من الآخر، إن هذه الحركة في حقيقتها حركة وقصد إلى الجمال السمعي الذي تنفرد به أمة القرآن، إنها حركة فطرية لا تكلف فيها حيث يؤديها المسلم ويقوم بها بمنتهى الرغبة والسعادة ولو لم يكن السعي إلى الجمال شيئاً فطرياً محبباً إلى النفس لما تكلفت عناءه كل هذه الجماهير التي هي في بعض البلدان تعد بالملايين، وليس في ذلك شيء غريب فرسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي موسى الأشعري: "لو رأيتني وأنا أستمع قراءتك البارحة! لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود! فقال أبو موسى: لو علمت ذلك لحبرته لك تحبيراً" رواه مسلم عن أبي موسى يعني: زدت في تجويده وإتقانه وتحسين الصوت به، أليس بديعاً أن يسبح نبي فيردد معه الكون تسبيحه الذي يهز جماله الجبال قال تعالى: "ولقد أتينا داوود منا فضلاً يا جبال أوبي معه والطير والنا له الحديد". 10 سبأ.

إن الدعوة إلى الجمال السمعي والدعوة إلى الاستمتاع به ليست مقصورة على كتاب الله وحده بل هي متعدية إلى كل كلام طيب ليس فيه هو ذاته ولا في طريقة أدائه أو من يؤديه أو ما يصاحبه ما يحرم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للصحابي الذي كشف له عن ألفاظ الأذان في رؤيا صادقة: "علمه بلالاً فإنه أندى منك صوتاً". ورسول الله صلى الله عليه وسلم هش وأقر نشيد الأنصار الذي استقبلوه به عند هجرته صلى الله عليه وسلم إليهم من مكة والذي منه "طلع البدر علينا- من ثنيات الوداع- وجب الشكر علينا- ما دعا لله داع- أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع- جئت نورت المدينة مرحباً يا خير داع"، كما أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المديحة النبوية التي كانت في استقباله عند قدومه المدينة فقد أقر عمل الصحابة رضوان الله عليهم: وهم يبنون المسجد النبوي ويحملون أحجاره على مناكبهم وهم ينشدون: اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة.

إن الإسلام لا يرفض ولا يحرم الحسن أو الجمال بل يقره ويدعو إليه أما غيره من الخبث والرذائل فإنه وبمنتهى الصراحة يرفضه- ولا يقره أبداً وهذا طبيعي جداً لدين شعاره: إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً دين جاء في كتابه: "قالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ". الأعراف: 156-157. وللحديث بقية بإذن الله تعالى...

 

عمرو خالد لمجلة المرأة بتاريخ 29 يناير