مشكلة المصاحبة وحلم النهضة

كتبت في المقالات الأربع الماضية عن المصاحبة التي نراها اليوم بين الولد والبنت وذكرت أنّني أرفضها، ووضحت أسباب رفضي، كما أعلنت أنّني مع التعارف المتأنّي الدقيق بين الشاب وعائلته والفتاة وعائلتها قبل الزواج، أو حتى الخِطبة ووضحت بعض الأسباب التي دعتني إلى تبني وجهة النظر هذه، واليوم أزيد الأمر إيضاحاً، وأفصل في الحل بإذن الله تعالى:



 

أولاً: لِمَ ذهبت إلى أنّه لا بأس من التعارف الذي يراعي حدود الله قبل الخِطبة؟ لأنّ الخِطبة ومعناها شرعاً ومن قبله لغةً طلب المرأة للزواج، والخِطبة بهذا المعنى درجة ونوع من أنواع الارتباط، الذي تترتب عليه عدة أمور نفسية، ومعنوية، ومادية على الفتاة وأهلها وعلى الشاب وأهله، فهي خطوة متقدمة لابد أنْ تسبقها خطوات مدروسة تؤدي إليها حتى يتسنى لها النجاح! إنّ الذين يتسرعون في يومنا هذا في إتمام الخِطبة قبل التعارف الدقيق لا يعجلون بالفرحة والبهجة والسرور بقدر ما يسلكون مسلكاً غير مأمون العواقب، والبنت التي يستهويها لقب مخطوبة على حساب من هو خطيبها، بنت لابد أنْ تُنْصح حتى لا تُؤْذِي نفسها، إنّ مجتمعاتنا حساسة للعلاقات الإنسانية وخاصة فيما يتعلق بالزواج، فكم رجلاً في مجتمعاتنا يمكن أنْ يتقدم لمطلقة ويتزوجها كأول زوجة؟ أعتقد أنّ عددهم قليل، وكذلك بالنسبة لمن كانت مخطوبة وفسخت خطبتها مرتين أو ثلاث مرات، صحيح أنّ وضعها ليس حساساً كالمطلقة لكن يبقى أنّ وضعها ليس كمن لم تخطب وتفسخ خطبتها. إنّني هنا لست معنياً باستقرار الأسباب التي أدت إلى مثل هذا المنطق في الاختيار لكنني أوضح واقعاً أعتقد أنّه لا يختلف معي عليه كثير من حضراتكم.


هل معنى ذلك أنّني أدعو إلى ما يدعو إليه من لا تقيد بشرع أو يراعي لله حرمة، من الذين يروجون لما يسمى بالمصاحبة اليوم بين الولد والبنت والتي تستمر سنيناً يفعلان فيها ما لا يُرضي الله ورسوله؟ أبداً، وأعوذ بالله من أنْ يُفهم كلامي هكذا، إنّني لا أدعو إلى أي تسويف غير مبرر في الانتقال في موضوع الزواج من مرحلة إلى أخرى، لكنني أشترط أنْ تحقق كل مرحلة هدفها الذي أقره الشرع.

 

ولا شرط هنا في الفترة الزمنية التي تستقطعها كل مرحلة، فقد يرى شاب شابة فيقع قبولها في قلبه، فيعلم وليها عن طريق له صلة بها أنّه يريد وعائلته أنْ يتعارفا ويبدأ التعارف، ويشعر الطرفان الشاب وعائلته والفتاة وعائلتها بأنّهما متلائمان، فينتقلان إلى الخِطبة وتسير الأمور سيراً طيباً حسناً في الخِطبة، حتى لا يجدا ما يمنع الزواج، فيكتب الكتاب ويتزوجان، كل ذلك في غضون عدة أشهر لا أكثر ويكون هذا الزواج بإذن الله زواجاً مباركاً وناجحاً، ولا غضاضة في ذلك، كما أنّه لا غضاضة في أنْ تطول فترة كل مرحلة من هذه المراحل، إذا كان هناك ما يستدعي ذلك، مما تظهره المواقف والأيام بين الطرفين وعائلتيهما، إنّ إنهاء العلاقة في مرحلة التعارف – إذا كان هناك ما يستدعي ذلك – أهون بكثير جداً من إنهائها بعد كتب الكتاب، حتى إنّ إنهاء العلاقة بعد كتب الكتاب أهون بكثير من إنهائها بعد الزواج والحمل والأولاد.

 

إنّني لا أريد أنْ يفهم من كلامي أنّني أَدْفَع إلى الوسوسة والارتياب والشك أو التعامل مع الموضوع على أنّه شرك لابد أنْ يأخذ الإنسان حذره حتى لا يسقط فيه، إنّني لا أريد أنْ أطفئ فرحة التفكير والسعي إلى الزواج، والارتباط بشريك العمر، على قدر ما أريد أنْ أنصح أمتي بالخير، فكثرة المشكلات المتعلقة بهذا الموضوع والتي تطرق سمع أذن الواحد منا، وارتفاع نسب الطلاق بشكل ليس طبيعياً دفعاني لهذا الحرص على النصح، ولقد أنف العرب من الإسراع في عملية الزواج من غير رؤية ولا تفكير، وضربوا المثل بأم خارجة فقالوا: "أسرع من نكاح أم خارجة"، وهي عمرة بنت سعد، كان يأتيها الخاطب. فيقول: خاطب (أريد خطبتك) فتقول: ينكح، فيقول: انزلي (من فوق ناقتك) فتقول: انح دون الرجوع إلى الأهل! وعندما دخل أبو الدرداء وأبو هريرة على بنت معاوية بن أبي سفيان يخطبانها لعبد الله بن سلام القرشي قالت لهما: "جف القلم بما هو كائن، وإنه في قريش لرفيع القدر وقد تعرفان أن الزواج جِدُّه جَد، وهَزْلُه جد كذلك، والأناة في الأمور أوفق لما يخاف فيها من المحذور، فإنّ الأمور إذا جاءت خلاف الهوى بعد التأني فيها، كان المرء بحسن العزاء خليقاً وبالصبر عليها حقيقاً. وإنّي سائلة عنه حتى أعرف دخيلة خبره، ويصح لي بالذي أريد عمله من أمره.."

 

أرأينا؟ ما رأيكم الآن لو أنهيت قولي بهذا، أي بما أتخيل أنّه مناسب لأن يكون أسلوباً للتعارف يتم قبل الخِطبة في حالة عدم المعرفة المسبقة بين الشاب والشابة وعائلتيهما؟ أفعل بإذن الله، وأرى أنْ يسأل أهل الشاب عن الفتاة، وكذلك يسأل أهل الفتاة عن الشاب، يزور الشاب ولي أمر الفتاة ويتحدث معه، تزور أم الشاب بيت الفتاة لرؤيتها والتعرف عليها وللتحدث معها ومع أهلها، تتم زيارات عائلية بين الأهلين وتنفرد أم هذا بأم هذه، ووالد هذا بوالد هذه، تخرج العائلتان مع بعضهما البعض للتعارف الأوثق ولكي تتاح فرصة لأن يتحدث الشاب مع الفتاة في وجود مَحْرَم بغير خلوة شرعية لكي يقف كل طرف على الملامح العامة لشخصية كل طرف..وهكذا.


هل هذا الذي ذكرته فيه شبهة حرام؟ لا، وكم يا ترى يستغرق وقت فترة التعارف بهذا الشكل الذي ذكرت؟ إنّها لن تستغرق أكثر من شهرين لو أنّ الزيارة تتم كل أسبوع! هل هذه الفترة طويلة جداً بحيث إنّها لا تجوز شرعاً وتعاب عرفاً؟ أعتقد لا، إنّها فترة أراها منطقية وعادية جداً لاتخاذ القرار..قرار المضي قدماً أو الاعتذار، الذي سيكون هنا سهلاً غير جارح أو مثير للمشكلات، بهذا التعارف الحلال نرد على من يقول: كيف أتقدم للزواج بمن لا أعرفها ولا تعرفني؟.


هناك نوعان من البشر يمكن تصنيفهما بحسب مواجهتهما لأزمة تعترض الحياة، نوع يستسلم لقدره ولا تستنفر فيه تلك العراقيل والمصاعب أي مشاعر تستحثه لينهض مرة أخرى، ويعتبر أنّ قدره يملي عليه قبول الواقع وأنّ التغيير شأن الآخرين لا شأنه، ونوع ثان لا تقصم المآسي ظهره، بل تقيمه، ولا تكسر عزيمته بل تمنحه قوة وحياة، ويعلم أنّ هذه الحياة لم تخلق للمنكسرين المنهزمين وأنّ المسلم هو أحق الناس بإصلاح ذاته ثم إصلاح ما حوله في دوائر متداخلة، وأنّ إنساناً أنعم الله عليه بنعمة أشرف وأكمل الأديان يجب أنْ يُرِى الله من نفسه خيراً وقوةً وثباتاً...

 

نأمل أنْ نكون جميعاً من النوع الآخر، ومن هذا المنطلق أقول وبثقة: علينا أنء نحلم بنهضة أمتنا وإصلاح أحوالنا من منطلقين أساسيين في عقيدتنا: الأول هو أننا الأجدر بهذه الرفعة المنشودة انطلاقاً من قول الله عز وجل: "كنتم خير أمة أُخرجت للناس" والثاني كوننا أمة وسطاً ننعم بنعمة الإسلام دين الوسطية وإعمال الفكر والذي دعانا إلى تغيير أنفسنا حتى يغير الله ما بنا مصداقاً لقوله تعالى: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، لقد أصبح الحلم من أجل حياة أفضل للمسلمين وبلادهم أمراً لا خيار فيه.


علينا أنْ نعلم أنّ النجاحات الكبيرة بدأت بفكرة وحلم لم يستصغره صاحبه أو يستعصيه على قدرة الله، ومن نماذج ذلك ما حدث في ماليزيا من طفرة اقتصادية وكذلك في دبي، بجانب إنجازات أخرى خارج نطاق الأمة الإسلامية مثل الاتحاد الأوروبي الذي يتسع يوماً بعد يوم ويتسع معه نطاق التعاون رغم أنّ هذه البلاد قطعت بعضها إرباً قتلاً وخلافاً، ولكن الحال تغير بعد أنْ اعتنقوا حلم الوحدة، إنجازات كبيرة كالسد العالي وقناة السويس بدأت بفكرة وحلم ويقين بأنّه لا يوجد مستحيل مع الإصرار والإيمان.

 

عمرو خالد مجلة المرأة بتاريخ 7 سبتمبر 2004