مخافة الله

 

الإسلام لا يعرف القسوة بل يمقتها ويمقت صاحبها. وصاحب القلب القاسي أبعد الناس عن الله، والذي يؤدي عبادات الإسلام ولا تُلين هذه العبادات قلبه – أغلب الظن – يؤديها تأدية العادة المتوارثة تماماً كالموظف الذي يثبت حضوره في العمل ولا يعمل، إن علاقة الأخير بالعمل والأول بالعبادات ليست إلا علاقة سطحية فارغة من المحتوى والمعنى، وإذا كان الناس في الدنيا يتعاملون بالظاهر فيعطي الموظف أجراً وهو لا يعمل، فإن الله تعالى يعلم الباطن فيعاقب عليه أو يثيب، والدليل على ذلك الحديث القدسي التالي: "إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي، ولم يستطل بها على خلقي وقطع النهار في ذكري، ولم يبت مصراً على معصيتي، ورحم الأرملة واليتيم والمسكين وابن السبيل"، وعلام يدل عدم الاستطالة على خلق الله؟ وعلام تدل رحمة الأرملة واليتيم والمسكين وابن السبيل إن لم تدل على رقة القلب التي من المفروض أن تحدثها الصلاة في قلب من يؤديها بصدق؟ إننا الآن في شهر رمضان وهو شهر ليس كغيره من شهور العام، بل هو أفضلها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو يعلم الناس ما في رمضان لتمنوا أن تكون السنة كلها رمضان"، ونحن لا نريد أن نعيش شهر رمضان وقلوبنا قاسية لا تتأثر بقرآن أو بصلاة أو بموعظة، لأننا إذا فعلنا ذلك نكون قد حرمنا أنفسنا خيراً لا يدانيه خير، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خاب وخسر من أدرك رمضان ولم يغفر له".



 

إننا لا نريد أن نكون كأهل الملل الأخرى الذين قست قلوبهم على ما ورثوه من وحي السماء الذي نزع منهم فاستحقوا عذاب الله وغضبه، قال تعالى: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبلُ فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون). الحديد 16، إن هؤلاء توعدهم الله بالويل كما في قوله تعالى: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين)، الزمر 22، إننا نريد أن نكون من أهل قوله تعالى: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين)، الزمر 22، إننا نريد أن نكون من أهل قوله تعالى: (الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشعون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد)، الزمر 23، وقد يسأل سائل وما أمارات القلب اللين وكيف أحصله؟ والجواب أن أصدق أمارة من أمارات القلب اللين البكاء من خشية الله قال تعالى: (قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً) (107 الإسراء)، ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا (108 الإسراء) ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً (109) الإسراء.

إن العين التي تبكي من خشية الله عين مصونة من نار القيامة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عينان لا تمسهما النار عين بكت في جوف الليل من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله"، يؤكد هذا المعنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يلج النار من بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخرى عبد أبداً"، إن هذه القطرة التي تصيب وجه أحدنا هي أحب القطرات إلى الله تعالى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من قطرة أحب إلى الله تعالى من قطرة دمع من خشية الله تعالى أو قطرة دم أهرقت في سبيل الله تعالى" ولا يظن ظان أن خشية الله تعالى بعيدة عن أحدنا وأنه لا سبيل إليها أبداً، بل هي قريبة ممن قربها على نفسه وامتثل أمر الله تعالى كما في قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور)، لقمان 33.

إن تحصيل خشية الله يكون بالاستغراق والعيش فيما جاء يوم القيامة في كتاب الله وفيما ثبتت صحته من السنة النبوية المطهرة. لذلك أنا أنصح بالتعاهد اليومي حتى وإن كان قليلاً لما جاء عن الدار الآخرة سواء من الكتب أو من الشرائط فإن مداومة التذكرة بها هي الطريق الأقصر والأصدق والأثبت لتحصيل خشية الله تعالى، وهذا لا يعني أنني أسعى لتعذيب المسلمين أو عدم الاهتمام بغيرها من علوم شريعة الإسلام التي تنصلح بها الدنيا وتعلو بها الأمة أبداً.. إن معايشة الدار الآخرة بما فيها من مراحل وأهوال سيجعل الاجتراء على الحرام في الدنيا أصعب، وإن حدث فالأمل في الله أن يكون في صغائر الأمور وليس في الكبائر. والذي إن حدث فلن يعدم التوبة السريعة المباشرة، والمعصية الصغيرة أو حتى الكبيرة التي تتبعها التوبة الصادقة هي مغفورة بإذن الله تعالى قال تعالى: (ولله ما في السموات وما في الأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى (31) الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة..النجم 31 – 32.

صدقوني – لقد كان الشباب المؤتم به صلى الله عليه وسلم أخشى الناس لله وأبكاهم بين يديه وهو الذي ليس في غيره - صلى الله عليه وسلم الأسوه الحسنة لقول الله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوه حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الأخر وذكر الله كثيراً) الأحزاب 21. فهلا تأسينا به؟ فالبراء يروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في جنازة، فجلس على شفير القبر، فبكى حتى بلً الثرى ثم قال: يا إخواني لمثل هذا فأعدوا، ويبكي صلى الله عليه وسلم عند تذكر الحساب، وتذكر اليوم الذي يجيء فيه المظلوم ويقول لله تعالى خذّ لي مظلمتي من أخي، فيقول الله للآخر: أعط أخاك مظلمته، فيقول: يا رب لم يبق من حسناتي شيء، فيقول المظلوم: ربي ليحمل عني من أوزاري، فتفيض عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ثم يقول: "إن ذلك ليوم عظيم يحتاج الناس فيه إلى من يحمل عنهم أوزارهم"، إن البكاء من خشية الله كان سلو عباد الله الصالحين، الذين انكشفت لهم الحجب بصلاحهم، فالحارث بن سويد كان إذا سمع قول الله تعالى: "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره"، كان ينتحب ويقول: إن هذا الإحصاء شديد، لقد كانوا رضي الله عنهم يعيشون القرآن الكريم بكل عواطفهم وكيانهم، ومن الأخبار الصحيحة التي تروى عن عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين، أنه كان يقرأ في سورة "والليل إذا يغشى حتى إذا جاء على قوله تعالى: "فأنذرتكم ناراً تلظى لا يصلاها إلا الأشقى". خنقته العبرة كلهم كانوا كذلك بكّائين، يخشون الله، ويخافون حسابه، وفي طليعتهم طبعاً ومنطقياً رسول الله وملائكته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مررت ليلة أُسْري بي بالملأ الأعلى وجبريل كالحلس البالي من خشية الله (والحلس: كل ما يضع على ظهر الدابة)، أرأينا جبريل الذي هو أمين وحي السماء المصطفى، كالحلس وليس ذلك فقط، بل البالي، المهلهل، غير المتماسك من خشية الله تعالى".

اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا أبداً ما أحييتنا، ونعوذ بك من عين لا تدمع وقلب لا يخشع من خشيتك وجلال قدرك سبحانك، آمين.. آمين.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

عمرو خالد مجلة المرأة بتاريخ 26أكتوبر 2004