ما هو "محو التعلُّم" (Unlearning)؟ (الجزء الثاني)

تحدَّثنا في الجزء الأول من هذا المقال عن أنواع التعلُّم، وعن أنواع محو التعلُّم وصعوباته، وسنكمل في هذا الجزء الثاني والأخير الحديث عن الحدِّ الأقصى والغرابة والعشوائية وكيفية محو التعلُّم؛ لذا تابعوا معنا السطور القادمة.



محو التعلُّم، والحدُّ الأقصى:

محو التعلُّم تجربة مزعجة بالنسبة إلى معظم الناس، فلا أحد يحبُّ اكتشاف أنَّ ما كان يظنُّه صحيحاً هو مغلوط أو تبسيط مضلل للواقع، ولأنَّ الغرابة هي القوة المهيمنة، ويمكننا الاستمرار في حياتنا دون القلق بشأنها في معظم الأحيان، فلِمَ نكلِّف أنفسنا عناء الغوص فيها؟ لماذا لا نجمع الطوابع فقط، ونترك الأساس الذي تقوم عليه حياتنا كما هو دون زعزعته؟

بالنسبة إلى معظم الناس، قد لا يكون هذا النفور من محو التعلُّم سيئاً للغاية؛ فالعمل بمهارة أهم من المعرفة؛ لذلك يتمكنون من عيش حياتهم على ما يرام، وإن كانت تفاصيل نظرياتهم عن العالم لا تتوافق مع واقعه العميق.

الميزة الرئيسة لمحاولة الحصول على صورة عميقة هي أنَّها تساعد على تجاوز الحدود القصوى، ويمكن للنظريات بقدر ما تكون دقيقة أن تسلط الضوء على الأشياء المحتملة التي يمكننا القيام بها أو تغييرها أو تجربتها خارج نطاق ما اختبرناه مباشرة من قبل، وتساعدنا النظريات على تنبؤ ما إذا ستكون تلك التجارب التي لم نمر بها بعد جيدة أم لا.

تُعدُّ خوارزمية أصل التدرج (Gradient descent) إحدى خوارزميات التعلُّم الآلي القوية، ولها صيغة رياضية معقدة تتضمن حساب ناقل التفاضل والتكامل والمشتقات الجزئية، لكنَّ حصيلة ما تفعله سهل الفهم، ولفعل ذلك تخيَّل نفسك تقف على حافة وادٍ، وهدفك هو الوصول إلى أدنى نقطة ممكنة، لكنَّ التضاريس معقدة للغاية ولست متأكداً من شكلها بالضبط، ماذا يجب أن تفعل؟

تقول خوارزمية أصل التدرج أن تسير إلى أسفل، فإذا كنت تمشي دائماً في اتجاه الانحدار ستصل في النهاية إلى نقطة يرتفع فيها كلُّ طريق حولها صعوداً؛ لذا يجب أن تكون تلك البقعة هي أخفض نقطة في التضاريس، وتكمن مشكلة أصل التدرج في أنَّك قد تعلق في مناطق؛ إذ ستضطر إلى الصعود لبعض الوقت قبل أن تتمكن من الاستمرار في الهبوط.

يحصل التعلُّم البشري لاكتساب معظم المهارات العملية بالخبرة بطريقة مماثلة، فيدفعنا، ويجذبنا حدسنا للوصول إلى الحدِّ الأقصى من ناحية أفضل مستوى لحياتنا، وعلى الرَّغم من أنَّنا لا نعيش دائماً في هذا المستوى، لكن إذا كانت حياتنا مستقرة نسبياً؛ فإنَّنا نميل إلى العودة إليه.

لكنَّ المشكلة في حياتنا هي أيضاً أنَّ كثيراً من الناس عالقون في الحدود القصوى، على سبيل المثال: الشخص المدمن على الكحول يعيش في حدٍّ أقصى؛ إذ يشعر بالألم إذا تناول كميات أقل من الكحول، لكن يجب أولاً أن يشعر بهذا الألم لمدة قبل أن يتحسن.

التسويف هو حدٌّ أقصى أيضاً؛ إذ يتطلب البدء بالعمل أولاً التغلب على عدم الرغبة بالعمل على المهمة، لكن كما يعلم أيُّ شخص يماطل في كثير من الأحيان؛ فإنَّ حالة التسويف بالمجمل هي شعور مروع، لكنَّ أيَّ إجراء فوري تفكر في اتخاذه يولِّد شعوراً أسوأ قليلاً منه فتستمر بتجنب العمل، وهكذا تظلُّ عالقاً.

من ناحية العلاقة بين محو التعلُّم والحدِّ الأقصى، فإحدى الطرائق التي يمكنك بها الخروج من الحدود القصوى هي إذا كان لديك فكرة عن شكل التضاريس كما في المثال السابق، فإذا كنت تعلم في واقع الأمر أنَّك حالياً في نقطة مثالية ضمن نطاق ضيق، لكن نقطة سيئة على نطاق أوسع، يمكنك مقاومة حدسك وتحمُّل المشاعر السيئة التي ستمرُّ بها في المرحلة الانتقالية على أمل الوصول إلى نقطة أفضل على الأمد الطويل.

لكنَّ معرفة شكل التضاريس يعتمد على امتلاك صورة دقيقة عن الحقائق، والمعرفة الأهم والأكثر جوهرية عن حياتك في الوقت الحالي، وإذا كانت هذه الحقائق مغلوطة، فإنَّ قدرتك على وضع توقعات عن التضاريس البعيدة عن محيطك المباشر تتضاءل بسرعة، ووفق حجم الحدِّ الأقصى الذي يحيط بك، قد لا يكون من الممكن رؤية مستقبل أفضل من ناحية ما أنت عليه الآن على الرَّغم من وجوده، أو قد يبدو لك وهماً.

من عدة نواحٍ، يواجه محو التعلُّم نفس مشكلة الحد الأقصى، وللحصول على صورة أدق، يجب عليك أولاً التضحية ببعض الأشياء التي تحسبها أمراً مفروغاً منه، وتتضمن هذه التضحية مقاومة ميولك الطبيعية إلى التمسك بالوضع الحالي.

شاهد بالفيديو: طريقة تطوير التعلم الذاتي

الغرابة والعشوائية ومحو التعلُّم:

تحدثنا حتى الآن عن طريقة واحدة للتغلب على مشكلة الحدِّ الأقصى، وهي وجود فكرة أوضح عمَّا قد تكون عليه الأماكن غير المعروفة في الفضاء الشاسع لتجارب الحياة المحتملة، ممَّا يساعد على تحديد الفرص الحقيقية للتحسين، وتجنُّب الأمل الكاذب، والوجهات التي لن تؤدي إلى تحسن، ويتوافق محو التعلُّم مع السابق؛ لأنَّه بخلاف جمع الطوابع والتعلُّم الإضافي البحت لدينا جميعاً نظريات موجودة مسبقاً عن شكل تضاريس الحياة القريبة بالفعل.

طريقة أخرى للخروج من الحدود القصوى هي ببساطة العشوائية، فغالباً ما يستخدم المبرمجون قدراً من العشوائية في خوارزميات أصل التدرج؛ وهذا يعني أنَّ حلولهم لا تتوقف عن العمل عند الوصول إلى انخفاضات ضئيلة نسبياً.

يمكن للبشر استخدام العشوائية أيضاً لتجنب نفس المشكلة؛ فيمكن أن يؤدِّي تعريض نفسك لمجموعة متنوعة من التجارب إلى تخطيك العقبات المؤقتة، فالعيب الرئيسي لهذا النهج هو أنَّ العشوائية يمكن أن تكون مدمرة في بعض الأحيان، وعلى سبيل المثال: تجربة المخدرات أو خيانة زوجتك هي تجارب فريدة، لكنَّ مخاطرها لا تستحق ما قد تحصل عليه منها.

يقترح محو التعلُّم طريقة أكثر أماناً نسبياً لاستكشاف مساحات أكبر من تضاريس احتمالات الحياة، وقد يسبب ذلك عدم راحة وعدم استقرار؛ لأنَّك تتعامل مع حقيقة أن معظم الأشياء التي كنت تأخذها بوصفها أمراً مسلَّماً به من قبل، قد لا تكون صحيحة، لكن غالباً ما يكون هذا أقل خطورة بكثير من العشوائية على حياتك.

كيفية محو التعلُّم:

كيف يمكنك التخلص من الأشياء التي تظنُّ أنَّك تعرفها؟ هذه ليست مهمة سهلة، والاعتراف بأنَّك لا تعرف شيئاً قد يكون حلاً مبدئياً، ولكنَّه لا يوفِّر حقاً طريقة للمُضي قُدماً نحو المعرفة الحقيقية؛ لأنَّه يعني بسهولة الاعتراف بجهلك بدلاً من محاولة التوصل إلى نظرية أفضل.

تتمثل إحدى طرائق البدء بمحو التعلُّم في البحث عن المعرفة الإضافية في المجالات المألوفة، ثم استخدام تلك المعرفة الجديدة لبدء مراجعة المعرفة القديمة وتعديلها، على سبيل المثال: في أثناء تعلُّم علم النفس والعلوم الإدراكية، تبدأ باعتقاد معين يبدو معقولاً عن النفس، ثم تتعمق أكثر وتواجه حججاً دقيقة توضح سبب احتمال كون هذه المعتقدات مغلوطة، ومن تلك النقطة يمكنك البدء بإعادة صياغة بعض معتقداتك القديمة، ويمكن أن ينجح هذا النهج، ولكنَّه صعب ويتطلب كثيراً من الصبر للتعلُّم النظري والأكاديمي أكثر ممَّا يرغب معظم الناس في بذله.

نهج آخر هو البحث عن تجارب الآخرين في العالم، ففي حين قد لا يمنحك الآخرون النظرية اللازمة لفهم العالم، لكن كلَّما كانت تجاربهم مختلفة أكثر عن تجربتك زاد احتمال وجودهم في موقع مختلف في فضاء احتمالات الحياة، واختلاف حياتهم عن توقعاتك، وذلك بحدِّ ذاته يقدِّم لك معلومات عن طريقة تفكيرك.

يمكن أن يكون الغوص بهذه الطريقة شكلاً فعالاً من أشكال محو التعلُّم، وقد تجد أنَّ أفضل طرائق محو التعلُّم في حياتك لن تكون الذهاب إلى مكان يتجاوز توقعاتك؛ بل إلى أماكن كنت قد قلَّلت من شأنها، على سبيل المثال: قد يجبرك السفر إلى الصين على إعادة التفكير جذرياً في نظرتك إلى ذلك البلد، لكنَّ التحدث إلى أشخاص من أماكن مختلفة سيظهر لك أيضاً مدى اعتباطية أغلب آرائك عن الثقافات.

هذا النوع من السفر يعني في الواقع التحدث إلى الناس، وسيفيدك فيه تعلُّم اللغات؛ لأنَّه من المرجح أن تصادف أشخاصاً يختلفون عنك اختلافاً كبيراً حينها، فالعملية المعتادة لمشاهدة معالم المدينة والتقاط صور جميلة فيها هو أمر جيد، ولكنَّها مجرد عملية جمع طوابع ولن تؤدِّي إلى الحصول على معلومات تغير طريقة تفكيرك.

الطريقة الثالثة لمحو التعلُّم هي أن تكون أكثر تنوعاً وجرأة في تجاربك في الحياة، ففي حين يمكن أن تكون العشوائية الخالصة مدمرة، لكن طالما تتجنب المخاطر الواضحة، فيمكنك استكشاف عدة اتجاهات أخرى في الحياة أكثر ممَّا يفعل معظم الناس.

العيب الرئيسي لهذا النهج الثالث هو أنَّه يعتمد على نوع من الثقة بالنفس التي تميل في حد ذاتها إلى الاعتماد على تجارب إيجابية سابقة خارج حدودك الآمنة، ودون الثقة سيكون لديك نفور غريزي من الاستكشاف؛ ومن ثمَّ فإنَّ هذا النهج للخروج من الحد الأقصى يعتمد على مدى نجاحك في تجاربك السابقة، فكلَّما زاد نجاحك في  محو التعلم، واستكشاف فضاء احتمالات الحياة زادت احتمالية تقدُّمك في فهم الناحية النظرية، إضافة إلى عيش التجربة المباشرة.

إقرأ أيضاً: كيف يمكن للتكنولوجيا أن تربط بين المعلمين والطلاب والآباء؟

الراحة مع الغموض:

طريقة التفكير التي تتبناها في مسعى محو التعلُّم هذا هي أن تكون مرتاحاً مع فكرة أنَّ كلَّ ما تعرفه مؤقت، وأنَّه من المحتمل أن تكون الصورة الحقيقية أكثر تعقيداً وغرابة ممَّا تعرفه.

يبدو أنَّ البشر يخافون خوفاً طبيعياً من هذه النظرة غير الثابتة للأشياء، وقد يكون السبب هو أنَّ هذا النوع من المرونة المعرفية قد يؤدِّي إلى التشكيك في الأعراف المجتمعية، وقواعد السلوك؛ ومن ثَمَّ إنَّ الأشخاص الذين يفكِّرون كثيراً بهذه الطريقة قد لا يتحلَّون بالأخلاق الحميدة، لكن من المحتمل أن يكون هناك نفور غريزي أكثر من كونه متجذر في الشعور بأنَّ عدم اليقين أمر سيئ وأنَّ اليقين أمر جيد، لكنَّه شيء يمكنك تكييف نفسك لترتاح معه بالتعرض المستمر له.

إقرأ أيضاً: الوعي وغموضه (مقتطف من كتاب: الوعي، دليل موجز عن الغموض الجوهري للعقل)

في الختام:

عرف علماء النفس منذ بعض الوقت أنَّ التعرض التدريجي يمكن أن يزيل معظم المخاوف المُكتسبة والنفور من الأشياء، وفي بعض الأحيان، إذا ترافق التعرض مع مكافأة، يمكن أن يصبح الشيء البغيض في البداية مرغوباً في النهاية كما يشهد على ذلك من يتناولون الأطعمة الغنية بالتوابل ومدمنو الأدرينالين.

بالمثل، التعرض للمجهول، ومحو المعتقدات القديمة المريحة عن الأشياء والغموض والفهم العميق للأشياء التي تعدُّ معرفتنا الحالية مجرد موطئ قدم مؤقت لها، يمكن أن يتحول من شيء تخشاه إلى شيء تستمتع به، وإنَّ متعة إيجاد طريقة جديدة أدق للنظر إلى الأشياء تبدأ بالتغلُّب على النفور من تغيير طريقة التفكير المعتادة.

المصدر




مقالات مرتبطة