ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب

"ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".. قاعدة فقهية ترددت كثيراً في فترة الصحوة، واستخدمت لتثبت وجوب العمل في جماعة، حيث كانت أغلب الجماعات تستخدمها لاستقطاب أتباعها، وتحذيرهم من مغبة ترك الواجب، وهو إقامة الجماعة التي تسعى لإستعادة مكانة الأمة والآن.. ونحن نبشر بالانتقال إلى مرحلة اليقظة والرشد، سنحتاج إلى استخدام ثلاثة معاول أساسية من معاولنا الفكرية لإزالة الغبار الذي صبغ تلك القاعدة الرصينة، فتم تضييق الواسع.



المعول الأول: وسنبحث به عن مبررات استدعاء تلك القاعدة وتفسيرها على هذا النحو، فقد شهدت مرحلة الصحوة الإسلامية استقطاباً حاداً بين الجماعات، وكان التنافس مستعراً حول "أيكم أكثر جمعاً"، سواء كان ذلك الجمع له دور أم أنه وجود مجرد... فالانتماء هم المهم... وقد ولد ذلك تنافساً بين الجماعات لم يكن دائماً يأخذ طابعاً محموداً، حيث كان يقوم على انتقاص أدوار أو فهم الآخرين للإسلام، ليبرز نقاط قوته على اعتباره هو الحل والخلاص. وقد لاحظنا ذلك في متن ومضمون الشعارات التي تترست بها الكثير من الجماعات مثل "الفهم الصحيح للإسلام" و "أصحاب العقيدة السليمة والخالصة"، وغيرها من الشعارات التي لم تكن في جوهرها مصممة لمقارعة الباطل، بل كان دورها هو إظهار التمايز وإحداث الهوة بين إخوة الهم الواحد. وقد كانت أغلب الجماعات تتبع أسلوب الحديث عن غربة الإسلام ووجوب إعادته ليسود العالم، ثم الحديث عن وجوب وجود جماعة تقوم بهذا العمل، ثم الحديث عن أن هذه الجماعة بعينها أفضل من تلك. ولا ننكر أن بعض الجماعات شهدت لنفسها بأنها ليست إلا جماعة من المسلمين، لكن الواقع المعاش جرح تلك الشهادة، فلم نشهد تعاونها باعتبارها جماعات يكمل بعضها بعضاً، بل شهدنا النفي المتبادل والمشاحة... وتغلب حب التكاثر والغلب على خدمة الهدف المشترك. فاستعمال تلك القاعدة كان بالأساس لإثبات وجوب الانضمام إلى جماعة بعينها، ولم يكن استعمالاً منهجياً علمياً يبحث في ما هي الواجبات المطلوبة لتغيير الواقع، لقد كان الانطلاق - في كثير من الأحيان- من فكرة تسويغ وجوب الانضمام للجماعة بمظلة شرعية، ولم يكن الانطلاق ابتداء من تلك القاعدة الفقهية، فالقاعدة استخدمت لتبرير واقع لا لتوفير أجوبة على احتياجات الواقع الحقيقية.

المعول الثاني: لقد ارتكزت تلك الجماعات في مجموعها على قاعدة "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، وتلك مقدمة صحيحة، تلاها استنتاج "أن هذه الجماعة بعينها واجب" وهو استنتاج ضيق واسعاً. فإذا اعتبرنا الواجب الكبير هو عودة الريادة لأمتنا العربية والإسلامية، فإن أي أداة ستعمل على إقامة هذا الواجب سيكون استحداثها في مجتمعاتنا ضرورة ملحة. فأداة الجماعة ضرورية إن كان نفعها أكثر من ضررها، وتشمل جماعات نشر الخير، والأحزاب السياسية، والجماعات الحقوقية، وغيرها من الجماعات التي تحتاجها المجتمعات. كذلك سنجد من الأدوات المطلوبة إنشاء مؤسسات متخصصة محترفة، فأداة المؤسسات الإعلامية والاقتصادية ضرورية إن كانت داعمة لمشروع الأمة. ومن الأدوات كذلك رهبان المعامل والأبحاث، ونعني بهم العلماء المتخصصين في أمور الدين والدنيا، فهم يشكلون أدوات ضرورية تجيب على أسئلة الواقع. وهناك الكثير والكثير من الأدوات التي تحتاجها المجتمعات حتى يتم الواجب. فإذا كنا سنعتمد تلك القاعدة "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" فحري بنا أن نبحث بتجرد عن الواجبات المفقودة، وبالتالي يتسع المفهوم لكل من يغطي هذه الواجبات وأن لانعتبر الشكل الذي اتخذته هذه الجماعات الشكل الوحيد لتفعيل هذه القاعدة.

المعول الثالث: يرى البعض أن العمل في جماعة واجب "لأن الشيطان من الواحد أقرب ومن الإثنين أبعد" وهذا صحيح، فعدد الاثنين كاف لطرد الشياطين عن أعمالنا، وليس بالضرورة أن يكون العدد بالعشرات أوالمئات أوالآف، ولا يجادل أحد في أهمية العمل في مجموعة، لكن الخلاف حول عددها، فقد تتكون من شخصين أو خمسة، أو قد يتطلب الواجب جماعة كبيرة يبلغ عددها آلافاً مؤلفة. فسنجد العالم في معمله يمارس العمل الجماعي مع فريقه الصغير، والمتظاهر في مسيرته يمارس العمل الجماعي مع حشود كبيرة. فالعمل الجماعي وسيلة للتنظيم وزيادة الإنتاجية، فهو سلوك فطري عززه الدين، والإسلام لم يجعل الكثرة دليل نضج، ولم يتهم القلة ويعتب على قلة عددها. إن قاعدة "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" قاعدة ذهبية يجب أن تستحث العقل ليبدع الواجبات، ولا يقسر الناس قسراً على أداء نوع واحد منها بطريقة واحدة، فالثغور التي تتطلب رجالاً ينتفضون لسدها كثيرة، ومجالات العمل متنوعة، وطرق إنجاز مشروع النهضة تتطلب إطلاق الطاقات في شتى المجالات. وبالتالي فالانبراء لسد الثغور قد يأخذ الشكل الفردي، والمجموعات الصغيرة، والمجموعات الكبيرة، وبمختلف الكيفيات النافعة، ولا يمكن اختزاله في نمط واحد يقتل الإبداع ويميت الطاقات حين يصبها في قوالب جامدة فيقضي على لبنات المجتمع الصالحة بعمليات التخزين والتعليب.