ما الذي يدفعنا إلى الحديث مع الآخرين؟

عندما نتحدث مع الآخرين، يتفوَّه معظمنا بأشياء مثل: آها، وإممم، أو نومِئ برؤوسنا بين الحين والآخر، ليعلم الشخص الآخر أنَّنا نُصغي إليه. هذه الإيماءات هي وسيلة للحفاظ على التواصل والتفاعل، والتأكيد للشخص الآخر أنَّنا مركزون معه في قصته.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن المدونة "نانسي كوليير" (Nancy Colier)، وتُحدِّثنا فيه عن تجربتها فيما يدفعنا لإجراء المحادثات.

ثمة صديق أعرفه منذ سنواتٍ عدة لا يشاركنا هذا السلوك المعتاد؛ فعندما أشارك الأفكار أو التجارب معه، لا أتلقى منه أيَّة إشارة واضحة تشير إلى أنَّه يُصغي إليَّ، ولا يبيِّن لي أي دليل على أنَّه قد استوعب ما قلته. فأنا أفترض أنَّه يسمعني؛ نظراً لأنَّه في الغرفة ولكونه ليس أصماً، وأيضاً لأنَّه غالباً ما يتحدث عما شاركته معه في أحاديث لاحقة، لكن في تفاعله معي واقعياً، لا يوجد شيء يؤكد حقيقة أنَّه يُصغي إليَّ. وفي أغلب الأحيان أشعر أنَّني لا أتحدث إلى أحد.

في محادثة أجريتُها أخيراً مع هذا الصديق، لاحظتُ أنَّ قلقي يزداد؛ ففي غياب أي كلمات أو إيماءات منه، شعرتُ على نحو متزايد أنَّني لم أعد على تواصل مع تجربتي الخاصة. لقد كنت أفقد التواصل مع نفسي؛ فالكلمات التي كانت تخرج من فمي كانت تروي القصة التي أردت أن أرويها؛ ولكنَّ الشخص الذي كان يروي هذه القصة - ألا وهو أنا - كان قد غادر.

كنت منفصلة عن الحديث الذي كنت أشاركه، والذي كان هاماً بالنسبة إليَّ؛ فمع أنَّ ذلك لم يكن ملحوظاً عليَّ من الخارج، ولكن داخلياً كنت وسط ما يشبه المطاردة، أحاول فيها الحصول على رد منه، وحثِّه على الإصغاء إليَّ وتصديق تجربتي، وأن يثبت لي أساساً أنَّني فعلاً موجودة.

وبصرف النظر عما قد تفكر فيه أنت أو أنا بشأن سلوك صديقي، أو بشأن اختياري أن أكون على علاقة معه، فإنَّ هذه التجربة تظهر لنا مشكلة كبرى. فإذا توقفنا وراجعنا هذا الأمر بأنفسنا، فسنلاحظ حالتنا الداخلية في أثناء حديثنا مع أصدقائنا أو شركاء حياتنا، فنحن غالباً ما نجد شعوراً بالقلق أو المعاناة أو الجهد.

من دون أن نعي ذلك، فنحن نحاول أن نحصل على شيء ما من المُصغي إلينا، على رد معين منه استجابةً لحديثنا؛ وهذا يساعدنا على الشعور بتحسن في داخلنا. وغالباً لا ندرك حاجتنا من المُصغي إلينا. نحن نحاول أن نجعل الشخص الآخر يشعرنا أنَّنا مسموعون، ليعطينا الشعور بأنَّه قد فهمنا وفهم ما نتحدث بشأنه.

نحن نمنح الشخص الآخر القدرة على تحقيق أو حرماننا هذه الرغبة الأساسية والعميقة، التي إذا لم تتحقق فإنَّها فعلاً ستكون مؤلمة لنا، وإنَّ إعطاءها لشريكنا في المحادثة يعطينا إحساساً من التوتر وحتى اليأس. ومن دون أن نشعر، فإنَّنا نجعل أنفسنا عاجزين عن تلبية واحدة من أهم احتياجاتنا الأساسية.

في بعض الأحيان، بالإضافة إلى محاولة أن يُسمَع صوتنا، نحن نكافح للحصول على الدعم أو التأييد، لحمل الشخص الذي يصغي إلينا على أن يؤيدنا على شيء قلناه أو فعلناه.

وفي بعض الأحيان، نحاول الحصول على رد فعل يخفف من شعورنا بالذنب أو الخجل أو الخوف، وأن يهدئ من أفكارنا السلبية. وفي أوقاتٍ أخرى، نحاول أن نجعل الشخص الذي يصغي إلينا يرانا في رؤية محددة، بوصفنا شخصاً جيداً وذكياً ومثيراً للإعجاب أو شخصاً يحمل أي صفة إيجابية أخرى.

ومهما كان الشيء الذي حاولنا الحصول عليه من الآخرين، فهو غالباً ما يكون شيئاً سيؤلمنا إذا لم نحصل عليه.

إنَّ محاولة الحصول على رد فعل هو جزء طبيعي من كل تفاعل بشري. ولكن على مستوى ملحوظ وغير ملحوظ، فإنَّ هذه النية الخفية غالباً ما تؤدي إلى شعور خلفي بالتوتر والصراع. ولكي نتحرر من طريقة التواصل هذه، نحن نحتاج إلى الوعي.

أولاً، يجب علينا أن ندرك عندما تقودنا حاجتنا إلى أخذ رد فعل من المصغي إلينا، أنَّه يجب علينا التوقف في تلك اللحظة. لكي نراقب حالتنا الداخلية، يجب أن نكون واعين لما يقودنا حقاً لهذه الحاجة، والاستجابة التي نحاول الحصول عليها، والأهم من ذلك، أن نرى ما إذا كانت هذه الاستجابة سوف ترضينا أم لا.

إقرأ أيضاً: 5 طرق لتحسّن من طريقة حديثك وكتابتك في آنٍ واحد

مع الوعي، يمكننا الخروج من المعاناة، والتراجع عن هذا السعي الدؤوب، ويمكننا أن نحوِّل انتباهنا بعيداً عن الآخر نحو رغباتنا الخاصة. وبعدها يمكننا تزويد أنفسنا بطرائق يمكننا التحكم بها.

في محادثة جرت أخيراً مع صديقي الذي لا يتجاوب معي الذي تحدَّثتُ عنه آنفاً، لقد تنبهت حواسي بأنَّني أعاني من قلق وكرب شديدين. فأدركت أنَّ أكتافي كانت متشنجة، وأنَّني كنت أتنفس بسرعة، لقد كان صوتي يرتفع ويحتد، وكنت أشعر بضيقٍ في صدري.

وحالما أدركت هذه الأمور التي كانت تحدث لي، توقفت عن تلك المطاردة، وتحررت من هذه المحادثة، تحررت من حثِّه على أن يصغي إليَّ، وبعدها أخذت نفساً عميقاً.

توقفتُ وحوَّلت انتباهي من الداخل إلى الخارج. لقد جمعت حرفياً ومجازياً الطاقة كلها التي كنت أطلقها نحو صديقي، وأعدتُها إلى نفسي. من خلال عملية الوعي هذه، كنت مرة أخرى في عالمي الخاص. توقفت عن الدوران حول عالمه، واستقريت في عالمي وحدي.

ثم واصلت رواية القصة نفسها، ولكن بدلاً من أن أرويها له، لقد رويتها لنفسي. فلم أكن أتكلم فحسب؛ بل كنت أصغي إلى كلماتي أيضاً. إنَّ الأكثر أهمية هو أن نبقى على تواصل مع أنفسنا عند التعامل مع الآخرين، وأن نبقى في حالة وعي. فهل نشعر بالقلق؟ وهل نحاول الحصول على رد فعل معين من الآخر؟ وهل نكافح مكافحة عمياء لنُشبع حاجتنا؟

وأياً كان ما نكتشفه فقد يكون فرصة سانحة لنا، ليس للانتقاد أو إصدار الأحكام؛ بل لنعرف أنفسنا معرفة أفضل، ولنكتشف ما يقودنا وما نحتاج إليه ونريده حقاً.

إنَّ مثل هذا الاستكشاف هو دعوة إلى اكتساب مزيد من الوعي الذاتي، وأيضاً مزيد من الرأفة الذاتية. ومن خلال هذه العملية، نعترف بكفاحنا والمعاناة التي تحدث عندما لا تلبَّى احتياجاتنا. فنحن نلحق المعاناة بأنفسنا عندما نتخلى عن أنفسنا ونمنح الآخرين القدرة على تلبية أعمق احتياجاتنا أو حرماننا منها. يمكننا تغيير الطريقة التي نختبر فيها تعاملنا مع الناس بالوعي، فالوعي هو بابٌ للحرية.

المصدر




مقالات مرتبطة