لا للإسقاط نعم للمسئولية.

تبنى شخصية الفرد منا من خلال تفاعلاته مع البيئة التي ينمو فيها ومن خلال تجاربه الحياتية...فعموما كلما كانت هذه التفاعلات والخبرات سلبية وتكررت وتراكمت كلما كان لها انعكاس سلبي على شخصية الفرد وعلى نظرته واعتباره لذاته والعكس صحيح أي كلما كان جو التنشئة صحيا ويوفر شروط الإشباع العاطفي و الفزيولوجي وباقي الاحتياجات الضرورية لتوازن الإنسان كلما كان الإسهام في بناء شخصية سوية ومتماسكة.  



الصراع يتولد حين يبحث الإنسان عن تحقيق آمال وطموحات في ذاته لا تتماشى مع إمكاناته الحالية فتتشكل الصعوبات وتصبح معيقات تحد من قدرته على الانطلاق وتحقيق الذات المطمئنة والمتوازنة.

 

من أجل هذا أرى أنه من المفيد أن نوضح شيئا مهما وله علاقة بمفهوم المسؤولية وهو أن عمر الإنسان نستطيع أن نقسمه إلى قسمين كبيرين:

 

1- مرحلة الطفولة وهي مرحلة التعلم والاستيعاب، هي مرحلة تدريبية وتعليمية كبيرة يتلقى فيها الطفل تربية وثقافة تشكل قيمه ومعتقداته ونظرته لنفسه وللعالم...يلعب فيها الطفل بحكم بنيته النفسية والفسيولوجية دور المتلقي الذي يمتص كل ما يعطى له من العالم الخارجي وبما أنه هو المتلقي والمتعلم والمكتشف فهو دائما  معرض للخطأ ، وكيفية التعامل مع الطفل ومع احتياجاته وأخطائه هي من مسؤولية الذين يرعونه وأخص بالذكر الوالدين والمدرسين .

-           شخصية الطفل تتبلور إذن وفق تعامل الكبار معه وكثيرا ما يتعامل الكبار حسب مقاييسهم وخاصة إذا كانوا جاهلين بشروط التواصل الفعال والجيد مع الطفل وببنيته النفسية والجسدية و بمراحل نموه، فيلجأ كثير منهم إلى طرق تأديب غير سليمة مثل النقد اللاذع ، وأحيانا السب والشتم ،واللوم والقمع، والاستهتار بآرائه ومقارنته مع الآخرين، وكذلك الضرب والإهانة معتقدين أنها أساليب تربية ناجعة مع العلم أنه وكما قال الرسول الحبيب عليه أزكى الصلاة والسلام  :" رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يعقل...( رواه الإمام أحمد في مسنده ) . أي أن الخطأ يعدل بتعلم ( حكمة أو موعظة وبطرق استثارة التفكير...  ) وليس بالضرب و بعقاب مهين، يعدل بتجاوز ورحمة كما ينوه الرسول ( ص):" ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا "  نطلب الرحمة حين الضعف وحين الخطأ وباعتبار لشخصية الطفل وكيانه، وبحكم حداثة سنه وضآلة التجربة والخبرات الحياتية التي من شأنها أن تمده بالتعلم كما هو شأن الكبار.

 

2- ينتقل هؤلاء الأطفال من مرحلة الطفولة إلى مرحلة البلوغ أو الرشد وهم غير معدين لهذه المرحلة الإعداد السليم، مرحلة تتطلب أكثر تفعيل مفهوم المسؤولية واستقلالية الذات ، مرحلة يطالب فيها الإنسان بالإنتاج والعطاء وتفجير للطاقات، فإذا بنا نفاجأ بأجساد تكبر ولكن بنفوس تتعثر في مسيرة النضج وتحمل سلبيات  العملية التربوية التي تلقاها في صغره، بل تعاني من أشكال الإعاقة النفسية والتي تتجلى في مظاهر متعددة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: الانطواء ، والرهاب الاجتماعي ، والجفاء الاجتماعي، والعدوانية...  والتي تخفي معاناة من شعور بعدم الثقة بالنفس، والدونية والضعف والخوف ، فتكبرالهوة بين طموحه وإمكاناته وينشأ الصراع النفسي ...ويصبح من سمات هذه الشخصيات الابتعاد عن تحمل المسؤولية وبالتالي تفعيل الآلية الدفاعية : "الإسقاط" كإستراتيجية نفسية لاواعية لتخفيف المعاناة.

 

السؤال الذي نطرحه:

 كيف يتحرر الإنسان من مخلفات التعامل السلبي والتي حملها منذ طفولته ؟

التخلص من مخلفات فساد أو زيغ عملية تربوية ليس بالأمر الهين بل يتطلب وعيا ومجهودا نفسيا وجسديا ، وصبرا ووقتا،  وبالتالي تعلما وتدريبا على مفاهيم ومهارات جديدة.

 

1-من أهم عوامل التغيير في الذات لدى الإنسان أن يدرك ابتداء من حال بلوغه سن الرشد أنه  دخل سن التكليف والمسؤولية ، وأنه أصبح مسئولا عن أفكاره وسلوكياته ومواقفه .ماذا يعني هذا الكلام؟ يعني بكل بساطة أن زمن مسؤولية الوالدين في تربيته قد ولى، فهم لهم ما لهم الآن وعليهم ما عليهم ، فإن أخطئوا سيتحملون نتائج أخطائهم.. ودوره الآن أن يتولى زمام أمره، ويتحمل نتائج سلوكياته ، كيف؟

 

2- يبدأ في الاشتغال على الماضي: أن يقوم بجلسات مع نفسه للرجوع بتفكيره ونفسه إلى الماضي والتأمل فيه وإخراج ما هو سلبي ( بالنسبة له) من خبرات ومواقف حياتية.

 

3-أن يعمل على إعادة صياغة الأحداث والخبرات السلبية صياغة إيجابية، ويتقبل مواقف والديه أو الآخرين الذين تركوا بصمة سلبية في نفسه بالتماس أعذار لهم ولظروفهم وحتما سيجدها، وفي نفس الوقت يبحث عن إيجابيات كانت لديهم ولكن دفنت في ذهنه بالأحداث المؤلمة ..ويتصالح مع الماضي ويتسامح مع الأشخاص، بهذه الطريقة سيتحرر من قيود تعيقه على الانطلاق وعلى اكتساب الشخصية الحرة القوية.

 

4-أن يعتقد بحتمية أن كل إنسان له مكامن الضعف ومكامن القوة في شخصيته. وأن يتجنب التفكير الانتقائي الذي يجعل من نفسه في خانة السلبية ومن الآخرين في خانة الإيجابية.

 

5-الإيمان بالتغيير وبالطاقة الكامنة في الإنسان مهما كان عمره، فكثير من الناس يعتريهم اليأس وتترسخ في أذهانهم افتراضات سلبية ومنها التي تتكرر عادة  :" مستحيل أن أتغير فأنا حملت هذا السلوك منذ طفولتي " أو مثل " والدي هما المسئولين عن انحرافي" وهذه أفكار تحول ضد انطلاق ذواتهم فهم بحاجة إلى زلزلة عقول ...

 

كون الإنسان يدرك أنه ما إن بلغ سن الرشد فإنه بلغ سن التكليف يعني المسؤولية ، ومهما كانت ظروف طفولته مؤلمة وسلبية فإنه بالتالي في سن الرشد مكلف أن يغير نفسه وأن يتجاوز الإسقاطات وتحميل الآخرين وزر ما هو فيه وهنا أشير إلى إستراتيجية علاج نفسي إسلامي هائلة وفعالة إن استشعرناها بعمق، وهي "الاحتساب لله" ، فلا شيء يضيع، وأنت حر وحرية الاختيار والمسؤولية هي من تكريم الله للإنسان ، نحن مسئولون لا محالة وحتى عن طريقة اشتغال حواسنا  قال الله عز وجل : "...إن السمع والبصر والفؤاد كل أولائك كان عنه مسئولا" ( الإسراء 36) وقال الرسول الكريم (ص):" لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل : عن عمره فيم أفناه وعن علمه فيم فعل فيه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيم أبلاه " أخرجه الترمذي.

 كلمات عطرة تحث الإنسان على التركيز في نفسه وتحريرها من كل ما يعيقها على التغيير، هذا أفضل له إن أراد أن يتحرر من مؤثرات الماضي ويبني نفسه بناء سليما ويساهم في بناء مجتمعه وأمته ويحقق بالتالي غاية وجوده.