كيف تجري حواراً رغم وجود اختلاف في وجهات النظر؟

لا بد من وقوع الخلافات المتبوعة بالجدال في أيَّة علاقة، سواءً بين الأزواج، أم الجيران، أم الأصدقاء، وكلما زادت أهمية العلاقة، زادت احتمالية حدة ذلك الجدال، ولكن مع أنَّه لا مفر من وقوع الخلافات، توجد طرائق لتجنب تصعيد المشكلة ولتُخرِج أفضل ما لديك ولدى الآخر.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن المدون "مايكل يومانسيس" (Michael Yeomansis)، والذي يُحدِّثنا فيه عن بحثه حول كيفية إجراء حوار أفضل.

منذ عقود وعلماء النفس يدرسون الخلافات؛ ولكنَّهم ركزوا على المتغيرات البنيوية؛ وهي المعايير السياقية التي تحدد منظور حوار ما قبل أن يبدأ، مثل المعتقدات الأولية حول الموضوع، وشخصية من يتحدثون معه. يمكن أن يكون لهذه العوامل تأثير في خلافاتنا، وأظهرت هذه الدراسات السابقة طرائق لتخفيف الصراعات.

على سبيل المثال: إن كانت أفكار الناس متطرفة، فإنَّ ذلك يضاعف من خلافاتهم؛ وبالمثل إن عَدُّوا الطرف الآخر الذي يختلفون معه أنانياً، أو غير مؤهل، أو حتى دون المستوى. واقترح علماء النفس بناءً على ذلك بأنَّنا إن خففنا من حدة معتقدات الناس، يمكننا أن نؤثر في ردود أفعالهم؛ وبذلك نخفف من حدة الصراع. وكذلك فقد درست أبحاث أخرى الخيارات التي يتخذها الناس حول من يثقون به للتكلم معه؛ ولهذا فقد اقترح الخبراء أنَّه بتشجيع تواصل أكبر بين المجموعات التعددية، فإنَّ الناس سيخرجون من "قوقعتهم" ويتعرفون بعضهم أكثر.

في الحقيقة، تبدو هذه المتغيرات البنيوية - إلى من تتحدث وعلى أي شيء تختلفان - مرتبطة بطريقة تجعل المحادثة المثمرة شبه مستحيلة؛ ولكنَّ أغلب الظن أنَّ المنظور البنيوي السائد قد غض الطرف عن أهمية قراراتنا التي نتخذها ضمن المحادثات؛ وهذا هام لأنَّه في الكثير من علاقاتنا في المنزل، وفي العمل، وفي المجتمع، لا نملك الكثير من الخيارات حول من يمكننا الحديث معه، أو ما الذي نختلف عليه.

لحسن الحظ، وجدنا في بحث أجريناه أنَّه حتى لو كانت المشكلة والشخص الذي تختلف معه ثابتين، فإنَّ لدينا خيارات فيما نقوله؛ وهذا يمكن أن يساعد في الحفاظ على تلك العلاقة، ويزيد من قوة الإقناع، ويعلمنا أكثر عن وجهة نظر الشخص الآخر.

لنطرح بعض الأمثلة لنبين ما أعنيه. هذه الخلافات كتبها مشاركون في دراسة أجريناها؛ إذ تضمنت نقاشاتهم حول سياسات مثيرة للجدل مع شخص يخالفهم الرأي. اخترنا قضايا خلافية للغاية لنُظهر أنَّه حتى الفرق بين أن تكون مستعداً للتحدث، أو غير متقبل للحوار، يمكن أن يكون هاماً للغاية، وهنا، فقد طُرِح عليهم سؤال: "هل كانت ردود الفعل على المواجهات بين الشرطة والمشتبه بهم في جرائم الأقليات في الآونة الأخيرة مبالغاً بها؟".

في الخلافات، فإنَّ اللغة التفسيرية مثل "لأنَّ" و"لذا"، توحي بالتعالي، فهذه الافتراضات حول ما يجري تُظهر قلة في التواضع الفكري. فيما يأتي بيانٌ أوليٌ طلبنا من المشاركين قراءته كتبه شخص مؤيد للاحتجاجات وردود الفعل العامة الأخرى:

"لم يكن رد الفعل العام مبالغاً به؛ بل قُمِعَ بشدة. إنَّ المواجهات الأخيرة تسلط الضوء بسهولة على قضايا كانت موجودة لفترة طويلة جداً. حدثت عمليات إعدام وقتل للأقليات عبر التاريخ الأمريكي؛ ولكنَّ الآن، لدينا إثبات في الوقت الفعلي من خلال مقاطع الفيديو على الهاتف المحمول و"بث فيسبوك" (Facebook Live). هناك مشكلات حقيقية بين الشرطة والمجتمعات التي تخدمها التي تُعالَج فقط بسبب الاهتمام الذي يُوَجَّه من خلال حركة "حياة السود هامة" (Black Lives Matter) والاحتجاجات الأخرى".

الآن، قبل أن تتابع القراءة، تخيل كيف يمكن لشخص أكثر تشكيكاً في حركة الاحتجاج أن يرد على هذا البيان الأولي، وإذا كنت لا توافق على هذا البيان الأولي بنفسك، ففكر في كيفية ردك.

شاهد بالفديو: 20 نصيحة لإتقان فن الحديث والحوار مع الآخرين

عرضنا هذا البيان الأولي، وغيره من البيانات المشابهة، على مئات الأشخاص، وطلبنا منهم الرد. فيما يأتي ردان متباينان كتبهما اثنان من المشاركين، ولقد ذكرنا هذين الردَّين ليس لإعطاء المصداقية لوجهة نظرهم، ولكن لأنَّهم يقدمون تبايناً مفيداً ومدهشاً في اختيارهم للأسلوب. ألقِ نظرة لترى ما إذا كان يمكنك ملاحظة أي اختلافات هامة في الأسلوب:

  • الرد 1: "أنا أفهم ما تقوله، ربما هناك بعض الحقيقة في واقع أنَّ هذه القضايا قد أُخفِيَت لفترة طويلة، ومع ذلك، بما أنَّني من "سان لويس" (St Louis) وأشهد أعمال شغب "فيرغسون" (Ferguson)، يمكنني أيضاً أن أرى كيف يمكن تضخيم الأمور وجعلها أسوأ في عيون الناس، وأعترف بوجود مشكلات حقيقية، ولكن ربما في بعض الأحيان يتم جذب الانتباه إلى الأماكن الخطأ".
  • الرد 2: "يمكن للمبالغة في رد الفعل على مواجهات الشرطة أن تكون مميتةً للجمهور عموماً. عندما يتصاعد العداء تجاه الشرطة، كما حدث في "شيكاغو"، فلن تشعر الشرطة بالأمان في أثناء دخولهم إلى الأحياء المغلقة؛ لذلك، فسوف يتعين على هؤلاء الأشخاص، في تلك الأحياء، أن يدافعوا عن أنفسهم؛ لأنَّهم إذا استنجدوا بالشرطة وطلبوا مساعدتهم، فلن تستطيع الشرطة تلبية نداء المحتاجين هناك؛ لأنَّه يمكن أن يتم إطلاق النار عليهم".

التناقض بين هذين الردين هامٌ لأسباب عدة؛ أولاً، كان لهذين الردين الموقف نفسه بشأن القضية؛ أي إنَّهما كانا أكثر تشكيكاً في حركة الاحتجاج من الشخص الذي أدلى بالبيان الأولي. وثانياً، كانا يستجيبان كلاهما للقطعة النصية نفسها بالضبط؛ بمعنى آخر، كانت بعض المتغيرات البنيوية الرئيسة في هذا الخلاف متطابقة.

ومع ذلك، ما قد تلاحظه هو أنَّ هذين الردين قد تبنَّيا أساليب محادثة مختلفة للغاية. في الواقع، قمنا باستقطاب المشاركين عبر الإنترنت لتسجيل مثل هذه الردود على "تقبلهم للآراء المتعارضة"، بناءً على مقياس طورته زميلتي "جوليا مينسون" (Julia Minson) وآخرين. النتائج التي قدموها للمثالَين أعلاه تكشف (صنفوا الاستجابة الأولى) على أنَّها واحدة من أكثر الإجابات قبولاً في مجموعة البيانات بأكملها، بينما صنفوا الثانية على أنَّها الأقل تقبلاً، وعلى الأغلب ستوافق أيضاً على أنَّ الإجابة الأولى كانت نهجاً أكثر إنتاجية، ما السبب؟

إذا نظرتَ عن كثب، فستلاحظ في الإجابة الأولى بعض السمات الأساسية للخلاف البنَّاء.

أولاً، دعونا ننتبه في الاعتراف. غالباً ما يبحث الناس عن علامات تدل على أنَّ شريكهم في المحادثة يستمع ويفهم، ويُعَدُّ بذل جهد لتعرُّف وجهة نظر الشخص الآخر طريقة سهلة كي تثبت للطرف الآخر أنَّك تستمع، من خلال قول أشياء مثل "أنا أفهم" أو "أرى وجهة نظرك".

يمكنك أيضاً استعمال أسلوب أكثر تقبلاً يعتمد على التحوط، فإن أردت إبداء رأيك، فيمكنك التخفيف من حدته بأسلوب التحوط عن طريق إضافة "ممكن" أو "أحياناً" أو "ربما"، بدلاً من التحدث بشكل قطعي. سيظهر ذلك تواضعك الفكري؛ وهذا يسهل عليك إيجاد أرضية مشتركة مع الشخص الآخر.

الميزة الثالثة هي الاتفاق. يشترك البشر في الكثير من الأشياء، ولكن يصعب ملاحظة تلك الأشياء التي نتفق عليها عندما نركز على الأمور الخلافية، وخلال الجدال، هناك دائماً شيء مشترك بينكما، ومن المفيد الإشارة لذلك بوضوح؛ إذ تضمنت الاستجابة الأولى الميزات الحوارية الثلاث.

لكن بالمقابل، لماذا يخلو الرد الثاني من سمة التقبل؟ من المفيد التفكير فيما يتعلق بأخطاء الإغفال (الأشياء التي يجب علينا قولها ولكنَّنا لا نقولها) وأخطاء الإدراج (الأشياء التي ما كان يجب قولها ولكنَّنا قلناها). لقد وقع صاحب الرد الثاني في كلا الخطأين.

لاحظ أولاً أنَّ الرد الثاني لم يستعمل أياً من مميزات التقبل التي استعملها الرد الأول، وفي الوقت ذاته، فقد تضمن مزايا غير تقبلية؛ إذ استعمل أسلوب النفي، مثل "لن"، و"لا يمكن"، وكل هذه الألفاظ كفيلة بإغلاق الحوار، كما أنَّها تبدو متناقضة. لقد استعمل هذا الشخص أيضاً لغة تفسيرية، مثل "لأنَّ"، "ولذلك"؛ ففي الخلافات، هذا النوع من الافتراضات حول العالم يمكن أن يوحي بنبرة متعالية، ويظهر نقصاً في التواضع الفكري.

إقرأ أيضاً: لماذا لا تعد آراء الآخرين هامة؟

تمتاز المحادثات بالتعقيد، وتتطلب ميزة التقبل كل تلك الخيارات الصغيرة المتراكمة على مر الوقت، ويمكن تعديل كل جملة في المحادثة تقريباً لكي تصبح أقل أو أكثر قبولاً. في الآونة الأخيرة طورنا خوارزمية تعلُّم آلي يمكنها أن تقرأ هذه المزايا من النصوص، وتقيِّم مدى ما يحمله النص من تقبل.

وجدنا أنَّ تأثيرات التقبل تنطبق على كلا الطرفين ممن يتناقشون حول احتجاجات على سلوك الشرطة، وعلى الأشخاص من كِلا الطرفين في القضايا الخلافية الأخرى أيضاً. وفي الواقع، فقد قمنا بتحليل آلاف المحادثات من كل أنواع السياقات حيث يحاول الناس أن يكونوا إنتاجيين في النقاشات.

كان أحد المجالات التي بحثنا بها التعليم عن بعد، المصمم لمساعدة الطلاب كافة من مجالات الحياة كافة ليتعلموا من بعضهم، ويشاركوا وجهات نظرهم المتعددة.

وجدنا عندها أنَّه كلما كتب الطلاب بطريقة تقبلية أكثر، تلقوا تعليقات متقبلة أكثر من الطلاب الذين يختلفون معهم، وقد رأينا آلية أخرى في فريق موزع عالمي آخر (محررو ويكيبيديا). يمتلك هؤلاء المحررون مجموعة آراء متنوعة بشكل واسع؛ وهو السبب الذي جعلهم ينجحون كمشروع جماعي، ولكن يمكن لبعض الأمور أن تخرج عن السيطرة أحياناً.

وقد وجدنا أنَّ المحررين الأكثر تقبلاً كانوا أقل عرضة للهجوم الشخصي من زملائهم المحررين. تُظهر هذه النتائج معاً أنَّ النتيجة الفورية لاختيار أن تكون متقبلاً تأتي بالأسلوب نفسه، ومع مرور الوقت، يخلق الأشخاص المستجيبون بيئة آمنة للخلافات المحترمة والتفاهم المتبادل.

لمساعدة الأشخاص الذين قد يرغبون في تعلُّم أن يكونوا أكثر تقبلاً، فقد طورتُ أنا وزملائي "وصفة التقبل" التالية بناءً على بحثنا. فكر في كيفية اتباع بعض هذه الإرشادات في المرة القادمة التي تجد فيها نفسك في خلاف:

  • الاعتراف بشكل نشط بوجهة نظر الطرف الآخر باستعمال مصطلحات مثل "أنا أفهم أن ... "، "أرى وجهة نظرك"، أو "ما أعتقد أنَّك تقوله هو ...".
  • تأكيد آراء الشخص الآخر من خلال إبراز مواضع الاتفاق، مهما كانت صغيرة أو واضحة، على سبيل المثال: قل: "أوافق على ..." أو "أنت محق بشأن ...".
  • استعمال التحوط: قل: "أعتقد أنَّه ممكن" بدلاً من "سيحدث هذا لأنَّ ..." (ملاحظة: يمكنك تخفيف حدة معتقداتك، لكن لا تتنازل عن المبادئ، تجنب كلمات مثل "فقط" أو "بسهولة").
  • دعم حججك بمصطلحات إيجابية بدلاً من سلبية، قل: "أعتقد أنَّه من المفيد الحفاظ على مسافة اجتماعية" بدلاً من "لا يجب أن تكون اجتماعياً في الوقت الحالي".
  • مشاركة تجاربك الشخصية (وخاصة التي تتضمن ضعفاً) وسيشجع هذا الاحترام المتبادل، ولكن بالمقابل، فإنَّ ذكر المبررات أو الحقائق التي تعلمتَها قد تبدو جدلية ومتعالية.

قد تعتقد أنَّ المصداقية تفرض أن توضح خلافاتك بجرأة، ولكن، من نواحٍ عديدة، إذا كنت شخصاً منفتح الذهن ومستعداً للاستماع، فقد يكون رد الفعل الجريء والصريح مضللاً وغير أصيل - وسوف يفشل في نقل تقبلك الحقيقي وتواضعك.

يتحدث الناس ليستمع الآخرون إليهم، وغالباً ما يجدون صعوبة في معرفة ما إذا كان الآخرون يستمعون. إذا لم تأخذ الوقت الكافي لإثبات أنَّك تستمع بكلماتك الخاصة، فستترك مجالاً لسوء تفسير الآخرين، ويمكن أن تنحدر محادثتك أكثر في دوامة الصراع. في بعض النواحي، يمكنك التفكير في الجدال كإغراء. على غرار تناول الأطعمة السكرية أو السهر، فإنَّ إثارة التحدث عما يدور في ذهنك أمر لحظي؛ لكنَّ التكاليف طويلة الأمد للعلاقة غير ظاهرة.

قد تعتقد أيضاً أنَّه من الصعب جداً أن تكون متقبلاً في لحظات الانفعال. قد يكون هذا صحيحاً في البداية، ولكن مثل أيَّة مهارة، ستصبح أسهل مع التدريب. يُظهر بحثنا أنَّ الأشخاص الذين يتعلمون عن التقبل قبل محادثة صعبة يبدون في النهاية أكثر تقبلاً لنظرائهم، وأكثر جدارة بالثقة، وأكثر إقناعاً أيضاً.

ربما ستجد ذلك مفيداً في حجتك التالية. ضع في حسبانك دائماً الكلمات التي تختارها في المحادثة، وما إذا كان بإمكانك إيجاد مساحة لتكون أكثر تقبلاً، حتى إذا كانت - وبالأخص إذا كانت - مخاطر الخلاف كبيرة.

المصدر




مقالات مرتبطة