كيف تتقن عملك دون أن تخسر سعادتك؟

لا بدَّ لكلِّ من دَرَس الفن أن يكون قد سمع بالرسام الهولندي "فان كوخ" (Van Gogh)، ومع ذلك فإنَّ مؤرخي الفن الأكثر تفانياً هم فقط من يعرف "لافينيا فونتانا" (Lavinia Fontana).



بالمقارنة مع أسطورة فان كوخ بوصفه فناناً مُعذباً، فإنَّ فونتانا كانت حالة استثنائية جداً، فقد كان والدها أستاذ فنون، ودرَّبها منذ الطفولة على أساسيات الرسم، وكبرت لتصبح واحدةً من أكثر رسامي لوحات الوجه نجاحاً تجارياً في عصر النهضة الإيطالية، وكانت محبوبة من نبلاء مدينة بولونيا (Bologna) وعُدَّت أول فنانة إيطالية محترفة.

كان الطلب على أعمالها كبيراً جداً، وعندما تزوجت عرض والدها أن تدفع من دخلها المستقبلي من الرسم بدلاً من المهر، وعقدت فونتانا بذلك أول اتفاقية لمشاركة الدخل في التاريخ (اتفاقية تنص على أنَّ الفرد يحصل على مبلغ مالي مقابل تقديم نسبة من أرباحه في المستقبل).

لقد عاشت لافينيا حياةً مستقرة وسعيدة، فوازنت بين حياتها بوصفها زوجة وأماً، وحياتها المهنية المتميزة، ورسمت للملوك بينما كانت تعتني بأطفالها الذين بلغ عددهم 11 طفلاً، ومع ذلك، فإنَّ قصة فونتانا نادراً ما تُذكَر في سجلات التاريخ؛ إذ يسمع الجميع بقصة فان كوخ وربما السبب هو مأساته الكبيرة وحادثة قطع أذنه بموس الحلاقة.

أسطورة الفنان المعذَّب حجة مناسبة تعطي كثيرين منا عذراً ليتجنبوا الإبداع، وطالما أنَّه وحسب مثال فان كوخ سيدفع الإنسان ضريبة إبداعه بكثير من الحزن والمعاناة؛ لذلك ليس من الغريب أن يرغب كثيرون في حياة سهلة وأكثر أماناً، فلا أحد يريد أن يصيبه ما أصاب فان كوخ؛ لذا إنَّ إيذاء الذات هو أكثر ما يثير اهتمام الرأي العام حتى لو أنَّه لا يختزل أشكال الإبداع جميعها، فلا نجد أشخاصاً كثيرين يتحدثون عن الإبداع بوصفه طريقة لتحقيق السعادة بالمثابرة على تقديم أفضل أداء، وهذا ما فعلته لافينيا فونتانا في حياتها، لقد اختارت أن تكون محترفة في مهنتها بوصفها رسامة.

الحرفية هي الأداء النوعي الذي يتحقق بفضل الإبداع والشغف والمثابرة والعناية بأدق التفاصيل؛ إنَّها المهارة التي تصقلها وتنميها وتتدرب عليها في مسيرتك المهنية كاملة.

يصف جورج ليونارد (George Leonard) في كتابه "الإتقان" (Mastery) السعي الدؤوب إلى التحسُّن المستمر وعن الطبيعة البشرية، يقول ليونارد: "لدى الإنسان استعداد طبيعي للتعلُّم، والاستمرار بالتعلُّم من المهد إلى اللحد، وهذا ما يجعل الجنس البشري مميزاً عن باقي أنواع الكائنات الحية على كوكب الأرض".

شاهد: 7 نصائح تساعد على تحقيق النجاح والترقي في العمل

سر الاتقان:

السر في الإتقان، كما يقترح ليوناردو هو أن يشعر الإنسان أنَّ هناك مكافأة سيحصل عليها من عملية التعلُّم. لا توجد طرائق مختصرة؛ فالسعي إلى أداء المهام بأقصر الطرائق يجعلك تنسى الهدف الأساسي، والأسوأ أنَّك عندما تشعر بالرضى عن المستوى الحالي في أيِّ مجال فإنَّك عملياً تراوح في مكانك دون أيِّ فرصة للتحسُّن، وقد يستمر هذا الوضع لسنوات.

الرغبة الشديدة في التحسُّن هي أساس الإتقان، وبالتكرار والاستثمار الأمثل للأدوات التي لديك ستكون قادراً على الانطلاق في مسيرة مستدامة وفعَّالة من الإبداع، وفي هذا السياق يقول ليونارد في كتابه: "أفضل طريقة لوصف قدرتك الكلية على الإبداع، هي القول إنَّها قدرة لا نهائية في كلِّ الأهداف العملية".

الخيار لك في أن تستهلك كلَّ طاقتك الإبداعية دفعةً واحدة في سعيك نحو العظمة، أو أن تستثمر طاقتك بحكمة لتستمر بالإبداع طوال حياتك؛ لذا فكِّر في أعظم اثنين من مؤلفي أغاني البوب في ستينيات القرن الماضي: "بريان ويلسون" (Brian Wilson)، و"بول ماكارتني" (Paul McCartney).

بالنسبة إلى ويلسون فإنَّ تناغم موسيقاه والتركيب المعقد لأغانيه، كان على حساب صحته النفسية التي تدهورت كثيراً وسببت له كثيراً من المعاناة؛ إنَّه يمثِّل عبقري موسيقى البوب المضطرب، وبالنسبة إلى معظمنا توجد مرحلة من الإبداع وصل إليها ويلسون؛ ومن ثَمَّ توقف عن تقديم أيِّ شيء جديد.

أمَّا بالنسبة إلى ماكارتني، وعلى الرَّغم من أنَّه فقد أمه في سن مبكِّرة إلا أنَّه نشأ سعيداً ولا يعاني هذا النموذج التقليدي من المأساة المرتبطة بكون الشخص عبقرياً، ومن ذلك زميله في فرقة البيتلز (Beatles) جون لينون (John Lennon)، وقد ترك بول الفرقة عندما وصل التوتر في الفرقة إلى درجة عالية من الخصام.

لم يثر مكارتني أيَّة مشكلات عندما ترك الفرقة، وانتقل بسلام مع عائلته إلى مزرعتهم في اسكتلندا (Scotland)، وعاد إلى كتابة الأغاني والعزف على الآلات الموسيقية، وأنتج ألبومه المنفرد "مكارتني" في عام 1970، يمثِّل مكارتني الحرفية؛ فقد كرَّس نفسه لمهنة كتابة الأغاني دون أيِّ ماضٍ مؤلم يلجأ إليه حتى يُبدع في مهنته.

استوعب مكارتني بصفته نجماً ومغني جاز سابقاً أنماط الموسيقى وأنواعها مدفوعاً بعدم الأمان والرغبة في أن يلقى الاستحسان، وقد وجَّه تنافسه الودي مع لينون إلى تفاني مدى الحياة في صياغة أغنية البوب ​​المثالية، وما يزال يقدِّم مزيداً حتى اليوم؛ ولذلك حقق مكارتني عبقرية حقيقية.

الإبداع في أيامنا هذه في متناول الجميع؛ إذ يوجد التدريب والوسائل والمجتمعات ذات الاهتمامات المشتركة كلُّها على الإنترنت، فيمكننا جميعاً أن نعيش حياةً إبداعية إذا أردنا ذلك، ولكن ما يُطرح في وسائل التواصل الاجتماعي يدفعنا لتحقيق المزيد، بالمعنى السلبي نريد جميعاً أن نبلغ مستويات قصوى ونحرق المراحل سريعاً، فلم يعد التأني والتحسُّن التدريجي يثير اهتمامنا، ولكن لا يمكننا أن ننكر أنَّه ينجح.

إقرأ أيضاً: إتقان العمل: كيف نتقن ما لا نحبه

لذلك في المرة القادمة التي تعمل فيها على جانبك الإبداعي، توقف قليلاً عن السعي إلى تحقيق الشهرة، وركِّز على الإتقان بحد ذاته، بإمكانك أداء المهام بأفضل ما يكون والاستمتاع بذلك أيضاً، وتذكَّر أنَّ العبقرية ليست عملية مؤقتة؛ بل هي إلهام نصل إليه عندما نندمج تماماً في عملنا.

إقرأ أيضاً: كيف تتعلم باستمرار لتطور نفسك وتنمي قدراتك؟

في الختام:

يقول ليونارد في كتابه الإتقان: "ربما لا نعرف كم من الوقت ستستمر حياتنا المهنية، ولأيِّ مدى يمكن أن تصل قدراتنا وإلى أن تعرف ذلك، فإنَّ المكافأة الكبيرة ليست في النتيجة؛ بل في المتعة التي نشعر بها في سعينا الدؤوب".

تذكَّر هذه المقولة في كلِّ مرة تجد نفسك فيها تسعى بطريقة محمومة من أجل النتائج، وركِّز على العملية بحدِّ ذاتها واستمتع.




مقالات مرتبطة