كن مجنوناً

هل فكرت يوماً أن تكون مجنوناً؟ إذا لم تكن قد فكرت يوماً أن تكون مجنوناً، فإنّي أدعوك اليوم لأن تكون مجنوناً! لا تستغرب، لا تعجل علي حتى أوضح لك ماذا أقصد بدعوتي تلك! ما الذي يميز المجنون عن غيره؟ أتدري ما الذي يميزه؟ إنّ الذي يميزه عن غيره أنّه يأتي بأفعال مستغربة لا يأتيها غيره من الناس! إنّه بشكل ما خرج عن النمطية والتقليدية الإنسانية، فالناس معتادة أن تسير في الطرقات، وهو لا يجب السير مثلهم إنّما يهوى الجري، ويرى في السير سلوكاً نمطياً تقليدياً مملاً! والناس معتادة أنْ تكلم بعضها البعض، وهو لا يستهويه تبادل الحديث مع الآخرين، ويحب عوضاً عن ذلك أن يكلم نفسه، فالحديث مع النفس عادة ما يكون أكثر صراحة، وجرأة، وعمقاً، بعكس الحديث مع الآخرين الذي غالباً ما يغلف بالتزلف والكذب وغير ذلك من المساوئ التي لا يرتضيها لنفسه.



والناس كذلك معتادة على كبت أحاسيسها ومشاعرها وعدم التعبير عنها وعن حدتها وهو يرى في ذلك نوعاً من أنواع القهر ليس له ما يبرره، ولذا فهو يضحك عندما يريد الضحك، يبكي عندما يريد البكاء، ويصرخ عندما يريد الصراخ وربما بتصريفه لهذه الانفعالات يكون أهدأ حالاً من كثير من الناس الذين يتظاهرون بالسكينة والهدوء. وبداخلهم براكين من الانفعالات والأحاسيس المكبوتة التي تأتي على أعصابهم ونفسياتهم حتى تدمرها، ما رأيك لو أصبحت هذا المجنون وأتيت بشيء واحد في حياتك غير نمطي وغير تقليدي، إنّني لا أريد منك لا أنْ تجري في الطرقات، ولا أنْ تُحدث نفسك ولا أنْ تطلق لأحاسيسك أو انفعالاتك العنان، كل ما أريده منك أنْ تأتي بفكرة مجنونة واحدة في حياتك مبتكرة، غير نمطية أو تقليدية، فكرة جديدة في أي مجال من مجالات الحياة.

صدقني إنّ هذا الجنون الذي أدعوك إليه جنون لذيذ، يبعث الحيوية، ويثير التحدي، ويكسر حاجز الملل، ويهتك شرنقة البلادة، وعدم الإحساس بالقيمة، إنّما يجعل الحياة متعة كلها إثارة ونشاط، فأنت دائم البحث، دائم الاكتشاف، دائم التجربة دائم الإحساس بالقيمة والتفرد! إنّني أدعوك للمرة الثانية والثالثة، بل والألف لهذا الجنون اللذيذ! أقول لك شيئاً معروفاً – ولكنه لأهميته القصوى، يحتاج إلى تأكيد وتأكيد: أتدري ما هو؟ أقول لك ما هو!

إنّ الحياة التي نحياها، والدنيا التي نعيش فيها، والمجتمعات الإنسانية التي تملأ أرجاءها لا ترتقي إلا بالأفكار المبتكرة الجديدة، إنّ الفكرة الجديدة قادرة على تغيير مجرى التاريخ برمته، الفكرة قادرة على تحويل مسار التاريخ من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومن أسفل إلى أعلى ومن أعلى إلى أسفل، الفكرة قادرة على رفعة أمة في أعلى علين كما هي قادرة على حطها في أسفل سافلين، الفكرة قادرة على تحقيق النصر – بإذن الله – كما هي قادرة على إلحاق الهزيمة.

صدقوني التغيير مرتبط بمدى القدرة على تحقيق الأفكار المبتكرة الجديدة! إنّ الحرب العالمية الثانية لم تضع أوزارها ولم تُهزم فيها أُمَمٌ، وتنتصر فيها أمم، إلا بسبق هذه الأمم الأخيرة بفكرة السلاح النووي، وتحويل هذه الفكرة إلى واقع، ركعت به عدوها! إنّ ابتكار سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه لفكرة الخندق وطرحه لها، كان له أعظم الأثر بعد تأييد الله تعالى ونصره للفئة المؤمنة المستضعفة.

كما ابتلى الإسلام وحقوق المسلمين يوم اجتمع الأحزاب يريدون استئصال شأفة الإسلام والمسلمين في المدينة، في غزوة الخندق، وابتكار الدمشقي للسائل الخارق الذي كان يحرق أبراج الصليبين المتحركة التي كانت تدك حصون المسلمين في حروبهم الظالمة علينا. كان لها أيضاً أعظم الأثر – بعد تأييد الله تعالى ونصره للأمة ولقائدها المسلم المجاهد صلاح الدين الأيوبي في كفكفة عدوانهم، وكسر شوكتهم، إنّ فكرة عباس بن فرناس وتجربته في الطيران، هي التي فتحت الطريق للأساطيل الجوية، أنْ تجوب الكون كله اليوم، حاملة الناس من مكان إلى مكان، وفي وقت معجز، ما كان ليتصور أبداً! إنّ فكرة الإنترنت لم تجعل العالم قرية صغيرة وفقط بل جمعت البشرية كلها، بكل اختلافاتها، وألوانها وتنوعاتها وثقافتها وعلومها وغير ذلك في حيز لا يتعدى ربع متر في ربع متر "حجم شاشة الكمبيوتر"، تميل أكثر من ستة مليارات نسمة في هذا الحيز الصغير جداً، إنّه شيء خرافي، وغير ذلك مما لا يعد ولا يحصى في كل ميادين الحياة!.

كل ذلك قام ويقوم على الفكرة! الفكرة المجنونة الغير نمطية والغير تقليدية! إنّ أمتنا التي يبلغ عددها ملياراً ونصف المليار نسمة والتي تُشكل ربع سكان هذه المعمورة، في حاجة إلى مائة وخمسين مليارا (مجدد) وإلى مائة وخمسين مليون فكرة (جديدة)، فهل من مُلبّي لهذا النداء، وهل من باذل للجهد في سبيل أمته، وهل من مستفرغ لطاقته الذهنية في سبيل دينه الذي هو عزته وشرفه وكرامته في الدنيا والآخرة؟ لا أشك أنّ الإجابة ستكون نعم! فالخير في وفي أمتي إلى يوم الدين، هكذا قال صلى الله عليه وسلم وصدق صلى الله عليه وسلم فيما قال. وللحديث بقيه في الأسبوع القادم إن شاء الله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

أ. عمرو خالد مجلة اليقظة بتاريخ 18 - 24 أغسطس 2004