قنابل موقوتة

 

إن القنبلة شيء ينفجر ليدمر ما حوله، وتوقيت القنبلة معناه تحديد الوقت الذي تنفجر فيه· وتستخدم هذه الحقيقة المادية في كثير من التشبيهات، فيقال مثلاً في المشكلة العويصة التي لها آثار سلبية عنيفة ومتوقعة: "إنها قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي وقت"، ونفس التشبيه يطلق على الناس، فيقال عن الشخص الذي يجر وراءه بشكل دائم مشاكل كثيرة ومعقدة: "إنه قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي وقت، ليدمر ما حوله!"، وخطورة تلك القنابل لا تخفى على أحد في ميدانها العسكري المادي، وكذلك هو حالها في المجال النفسي الاجتماعي·



إن تحوُّل شخص معين إلى قنبلة موقوتة نتيجة لعصبيته المفرطة وعدم قدرته على التحمل، وعدم رغبته في احتواء الآخرين أمر ينذر بكوارث متتابعة وعديدة، وهذا ما يشهد به الواقع، خاصة في العلاقات الزوجية! لقد أصبح الرجل قنبلة موقوتة وكذلك أصبحت المرأة، فلم يعد أحد منهما يصبر على الآخر، ولم يعد أحد منهما يتحمل الآخر، وتمرير ما يستفزه منه أو يغيظه، وأصبح كل واحد منهما يقف للآخر بالمرصاد، ويعد عليه أخطاءه، وينشب فيه مخالبه مع أول تقصير، ويبادر بإساءة الظن فيه، بدلاً من أن يلتمس له الأعذار، لقد ضاقت مساحة السماح والعفو والتغافل حتى كادت تتلاشى بين الأزواج، وحلت بدلاً منها العصبية الشديدة وجنون حب الانتقام للذات! ومن الطبيعي لبيت هذه نفسية ساكنيه أن يكون بيتاً متوتراً، قابلاً في أي وقت لأن ينهدم ويتحول إلى حطام وأنقاض·

هل أباح الإسلام الطلاق ليكون العلكة التي يلوكها فم الرجل ويقذفها في وجه زوجه إذا صدر منها ما يعكر مزاجه، كما نرى هذه الأيام، أن بيوتاً خُرِّبت، ونساء طُلِّقت، وأولاداً شُرِّدوا بسبب ملح زائد في الطعام أثار حفيظة الرجل فرمى يمين الطلاق على امرأته بسببه، أو بسبب كرة قدم كان يشاهدها الرجل في التلفاز، فلم تراعِ ذلك زوجه وغيرت القناة، أو بسبب تأخرها في إعداد الطعام للسيد المبجل، أو بسبب رد غير مناسب تفوهت به المرأة لزوجها وهي في ظروف نفسية وجسمية استثنائية، أو بسبب مشادَّة حدثت بينهما في أمر لكل منهما فيه وجهة نظر مختلفة، إن الإسلام لم يبح الطلاق لمثل هذه التفاهات ولا لأشباهها، صدرت من الرجل أو من المرأة، وإذا كان الرجل فيما ضربنا من أمثلة مخطئاً من مفرق رأسه إلى أخمص قدميه، فإن المرأة كذلك مخطئة أشد الخطأ وهي تطلب من زوجها أن يطلقها، لأنه رفض أن يلبي لها كل احتياجاتها التي لا تنتهي، أو لأنه راعى ظروف أمه على حسابها، أو لأنه وجهها إلى ما يحب أن يجده في بيته وعياله، أو لأنه حذرها مما يكره أن تأتيه.

لقد عرفت بيوتاً تبدأ المشاكل فيها كأصغر ما تكون ثم لا تلبث بفضل هذه القنابل الموقوتة- أقصد الزوجين- أن تكبر شيئاً فشيئاً يغذيها كل واحد منهما بعناده وعصبيته المفرطة، حتى تصل إلى مداها، ويطرح اختيار الانفصال والطلاق كحل لها ولهذا التصادم المستمر الذي تنتفي معه كل سَكِينَة أو مودة أو رحمة، ويحيل الحياة إلى مجموعات متفجرة من الحين إلى الآخر·

أعتقد أن حل هذه المشكلات ليس في ذاتها، بل هو في ذوات أصحابها، فلابد أن ينزع فتيل هذه القنابل الموقوتة من أساسه وأن يعاد بناء كل من الرجل والمرأة على غير ما طبعتهما به الظروف الضاغطة أو البيئات المعتلة! لابد أن يتخلى الطرفان عن عصبيتهما المفرطة ولابد أن يصبر كل واحد منهما على الآخر، ولابد أن يعيا أن أخلاق الصفح والعفو والمغفرة والتغافل مجالها داخل البيت لا خارجه، وأن البيت هو أولى بها، وأن ثواب هذه الأخلاق ينالهما، وليس معنى أنهما زوجان، أن يفرطا في ذلك· قال تعالى: "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين· الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين" (آل عمران: 133-143)·

إن كظم الغيظ والعفو ثوابهما المغفرة وجنة عرضها السماوات والأرض، وإذا كان ذلك في حق الناس عامة فهو بين الزوجين أحق وأخص!

ما المشكلة أن يخطئ طرف في حق آخر نتيجة لظروف ضاغطة يتعرض لها ويغفر الطرف الآخر له بغض النظر عن كون هذه الظروف عارضة أم مستمرة فلا مشكلة في ذلك· إن هذا السلوك لم ينتقص من الطرف الذي غفر وعفا شيئاً، بل زاده رفعة في عين صاحبه، حتى وإن لم يُقَدِّر الطرف المغفور له ذلك، فليكن هذا الخُلُق لله تعالى إيماناً بما أنزل واحتساباً لما وعد به سبحانه! وأرجو ألا يفهم من كلامي هذا أنني أدعو إلى الرضا بالمهانة والمذلة وتصغير الذات أبداً، فالذي أدعو إليه هو الاستعلاء على التفاهات، وإحسان العشرة، وعدم نسيان الفضل في التعامل، قال تعالى: "وعاشروهن بالمعروف" (النساء: 19)، وقال تعالى: "ولا تنسَوا الفضل بينكم" (البقرة: 237)، وقال تعالى: "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف" (البقرة: 228)···

إننا لا نريد الرجل الذي يبرهن على رجولته بتهديد زوجه بالطلاق أو يرمي الطلاق عليها تأديباً لها، وانتصاراً لذاته منها لأنها استفزته، لأن هذا المسلك لا علاقة له بالرجولة من قريب أو بعيد، بل هو- من وجهة نظري الشخصية - تعبير عن الضعف، وعدم تحمل المسؤولية أو عدم الثقة بالذات، مع كونه معبراً أيضاً عن ضيق أفق ومراهقة صبيانية، ولا نريد المرأة المستفِزة التي تستثير الرجل- وتقول له في كل مرة يقع بينهما اختلاف في وجهات النظر- "لو كنت راجل طلقني! لو كنت راجل طلقني!" أو تلك التي يدفعها تهورها وعنادها للإتيان بما يستوجب التطليق حقيقة، إن التمادي في الرعونة والعناد والتهور ليس دلالاً يزيد من قيمة المرأة بل إنه يحط من قيمتها ويدفع إلى نهاية مشؤومة!

لابد أن يتعلم كل طرف كيف يتعامل مع الطرف الآخر وأن يتكيف معه، وأن توجد بينهما أرضية مشتركة للتفاهم وحل المشاكل· أما تصميم كل طرف على رضوخ الآخر له تماماً مع عدم التنازل للوصول لحل وسط، فهو ليس من الحصافة في شيء! إنني أنصح كل زوجين بأن يلغيا من قاموسيهما كلمة "الطلاق" ليس لأنني معاذ الله أجترئ على حكم أقرَّه الله تعالى وأباحته الشريعة، وإنما لكون طرح هذه الكلمة كحل للمشاكل جعل الناس يجترئون عليها بشكل هستيري فحرَّفوا بذلك الكَلِم عن موضعه، وأساؤوا من حيث أرادت الشريعة أن تحسن·

إن الإسلام يزكي الروابط الإسلامية ويدفع إليها ولا يجد وسيلة ولا مسبباً يقويها إلا دَلَّ عليه وأمر به، والذي لا يفهم ذلك ويتشوق للهدم والقطع والانفصال قنبلة موقوتة لا أمان ولا سَكِينَة معها، نعوذ بالله منها ومن أثرها·آمين آمين·

 

عمرو خالد لمجلة المرأة اليوم بتاريخ 4 يونيو 2005