قضية الفقر

للفقر العديد من التعريفات تبعث من منطلقات إيديولوجية واقتصادية وثقافية, وهو بشكل عام لا يمثل ظاهرة في المجتمع بل يترجم خلل ما في تنظيم هذا المجتمع.



والفقر ليس صفة بل هو حالة يمر بها الفرد تبعا لمعايير محددة, فمثلا يعرف الفقر بمفهومه العام علي انه انخفاض مستوى المعيشة عن مستوى معين ضمن معايير اقتصادية واجتماعية. وتوضح تقارير البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي عن سلسلة من الحقائق المخيفة لانتشار الفقر وتحوله إلي ظاهرة عالمية تتواجد حتى في الدول المتقدمة, واذكر دراسة بريطانية تشير الي حوالى اربعة ملايين شخص يعيشون تحت خط الفقر في بريطانيا, بينما تذكر منظمة "اليزابيث فين كاير" ان 9،3 ملايين شاب يعيشون تحت عتبة الفقر. وقد ارتفع هذا العدد 300 الف منذ 1997، تاريخ وصول حزب العمال بزعامة توني بلير الى السلطة. ويأتي الفقر في الغالب كنتاج لعدم التوزيع المتكافئ لنتائج التطور الاقتصادي, ونتيجة لانتشار الفساد وسوء الإدارة وغياب الحوكمة والشفافيه في استغلال موارد الدول.

وتبرز قضية القضاء علي الفقر كونها قضية متشابكة متعددة الأبعاد منها البعد الاقتصادي, والبعد الإداري والبعد التعليمي والبعد الثقافي والبعد الأخلاقي وايضا البعد الإعلامي. فكما ان البعد الإداري للفقر يتصدر الأسباب كونه يرسخ جذر الفقر عبر النظم الإدارية البيروقراطية كونها بيئة خصبه للفساد المؤسسي وإهدار الموارد, ودور الفساد في نشر الفقر لا يقتصر علي هدر المال العام بل يمتد لسوء توظيف قدرات الوطن والمواطن والتهميش المنظم لفئات تجد نفسها حبيسة الفقر حتي وان أرادت الخروج منه, والبعد الاقتصادي مرتبط بسياسات النمو الاقتصادي وعدالة توزيع مكاسبه, وفي الوقت الذي نشجع ونؤازر تسريع معدلات الاستثمار وجذب الرساميل وإطلاق التصدير وخاصة بعد إثبات تواجد علاقة طرديه بين زيادة معدلات النمو الاقتصادي وتقليل مستويات الفقر, فإننا يجب ان نتيقن من مدى تأثير الإصلاحات الاقتصادية على الفقراء, وتدبير الكلفة الاجتماعية لهذه الإصلاحات وعدم تفاقم مشاكل الأسر من خلال تحقيق نمو اقتصادي متوازن ومساند للفقراء يعتمد علي بيئة مواتيه لنمو صناعه التمويل متناهي الصغر والخدمات الفنية المصاحبة لمشروعات الأسر المحتاجة, وكذلك توفير مناخ ملائم لنمو القطاع الخاص وتشجيع المبادرات الفريدة والتوظيف الذاتي ورفع إنتاجية القطاعات الأكثر كثافة في اليد العاملة. أما البعد الأخلاقي للفقر فيمثل إشكاليه تاريخية خاصة في الدول مرتفعه الدخل حينما يتواجد فقر نسبي بين طبقات المجتمع, كما هو الحال في البحرين, ويمثل البعد الأخلاقي تحدي إقناع الطبقات الأقل دخلا بأنها ليست حقا فقيرة بالمعني المطلق, وكذلك تحدي في إقناع الطبقات الميسرة في المجتمع بضرورة مساعدة الأسر الأكثر احتياجا وبالتالي يدور المجتمع في دائرة مفرغه حيث يطالب الافراد المساعدة من الدولة التي تبادر بتقديم الدعم عادة دون استهداف حقيقي لفئات محددة, مما ينتج عنه ذوبان هذا الدعم في المجتمع وعدم وصوله الي الفئات الاكثر احتياجا, والتي تستمر في المطالبة من المجتمع وخاصة الطبقات التي تمتلك الثروة بتحمل مسئوليتها والمشاركة أما بالتبرع (الحل الفردي) وأما بالضرائب (الحل الجماعي والمسؤولية المشتركة), وهنا تتصارع وجهات النظر حول مدي استحقاق هذه الفئات للمساعدة. أما البعد الثقافي للفقر وهو الأكثر تعقيدا نظرا لاعتمادها علي المفاهيم والممارسات من حيث مدي انتشار مفاهيم الإتكاليه والاستناد علي المساعدات أم علي النقيض احترام المجتمع لمفاهيم العمل والحرص علي اقتناص الفرص المتاحة حتي ولو كانت ضئيلة. والبعد التعليمي يلعب مساحة كبيرة ليس فقط في خروج الأفراد من دوائر العوز بل أيضا في تغير سلوكياتهم تجاة الفقر والعوز, ويكفي ما تذكر إحصائيات المؤسسات التنموية من أن التعليم يعزز الوضع الاجتماعي للأفراد ويتيح إمكانية امتلاك على الأصول، وما يسمح به من زيادة إمكانية التنقل في أسواق العمل واحتمالات الكسب, وتظهر هذه الإحصائيات بان كل سنة إضافية من التعليم ترفع دخل الأفراد بنسبة 10% في المتوسط. لذا فان البعد التعليمي مركزي في قدرتة علي دفع الفرد بعيدا عن مستويات والأجور المتدنية التي عادة ما تلازم تدني المستوي التعليمي.

وأخير ياتي البعد الإعلامي ليلقي بظلاله علي قضية الفقر ويتحكم في طرق معالجتها خاصة مع انتشار وسائل الاعلام وطغيان دورها في المجتمع. والإعلام كسلاح يستخدم بصورة مغايرة من أطراف المعادلة: الدولة ومنظمات المجتمع والفقراء. واستنادا الي تلازم احترام حرية التعبير عبر وسائل الإعلام مع اتساع دور المنظمات الاهليه في تنمية المجتمع, والتي باتت تلعب دورا متزايد في التنمية السياسية والاقتصادية, وخاصة برامج مكافحة الفقر. فمن ناحية أعطي الإعلام فرصة للمنظمات الاهليه خاصة السياسية في استغلال قضية الفقر كسلاح في وجه الحكومات للتنديد به كمؤشر لفشل هذه الأخيرة في حل مشاكل المجتمع, ومن ناحية ثانيه أعطي الإعلام الدولة فرص نشر الاعتقاد الخاطئ في بعض الأحيان بأنها قد نجحت في "اقتلاع" الفقر حيث تسمح وسائل الإعلام المملوكة للدولة في معظم الأحوال بتجميل المجتمع وادعاء الإنجازات, ومن ناحية ثالثه فقد سمح الإعلام للفقراء والفقر بالتواجد كقضية رأي عام حيث تمكن الإعلام الهادف المهتم بالتنمية من التركيز علي قضايا المجتمع المختلفة وعدم إغفال قضية محوريه كقضية الفقر. وقد انتقدت بشدة دراسة صدرت عن منظمة الاسكوا افتقار الإعلام العربي الرسمي إلي تقديم معالجة جيدة للفقر ومظاهره من منظور الحقوق الاقتصادية والاجتماعية, وانتقدت تركيز الإعلام علي قضايا تحتضن موضوعات جذب الاهتمام الجماهيري مثل تعديل الحد الادني للأجور وتقديم المنح للعامل وتحسين النظام التقاعدي, أما القضايا المرتبطة بالكفاح الجماعي ضد الفقر كتحسين الإنتاجية والتدريب المهني ورفع مستوي وكفاءة الأداء والمهارة فنادرا ما تحظي بالاهتمام.

واختتم بالإشارة الي هيرناندو دى سوتو الذي قدم كتابه الشهير بعنوان "هل الفقرا دائما فقراء" يبحث فيه عن مكونات رأس المال، وكيف استطاع الغرب "بإنتاج" رأس المال وكما يقول دى سوتو، فإن العقبة الكبرى امام الدول الفقيرة هى عدم قدرة كثير من الدول على إنتاج رأس المال رغم أن الأصول التى تمتلكها هذه الدول الفقيرة تفوق كثيرا وبمقدار ٤٠ مرة تقريبا جميع ما تلقته من معونات أجنبية خلال نصف القرن الماضي, وللحديث بقيه.

قضية الفقر : سياسات القضاء عليه

كما وضح استعراض أبعاد الفقر مدي تشابك وتعقد الظروف التي تشكل مفهوم الفقر, فان سياسات الدول في مكافحة الفقر تتباين تبعا لنوعيه ومستويات الفقر والظروف السياسية والاقتصادية التي تسود هذه الدول، فالفقير في بنجلاديش والنيجر ليس هو نفس الفقير في بريطانيا, فهناك دولا تكافح الفقر المدقع الذي يعرف بأنه الحالة التي لا يستطيع فيها الإنسان عبر التصرف بدخله، الوصول إلى إشباع الحاجة الغذائية المتمثلة بعدد معين من السعرات الحرارية التي تمكنه من مواصلة حياته عند حدود معينة. وهناك دولا تكافح فجوة الفقر وهي الفجوة الموجودة بين دخول الفقراء وخط الفقر أو مقدار الدخل اللازم للخروج من حالة الفقر. وتتفاقم مشكلة الفقر في العادة في المجتمعات النامية، خاصة تلك التي تعاني من تدني نموها الاقتصادي وانفجار نموها السكاني، وتتفاوت تبعاً لذلك أساليب المعالجات والمحاولات الرامية إلى الحد من هذه الظاهرة الخطيرة وتداعياتها. فهناك السياسات "التخديرية"، والتي يلجأ إليها عندما يكون للأهداف الاقتصادية في التنمية وزن يفوق وزن الأهداف الاجتماعية والإنسانية، فيتم اللجوء لمعالجة ظاهرة الفقر والتعامل مع تداعياتها وتقليص حدتها دون إيلاء العناية اللازمة للقضاء على مصادرها وتجفيف منابعها. وهناك السياسات الوقائية الذي يوازن بين الأهداف الاقتصادية والاجتماعية في السياسات التنموية عن طريق توفير النظم والهياكل والتشريعات التي توفر البيئة المناسبة لمنع ظاهرة الفقر واستشرائها. وهناك سياسات الاقتلاع الجذري لمنابع الفقر عن طريق التركيز على توفير العدالة الاجتماعية، وحسن توزيع الثروة وإعادة توزيعها، ومحاربة الفساد ومصادر الدخل غير المشروعة, حتي هذه الأخيرة لن تمنع تواجد شريحة دائمة من الفقراء ما يطلق عليه الفقر المزمن.

ونقرأ في مسودة توصيات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية عام 2004 ما يلي "ليس هناك أي بلد استطاع ان يعالج مشكلة الفقر بدون زيادة التجارة, ذلك لان التجارة تشكل عنصرا أساسيا لتحقيق النمو الاقتصادي, ولكن مسألة ما إذا كان توسع التجارة يؤدي الي الحد من الفقر تتوقف علي ما يترتب علي التجارة من اثار في نمو الانتاجية وفي طريقة تقاسم الزيادات في الدخل المرتبطة بتوسع التجارة".

والمتعمق في آليات مكافحة الفقر والعوز الاقتصادي يجد, علي غير المتوقع من البعض, أن هناك تشابك وترابط بين تقليص الفقر والتهميش وبين كل ما تحملة لنا مصطلحات العولمة وتحرير الأسواق من النمو الاقتصادي وتحسين التنافسية ومناخ الاستثمار, فنجد مثلا تطور مصطلح النمو الاقتصادي الي" نمو دائم خلاق للوظائف", وسوف نجد أن تحسين شروط معيشة الفقراء والمهمشين يمر عبر تطور مستويات الأجور وإصلاح الوظيفة العمومية ونظام توزيع المستقطعات والضرائب, وأن إصلاح ميزان المدفوعات والموازنة العامة للدولة يمر بإعادة هيكلة نظام دعم السلع وتطوير سبل استهداف هذه الفئات وبالتالي ترشيد وتسحين أداء النفقات, ونستشهد بمقوله وزير التضامن الاجتماعي المصري "إن الفقر في مصر يزيد رغم زيادة الدعم الذي يتسبب في زيادة العجز في الموازنة العامة، والسير في نفس النهج لن يعالج مشكلة الفقر، بل سيؤدي إلي زيادتها". والقائمة طويله من عوامل الربط بين تطوير الاقتصاد وتحسين أداؤه وعلاج مسألة الفقر, وليس الاقتصاد وحدة فقد قامت منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية مؤخرا بتجميع عدد من برامجها تحت عنوان "تقليل الفقر عبر الأنشطة الإنتاجية" والتي تشمل تطوير القطاع الخاص وتنمية التجمعات الصناعية, وبرنامج إعادة البناء والتأهيل بعد الأزمات, وبرنامج تحسين بيئة الأعمال وتقويه قطاعات المشروعات الصغيرة والمتوسطة. وفي عام 2005 أصدرت الأمم المتحدة تقريرا في نوفمبر 2004 تحت عنوان "إطلاق القدرات في ريادة الأعمال" والذي قام بتدشينه كوفي عنان في مبادرة من الأمم المتحدة للفت الأنظار الي دور ريادة الأعمال في محاربه الفقر.

وبشكل عام تتمركز سياسات الدول التي استطاعت مكافحة الفقر علي هيكلة اقتصادياتها وخاصة آليات توزيع الدخول عبر خطوات محدده منها: هيكلة شبكات الحماية والضمان الاجتماعي وهو مجموعة من الآليات والأنشطة المترابطة الهادفة الى تحقيق الاستقرار الاقتصادي، وتحرير الإنسان من ضغط الحاجة والعوز والحرمان، والحد من خسائره وحمايته مما يتهدده من إخطار داخلية وخارجية كالأزمات الاقتصادية المالية و الحروب و حالة الحصار الاقتصادي والكوارث الطبيعية كالمجاعات والفيضانات والأمراض الوبائية,

وتطوير آليات الأمان الاجتماعي بهدف تقليل الفقر وتقليص احتمالات التعرض له، وتحقيق أكبر قدر من المساواة وتشجيع النمو الاقتصادي ومن أبرزها تطوير برامج التعليم والتدريب ، وتكثيف الإنفاق على برامج الرعاية الصحية للفئات الخاصة، والمساعدة في البحث عن الوظائف وخلق فرص عمل مؤقتة لتشغيل العاطلين وخصوصا للعاطلين عن العمل لفترات طويلة، والاستثمار في مشاريع البنية التحتية في المناطق الفقيرة، وتشجيع برامج تمويل المشروعات الصغيرة ، وخلق الصناديق الاجتماعية لحماية المجموعات الأكثر تضررا, كذلك تشمل الهيكلة الاقتصادية زيادة كفاءة شبكة الحماية وتحقيق أقصي نسب استهداف ممكنه, وتوفير الوسائل لمتخذ القرار لتقوية محاربة الفقر عبر توفير المعلومات والمسوحات الحديثة التي تحدد مستويات العيشة والاستهلاك للاسر, ووضع خرائط جغرافية للفقر في مختلف أقاليم الدولة, وتوفير قاعدة معطيات جغرافية النفقات العمومية المحلية التي تحدد مدي استفادة الاقليم من الاموال العامة، بقصد تحسين توجيه الموارد العامة نحو المجموعات المهمشة والأكثر ضعفا.

 قضية الفقر : نحو "العدالة الاجتماعية" في البحرين

استكمالا لعرض أهم السياسات التي تتبعا الدول في مواجه الفقر في المقالة الثانية نتعرض سويا لأهم ملامح سياسة مكافحة الفقر في المملكه, فقد حققت المملكة تطوراً مشهوداً في كافة مجالات التنمية خلال العقدين الماضيين ساهم في إحرازها المراكز الأولي بين الدول العربية في تقارير التنمية البشرية, وبمستويات تنمية بشرية تناظر الدول الصناعيه. ولم تتأتي هذه التنافسية المرتفعة بالمصادفة, فالبحرين تمتلك شبكة للحـماية الاجتماعية تعتبر من أفضل وأكثر الشبكات تقدما في المنطقة العربية, وتشمل مجموعه من الخدمات التي تتكامل فيما بينها لتوفير دولة الرفاه الاجتماعي للمواطن. وتشمل شبكة الخدمات توفير العلاج المجاني عبر المراكز الصحية والمستشفيات الحكومية التابعه لوزارة الصحة, وتوفير التعليم المجاني بمختلف المراحل قبل الجامعية من قبل وزارة التربية والتعليم, وما تقدمة وزارة الإسكان من دعم وتقديم قروض الإسكان بأسعار مخفضة, إضافة الي الوحدات السكنية المدعومة حيث لا يشمل تكلفة الوحدات, كل من ثمن الأرض وتكلفة خدمات البنيه التحتيه, وكذلك تكاليف التصميم والتخطيط والإشراف والتمويل وهي عناصر تمثل نسب كبيرة من تكلفة الوحدة. وما تقدمة وزارة المالية من دعم مختلف السلع الغذائية والكهرباء والوقود, وتوفير التقاعد لموظفي القطاع العام والخاص من قبل الهيئة العامة لصندوق التقاعد والهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية, وما تقدمة وزارة العمل من برامج رائدة منها المشروع الوطني لتوظيف العاطلين عن العمل, وبرنامج تأمين البطالة عبر صندوق التأمين ضد التعطل, وبرنامج رفع أجور المواطنين العاملين في القطاع الخاص, والتدريب بمختلف مساراته عبر معهد البحرين للتدريب. والبرامج التي ينجزها مجلس التنمية الاقتصادية وأكثرها ارتباطا بتشجيع النمو الاقتصادي وزيادة كفاءة توزيع هذا النمو مثل زيادة رأس مال بنك البحرين للتنمية, وبرنامج رفع كفاءة وإنتاجية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والذي بدورة سوف يزيد تنافسية هذه المؤسسات وقدرتها زيادة فرص العمل ورفع مستوي الوظائف, وبرنامج هيكله سوق العمل وما تم إنجازه من تأسيس صندوق العمل وبرامجه لرفع قدرات وفرص توظيف العمالة الوطنية. بالإضافة الي برنامج تطوير بيئة الأعمال الذي تنفذه وزارة التجارة والصناعة, ووفقاً لـمؤشر الحرية الاقتصادية لعام ٢٠٠٧ والذي تصدره "وول ستريت جورنال" بالتعاون مع مركز "هيرتيدج فاونديشن"، فإن اقتصاد البحرين يأتي في المرتبة الثانية في دول الشرق الأوسط بعد إسرائيل والأول علي مستوي الدول العربية بمعدل ٦٨.٤٠ نقطة، وصنف المؤشر اقتصادي البلدين بأنه "حر تقريباً"، وجاء الترتيب العالمي لهما ٣٧ و٣٩ علي التوالي.

من ناحية اخري تقدم المملكة عدد من البرامج الحمائية والرعائية عبر برامج وزارة التنمية الاجتماعية والتي تشمل: المساعدات الاجتماعية للأسر المحتاجه والتي بدأت عام 1972م, ومكافأة ذوي الاحتياجات الخاصة لكل معاق, وتخفيض رسوم الكهرباء والماء الأسر المحتاجة, وتعويض الحريق للحالات التي تتعرض مساكنها للحريق من أسر ذوي الدخل المحدود, وعبر مكرمة ملكية تم تخصيص 30% من أسهم شركة عقارات السيف للأسر المحتاجة، واستفادت منها عدد (10655) أسرة وهي الاسر المسجله لدي الوزارة وقت المكرمة والتي تشمل كل الفئات من كبار السن والمعاقين والارامل والمطلقات وغيرها, بالإضافة إلي الإعفاء من الرسوم الدراسية والتدريبية لأبناء الأسر المستفيدة من نظام المساعدات الاجتماعية. ومؤخرا تم إصدار قانون الضمان الاجتماعي والذي يقضي بزيادة قيمه المساعدات وكذلك قرار وزاري بإنشاء صندوق خاص للضمان الاجتماعي لكافة الفئات التي ليس لها مصدر دخل كاف تعتمد عليه. واذا كانت كل هذه هي مجهودات الحكومة فلا يمكن إغفال ما يقدمة القطاعين الخاص والأهلي من مساعدات وبرامج ومشروعات خدمية في شتي المجالات التنموية.

من هذا الاستعراض لما هو مقدم للمواطن في المملكة يتضح تواجد قاعدة قوية من الخدمات في مجالات التعليم والعلاج والإسكان, والتأهل وتمويل مشروعاته الصغيرة, وتوفر شبكة حماية للمواطنين المهمشين والفئات الخاصة, الخ. 

إلا أن السؤال الذي يطرح دائما هو لماذا لا يشعر المواطن بان الدولة تقدم هذه الشبكة المتكاملة من الخدمات وان هناك برامج فعليه لتنفذ لتكافح الفقر؟ فعلي الرغم من ما تقدمه الدولة والجمعيات والصناديق الخيرية التي توزع مساعدات علي الأسر الفقيرة, إلا أن هذه المنظومة لم تستطيع أن تقضي علي الفقر بل ساعدت بشكل غير مباشر علي استدامته وانتقاله من جيل الي جيل, واستقرار الأسر علي قوائم وزارة التنمية والجمعيات الخيرية.

وعلي الرغم من النمو الاقتصادي المستمر الذي تشهده المملكة, فان الفجوة بين مستويات الدخول لم تغلق بل نلاحظ استمرار معدلات الفقر النسبي. وهذا ليست حالة خاصة تميز البحرين بل إنها إشكاليه الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها معظم دول العالم النامي والتي تركز علي نتائج التنمية الاقتصادية كالنمو دون تحليل مكوناته ومردودة المباشر علي فئات المجتمع, ويذكر تقرير المجلس الاقتصادي الاجتماعي بالأمم المتحدة بان "الاقتصاديات الدينامكية القادرة علي انتاج السلع والخدمات الأساسية لجميع السكان وزيادة الفرص للعمل المنتج تشكل القاعدة المادية التي يترسخ فيها التقدم الاجتماعي, وفيما لا يدل نمو الاقتصاد في حد ذاته علي التقدم الاجتماعي ولا يدل في الواقع علي حدوث تحسن في الرفاهية العامة, فانه لا يمكن, بدون هذا النمو, تحقيق تقدم في رفع مستويات المعيشة وإعفاء الملايين من الكفاح من اجل البقاء".

وهذا ما تنبهت له الدولة متمثلة في وزارة التنمية الاجتماعية, وبدأت في التعاطي مع هذا الملف بشجاعة ووضع سبل المعالجة بالتخطيط العلمي وبالاستعانة بالمؤسسات المحلية والدولية, وتم التركيز علي محورين رئيسين في هذا الملف, الذي أفضل ان نطلق عليه مصطلح "العدالة الاجتماعية" بدل من "ملف الفقر", وهما: المحور الأول والأكثر أهميه هو تحديد خط الفقر والذي يضع تحديدا لمقدار الدخل اللازم للأسرة كي تتمتع بمستوي معيشي "لائق" تبعا لمعايير الحياة في المملكة, وكي نضع حدا لفوضي التصريحات عن انتشار الفقر في البحرين, ايضا هذا لتحديد سوف يسمح للحكومة بإعادة هيكلة شبكة الأمان بالمملكة لتناسب احتياجات الأسر الأكثر عوزا, ويمكن ان يسمح لوزارة الماليه فيما بعد مثلا بتعزيز سبل استهداف الاسر الأكثر احتياجا بالدعم. أما المحور الثاني من هذا الملف فيكمن في وضع وتنفيذ الخطة الوطنيه لتنمية الاسر المحتاجة والتي تحتوي علي عدد من المبادرات منها المشروع الوطني لتنمية الأسر المنتجة بهدف النهوض بالأنشطة الاقتصادية لأفراد الأسر المحتاجة وعلي تمكينها ومساعدتها في التحول الي أسر منتجة, وتفعيل دورها في التنمية الاقتصادية. وبرامج ومبادرات مثل "مبادرة "انماء" والتي تم تدشينها هذا الشهر بهدف إخراج 100 أسرة من دائرة الفقر في خلال عامين, وفي حالة نجاح المبادرة سوف يعمم علي كافة متلقي المساعدات الاجتماعية تحت بند العوز المادي, هذا بالإضافة إلي دبء وزارة التنمية الاجراءات التنفيذية لتأسيس بنك الأسرة وهو اول بنك من نوعه في المنطقة يستهدف زيادة فرص حصول محدودي الدخل علي الخدمات التمويليه سواء لبدء نشاط تجاري صغير او لتمويل خدمات بسيطة لرفع مستوي معيشتهم.

وما يحرك اهتمام وزارة التنمية الاجتماعية في سعيها لمواجه ملف "العدالة الاجتماعية" ليس إضافة برنامج جديد إلي قائمة البرامج المقدمة او توفير تخفيض جديد لأفراد هذه الأسر المحتاجة ولكنه فلسفة تغيير جذري تعتمد مفاهيم البيئة المناسبة لتحول هذه الأسر الى الإنتاج والاستقلالية المالية, ومن خلال منهجية مزدوجة تحمي الفئات الضعيفة وتستثمر في الأفراد القادرين, انه نموذج اجتماعي جديد يواكب تغير وتطور المجتمع ويعزز التعاضد والتكافل وضمان توفير نفس فرص التنمية لجميع فئات المجتمع. وهذا التوجه لا يمكن ان يتم من خلال وزارة التنمية وحدها, فالسياسات التي تسمح بنمو مستمر وبعدالة النمو أيضا وتوزيع المكاسب الاقتصادية وتضييق الفجوة بين الطبقات سياسات متعدد الأوجه يقودها الاقتصاد ويصوب دفتها الإطار التشريعي ويضمن عدالتها الإطار الاجتماعي بمكوناته المختلفة من صحة وتعليم وتأهيل ورعاية. والتحدي يفرض علي البحرين أن تخلق نموذجها الاجتماعي الاقتصادي المتفرد الذي يحقق التوازن الصعب بين مكتسبات التنمية البشرية والتحرر الاقتصادي من جهه وفي القضاء علي مشاكل محورية كالفقر وتدني مستويات الدخول وهي قضية استراتيجية تؤثر علي أمن وسلام ووحدة المجتمع.

إن الأجواء الديمقراطية التي يعيشها المجتمع البحرين والتي نشأت نتيجة الإصلاحات وإطلاق الميثاق والتغيرات الاقتصادية والتشريعية التي نعيش نتائجها قد سمحت لهذا المجتمع الصغير نسبيا من امتلاك ديناميكية وحيوية تحسده عليها العديد من الدول متشابه الجغرافية والظروف الاقتصادية والديمغرافيه, وسمحت بان يتم مناقشة والتجادل في جميع القضايا, وإتاحة الفرصة امام الجميع للتعبير عن رأيه. ويجب دوما التذكير بان المشروع الإصلاحي والتغيرات التشريعيه والاقتصادية في المملكة قد نشأت ونمت بمبادرة وطنيه خالصة وقبل سنوات من الدعوة لإصلاحات "الشرق الأوسط الكبير". واذا كان من الطبيعي ان يطالب المواطن بكل حقوقه وبتحقيق رفاهيته وان يكون دائما في اشتياق للمزيد من المكتسبات فهناك أيضا الحق الأصيل للحكومة في وضع الأولويات وترسيخ النهج الذي يتيح لها قياده عملية التحول دون المساس بالمنجزات والمكتسبات الوطنية, وأخيرا يجب التركيز علي ان الانطلاق نحو المزيد من المكتسبات التي تستهدف دوما رفاهية المواطن يجب ان تستند الي ثوابت وأسس لا يحيد عنها والتي تبدأ بضمان الأمن والسلم الاجتماعي. هذه الحقيقة يجب ان تكون الأساس في تحاورنا وتجادلنا في قضية من اشد القضايا الاجتماعيه تعقيدا ألا وهي قضية العوز ومحدوديه الدخل وانعكاستها من تهميش اقتصادي واجتماعي.

 

 المصدر: بوابة المرأة