فلسطين القضية (المقال الأول)

حدثني بعض الأحبة عن الكتابة حول فلسطين القضية… وسألني البعض لماذا لم أكتب في الموضوع؟ وكانت الإجابة الوجيزة أن المتكلمين كثر والمطلوب عمل حقيقي في إسناد القضية وليس الكلام عنها…



ولكن هذه نصف الإجابة… ستلحظ معي أيها القاريء العزيز أنني لم أستخدم كلمة “غزة” أو “معبر رفح” أو الخلاف العربي أو موقف دولة ما، ولم أكتب حتى “القضية الفلسطينية”، ولكن كتبت “فلسطين القضية”… لأنني أرى أنه في الوعي الرسمي والشعبي ظلت فلسطين القضية تصغر مع مرور الوقت، فلم يعد يُنظر إليها باعتبارها مشروعاً غربياً وكياناً مزروعاً وظيفياً لمنع احتمال اللقاء التاريخي بين الجغرافيا العربية ومن بعدها الإسلامية في آسيا وأفريقيا، بحيث تمنع الوحدة والتعاون بين أهل هذه المنطقة، والتي هي مقدمة طبيعية لاستعادة منطقة الممرات الحيوية لدورها التاريخي من خلال سيطرة أهلها عليها.. هذا المشروع الاستراتيجي الذي ولد قضية فلسطين ومحنتها ظل يتقزم في الوعي على مر السنين، فمر بمحطة القضية العربية، ثم دول الطوق، ثم قضية فلسطين، ثم أرض 1948، ثم أرض 1967، ثم الضفة وغزة، ثم غزة، ثم معبر رفح… هكذا صغرت القضية عاماً بعد عام… تلك أولى المعضلات.

 

كذلك يتجلى للمتأمل أن الاحتلال الإسرائيلي ومن وراءه هم الواضع الرئيس للأجندة التي نتحرك على ضوئها، كمن يختار عنوان المقال لنكتب في ضوئه، ومن يحدد أسئلة الامتحان لنجيب بحماس عليها. فالمعارك تُفرض علينا، ورد الفعل هو أبرز ما في المشهد. هل يعني كل ذلك شيئاً؟ يعني الكثير.. يعني ما الذي نريده نحن؟ وكيف نعيد الاعتبار لفلسطين القضية لا قضية المعبر، وكيف نصل إلى ذلك عملياً؟ وما حجم الدور الذي نريد أن نلعبه؟ وبالتالي تعكس أجوبة هذه الأسئلة حجم التحديات التي يجب أن نخوضها.

 

عقدة الموقف

وإذا تجاوزنا سؤال الموضوع وعدنا للمشهد كما تداوله الناس في الأيام الأخيرة والمتعلق بغزة تحديداً، ما هي عقدة الموقف؟ إنه مشروع المقاومة كنقيض لمشروع المساومة.. أو هكذا بدى المشهد.. مشهد حدِّي.. فريق يريد المساومة وفريق يريد المقاومة… وفي الجهة الأخرى عدو يريد إنهاء أو تقليص أو تقزيم مشروع المقاومة ومن ورائه اصطفاف عالمي غربي رسمي داعم (بدعوى أن مشروع المقاومة عدمي لا يمتلك أية أجندة تفاوضية)، ونظام عربي منقسم على ذاته، عاجز – أو هكذا يشعر – عن مواجهة المشروع الغربي ورأس حربته إسرائيل، يعلن أن خياره الاستراتيجي الوحيد هو السلام. وقسم من الجماهير العربية يتحرك في الشارع كما حدث في كل الأزمات السابقة دون أن يكون قادراً على إحداث تحولات حقيقية لصالح ما يراه، سواء كان صواباً أو خطأ. وبما أن خيار التفاوض بلا مقاومة خيار عدمي بمعنى أن الدافع لتنازل الطرف الآخر غير موجود ..فسنطرح جانباً هذا القول مع انه الموقف الرسمي العربي الغالب لننتقل إلى الخيارات ذات المعنى (على الاقل من وجهة نظر الكاتب).

 

أمام هذا المشهد نجد أنفسنا أمام خيارين أساسيين:

الأول: المقاومة بدون أجندة تفاوضية.

الثاني: المقاومة كخيار داعم لأجندة تفاوضية واضحة المعالم.

سنجد المقاومة حاضرة في المشهدين، لكنها في الخيار الأول تعبر عن حل صفري، إما نحن وإما الآخر، ولا يلجأ إلى هذا الخيار إلا من لديه جاهزية تفوق خصمه، بحيث يعتبر سلاحه سلاح تحرير لا مشاغبة للخصم. ولا تكفي في هذا الخيار المقاومة الغزاوية، إذ يتطلب مقاومة فلسطينية وعربية وربما إسلامية وبالتالي يقتضي في المآل فتح كل الجبهات. وهو خيار  الحرب المفتوحة، ورد فعله المتوقع بحسب المعطيات الجيوبوليتيكية هو التدخل العسكري للناتو وعودة الاحتلال للمنطقة العربية والإسلامية وفقدان هوامش الاستقلال الحالية، وبالتالي لابد من حساب ذلك بدقة. وفي ضوء انكشاف المدنيين العرب والمسلمين وقابلية تدمير كل البنى التحتية في العالم العربي والإسلامي، يجب ضمان استمرار المقاومة وإلا كانت حالة عبثية.. وهكذا تستمر التساؤلات حول إمكانية تفعيل هذا الخيار في الواقع بل ومدى واقعيته عند فرز الحسابات .

 

أما الخيار الثاني فيحدد دور السلاح، باعتبار ضعف الإمكانيات والتصدي الفلسطيني المنفرد لقضية الأمة، فيستخدم السلاح كأداة للتحريك لا التحرير النهائي، ويُقبل فيه مرحلياً بوجود “نحن والآخر” ولكن بحصص متفاوتة. ويطرح هذا الخيار كذلك تساؤلات جوهرية حول سقف التفاوض المقبول، وحده الأدنى، ودور المقاومة واحتياجاتها، ونوع الخطاب الضروري لمثل هذا العمل، والأدوار والاستعدادات الضرورية لنجاح هذا المشروع. وفي الخيارين يقتضي الامر التفكير في حل لمشكلة السماء المكشوفة …اي نقطة ضعف العمل المقاوم …المستند لحرب المدن …حيث يصبح المدنيون والبنى التحتية صيدا سهلا للطائرات والدبابات كبديل عن المقاومين إذا تعذر الوصول إليهم …كما كان المشهد في حرب 1967 وفي حرب العراق وفي حرب صيف لبنان وفي الحرب الاخيرة ففي غزة والسيناريو قابل للتكرار …

 

لست هنا في معرض الترجيح بين الخيارات ولكن في معرض السؤال عن احتياجات كل منهما… وامكانية توفر هذه المستلزمات في عالم الواقع … وإلى هنا مطلوب من القاريء أن يفكر معي.. ويمد خط التوقعات إلى آخره في حالة اختيار أحد المسارين، فكلا الحلين له مبرراته، والمفاضلة هنا عمل نسبي يعتمد على القدرة والإمكانات. بدون بذل الجهد في تحديد الخيار، وإيضاح كيف يعمل على أرض الواقع في حالة تبنيه، تظل الأمة تمارس البكاء والعويل، ثم تصرخ “أنى هذا”… قل هو من عند أنفسكم.