فكر في الموضوع من هذه الزاوية

 

إن الموضوع الذي أدعو حضراتكم للتفكير فيه من زاوية مختلفة عن تلك التقليدية هو موضوع بدء الوحي علي رسول الله صلي الله عليه وسلم. فدعونا نستعرض كيفيته أولاً، ثم نخرج بعد ذلك على الزاوية التي أدعو حضراتكم إلى النظر من خلالها! روى الإمام البخاري عن السيدة عائشة تصف كيفية بدء الوحي وتقول:



 

أول ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤياً إلا  جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال له اقرأ، فقال ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ: فقلت ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم، فرجع بها رسول الله صلي الله عليه وسلم يرجف فؤاده.

فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: زملوني، زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وكان ابن عم خديجة، وكان امرؤ قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل في العبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي.

فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى فقال له ورقة: هذا الناموس (أي جبريل) الذي نزل على موسى يا ليتني جذعاً "شابا قويا" ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟ قال نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، إن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم يلبث ورقة أن توفي وفتر الوحي.

واختُلف في الزمن الذي فتر فيه الوحي فقيل ثلاث سنوات، وقيل أقل من ذلك، والراجح ما رواه البيهقي من أن المدة كانت ستة أشهر. ثم روى البخاري عن جابر بن عبد الله قال وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه: بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني زملوني فأنزل الله عز وجل: ياأيها المدثر قم فأنذر ---- إلى قوله: والرجز فاهجر. فحمي الوحي وتواتر.

حديث بدء الوحي هذا، هو الأساس الذي يترتب عليه جميع حقائق الدين بعقائده وتشريعاته، وفهمه واليقين به هما المدخل الذي لابد منه إلى اليقين بسائر ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار غيبية وأوامر تشريعية ذلك إن حقيقة "الوحي" هي الفيصل الوحيد بين الإنسان الذي يفكر من عنده ويشرع بواسطة رأيه وعقله، والإنسان الذي يبلغ عن ربه دون أن يغير أو ينقص أو يزيد.. من أجل هذا يهتم محترفوا التشكيك بالإسلام، بمعالجة موضوع الوحي في حياته صلى الله عليه وسلم، ويبذلون جهداً فكرياً شاقاً، في تكلف وتمحل، من أجل التلبيس في حقيقته والخلط بينه وبين الإلهام، وحديث النفس، بل وحتى الصرع أيضاً.

وذلك لعلمهم بأن موضوع " الوحي" هو منبع يقين المسلمين وإيمانهم بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله. فلئن أُتيح تشكيكهم في حقيقته، أمكن تكفيرهم بكل ما قد يتفرع عنه من عقائد وأحكام، وأمكنهم أن يمهدوا لفكرة أن كل ما دعا إليه محمد صلى الله عليه وسلم من المبادئ والأحكام التشريعية ليس إلا من تفكيره الذاتي.

ونحن بإذن الله لا كما يظن البعض سوف نتهرب من النقاش بل سنخوض لججه، حتى يظهر الحق أبلجاً كما هو علي حقيقته. واسمحوا لي أن نرتدي النظارة وأن نضبط الزاوية على ما جاء في الحديث رداً على كل هذه التلميحات الباطلة. أولاً لماذا ضم جبريل النبي صلى الله عليه وسلم؟ ثم لماذا لما ضمه لم يتركه حتى بلغ منه الجهد؟ ثم لماذا كرر مثل هذا الأمر بهذه الكيفية ثلاث مرات؟ ثم لماذا كان يأمره في كل مره يتركه فيها أن يقرأ والنبي أُمي، وجبريل يعلم أنه أمي؟ ثم لماذا رأى رسول الله جبريل ابتداء بعيني رأسه لأول مرة وقد كان بالإمكان أن يكون الوحي من وراء حجاب؟

ثم لماذا قذف الله في قلبه عليه الصلاة والسلام الرعب منه والحيرة في فهم حقيقته، وقد كان ظاهراً محبة الله لرسوله وحفظه له يقتضي أن يلقي السكينة في قلبه ويربط على فؤاده فلا يخاف ولا يرتعد؟ ثم لماذا انفصل الوحي عنه بعد ذلك مدة طويلة قبل أن يرجع إليه مرة أخرى إن هذه الأسئلة الطبيعية التي تستوقف الواحد منّا عند تأمله النص، والأجوبة عليها هي التي تدحض افتراءات المفترين الواحدة تلو الآخرى إن تفاجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في غار حراء بجبريل أمامه يراه بعينيه، وهو يقول له اقرأ، يرد على من قال أن ظاهرة الوحي أمراً ذاتياً داخلياً مرده إلى حديث النفس المجرد وضم جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يبلغ منه الجهد أمر مقصود ومتعمد لإرساء هذه الحقيقة وتثبيتها.

حقيقة أن الأمر هو أمر اتصال خارجي برسول الله صلي الله عليه وسلم وليس منشأه داخلياً من ذاته، وتكرار هذا الأمر بهذه الكيفية ثلاث مرات متتابعة توثيق لهذه الحقيقة وترسيخ لها. وأمره بالقراءة وهو أمي دليل آخر علي حقيقة الحدث وصدقيته، إذ أنه يأمره بما لا يعرفه ولا يحسنه، ولو كان يروج بعض المفترين أنه ادعاء لاستحال أن يكون أول الترويج للمنهج ما لا يحسنه المبلغ ولا يعرفه، وهذه هي أبجديات المنطق الإنساني وما شهدت به الأيام منذ بدء الخليقة إلى يومنا هذا.

 ثم ماذا مروّجو الإفك في الهلع الذي أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الحدث؟ وهل يعقل لإنسان يتشوف لادعاء رسالة أن يكون هذا هو حاله، إن ظاهرة الوحي هذه لم تأت منسجمة أو متممة لشيء مما قد يتصوره أو يخطر في باله، وإنما طرأت بشكل مثير على حياته وفوجئ بها دون أي توقع سابق. ولا شك أن هذا ليس شأن من يتدرج في التأمل والتفكير إلى أن تتكون في نفسه – بطريقة الكشف التدريجي المستمر – عقيدة يؤمن بالدعوة إليها! وهذه أيضاً الافتراءات التي أثيرت ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إن الحقيقة التي لابد أن يعترف بها الكل – عقلاً – أن ما حدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحي من السماء وأن هذا الوحي هو بالضبط الذي كان ينزل على غيره من أنبياء الله  ورسله عليهم السلام وهذا ما شهد به الشيخ الكبير ورقة بن نوفل عندما قال هذا الناموس (أي جبريل أو الوحي) الذي نزل علي موسى... فهذا هو المنطق العقلي المقبول أما الهداية والإيمان به صلى الله عليه وسلم وبنبوته فهذا شيء آخر، لكل أمرئ فيه وجهة هو موليها، وصلي اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

عمرو خالد لمجلة المرأة اليوم بتاريخ 17 ديسمبر 2005