فداك أبي وأمي يا رسول الله

 

إن أحدنا لا يحتمل أن ينال أحد من عرضه أو يُتهم في شرفه، وهذا أمر طبيعي مجبول عليه الأحرار من خلق الله! فرمي الناس بالتهم وتلويث سيرتهم افتراء، عمل لا يقوم به إلا من سفل طبعه وتدنت أخلاقه، ولأن هؤلاء وللأسف كثير، ولهم أبواق تصم الآذان، فقد افترى بعضهم علي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ما يستوجب ردنا عليه خصوصاً بعد نزع هؤلاء برقع الحياء عن وجوههم وصاروا يروجون لذلك في كل محافلهم وعن طريق كل وسائل الاتصال! التي أحكموا السيطرة عليها! انطلقت هذه الشائعة بين الأوربيين حتى كادت تكون بينهم يقينا! قالوا: كان لمحمد تسع نسوة يتقلب في أحضانهن ويشبع شبابه المنهوم، لا يسأم من واحدة حتي يتجدد هواه مع أخرى... وقالوا: إن ساغ ذلك لواحد من الناس فما يسوغ من داعي إلى الروحانية يصل الناس بالسماء، ويحدثهم عن الله والدار الآخرة!



 

إن هذا العشق المشبوب للمرأة له دلالة واسعة، فالرجل رجل دنيا وليس رجل دين، وما نصدق مزاعمكم معشر المسلمين عن تجرده وتقواه.. إذا كانت هذه الشائعة صحيحة فما استنتجه القوم حق! ولكن هذا الذي ذكر لون من تحريف الكلم عن مواضعه يجعله أدنى إلى الكذب... إن تاريخ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألسنة العدو والصديق يشهد بغير ما ذكر، فقد تزوج في الخامسة والعشرين من عمره بامرأة في الأربعين من عمرها (خديجة رضي الله عنها وأرضاها) وظل معها وحدها، أكرر وحدها. قريبا من ثمان وعشرين سنة حتى ماتت! فأين هذه المتع التي تصفون؟ وعندما كان في الأربعين من عمره كانت شيخه في الخامسة والخمسين وعندما كان في الثالثة والخمسين كانت تقترب من السبعين فأين الحسناوات اللاتي كان ينتقل بينهن كما تزعمون؟ وهو كما يقرر العدو قبل الصديق لا يعرف إلا الوفاء للسيدة العجوز التي قضى معها شبابه كله.

 

إن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبل زواجه بالسيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها وهو في عنفوان الشباب يعني قبل سن الخامسة والعشرين إذا كان لها عنوان فهو عنوان العفة والشرف، ومن افتري غير ذلك فعليه بالبينة! ومن ادعى بغير بينة فأولئك عند الله وعند الناس هم الكاذبون! إن الهوس الجنسي إذا كان له زمان يتملك فيه صاحبة فهو في سن المراهقة والشباب، وأتحدى أن يأتينا أحد ممن يلوكون سيرة المعصوم صلى الله عليه وسلم بالباطل بحادثة واحدة أو حتى خبر تافه يثبت أن شيئاً من هذا أصاب ذيل ثيابه صلى الله عليه وسلم!

 

إن إنساناً لم يُعرف إلا بالعفة والمروءة طيلة ثلاث وخمسين سنة متصلة من المستحيل أن يصاب بالهوس الجنسي فجأة بعد هذا العمر المديد خصوصاً أنه لم يكن ثم كبت ما يلزمه بعدم الزواج أو الزواج بامرأة واحدة، فالبيئة آنذاك تسمح بالزواج لمن كان سنه أربعة عشر عاماً، أو ربما أقل ولا ترى أى غضاضة في الجمع بين النساء ولو وصل عددهن إلى عشرة تحت عصمة الرجل الواحد! أضف إلى ذلك شرف القبيلة التي كان منها رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تجعل الارتباط بها محل حلم تسعى إليه غيرها من القبائل. هذا ما يقوله المنطق، وتشهد به السيرة ويؤكده العلم! ومع ذلك دعونا نسترسل بالتوضيح في القضية حتى تنجلي عنها كل شبهة.

 

ثم ماتت السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها عن سن يقارب السبعين، فماذا فعل رسول الله صلي الله عليه وسلم عندئذ؟! لقد سمى العام الذي ماتت فيه بعام الحزن، ومكث ما يقرب من سنتين بعدها وحيداً بغير زوجه! والسؤال الذي أسأله للقوم – ما الذي يدعو رجل مصاب بالهوس الجنسي كما تزعمون ظلما وافتراء – إلى أن يحرم نفسه من النساء طيلة سنتين بعد وفاة زوجه العجوز ولم يكن هناك أي مانع أو دافع يدعوه لذلك؟ أليس الأمر جدير بالتفكير فيه؟ ثم لما انقضت هاتان السنتان بدأت أمهات المؤمنين رضي الله عنهم وأرضاهن ينضممن إلى بيت النبوة، فمن كانت أول من انضم منهن إليه صلى الله عليه وسلم؟ كانت أم سلمه أو تدرون كم كان عمر أم سلمه آنذاك؟ كان عمرها على أقل الروايات تقديراً سبعين عاماً!! والآن أسأل ما رأي حضراتكم في هذا الهوس الجنسي المزعوم ظلماً وافتراء، الذي يدفع رجل عاش مع امرأة تكبره بخمسة عشر عاماً، ثماني وعشرين سنة حتى وصل عمرها إلى سبعين تقريباً وعمره إلى ثلاث وخمسين، ثم لما ماتت زهد في النساء سنتين، ثم لما تزوج اختار من تقاربها أو تكبرها في السن؟ أليس هوساً جنسياً عجيباً، هذا الهوس!

 

إننا وللحق أقول أمام ادعاء ليس فيه أي منطق، ادعاء يخالف الواقع ويصادم العلم! ثم ماذا؟ ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنوات العشر الأخيرة من حياته اجتمعت عنده نسوة أخريات! من هن؟ مجموعة من الأرامل المنكسرات أحاطت بهن ظروف صعبة، لم يشتهرن بجمال ولا كان لهن من السن المبكرة ما يجدد الحياة اللهم إلا بكراً واحدة - وأكرر بكراً واحدة – هي بنت صديقه أبي بكر زوجه الله إياها توثيقاً لعلاقاتهما.

 

عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أُريتك في المنام (مرتين) (أو ثلاث ليال) يجيء بك الملك في شرقة من حرير (قطعة من حرير) فقال لي: هذه امرأتك، فكشفت عن وجهك الثوب فإذا أنت هي فقلت: إن يك هذا من عند الله يمضه. [رواه البخاري ومسلم]. وتزوج بعدها حفصه بنت صديقه عمر، ولم تعرف بجمال، بل بدا أن البناء بها بعد موت زوجها كان جبر خاطر ودعم مودة وجهاد!! وتزوج أم حبيبة المهاجرة إلى الحبشة، إنه لم يرها هناك إنه يعرف إسلامها برغم أنف أبيها زعيم المشركين يومئذ، وبقاءها على الإسلام برغم أنف زوجها الضائع فهل يتركها في وحشتها وعزلتها؟ لقد أرسل يخطبها ويعز جانبها.

 

وكلما أحاطت ظروف سيئة بامرأة ذات مكانة ضمها إليه، وما كان للشهوة موضع يلحظ، وأدركت النسوة القادمات هذه الحقيقة، وعرفن أن هذا الوضع فوق طاقة الإنسان العادي، فعرض بعضهن في صراحة أن يبقي منتسبا للبيت النبوي مكتفياً بهذا الشرف، ومتنازلاً عن حظ المرأة من الرجل، فإن الرسول آواهن تلبية لنداء إنساني لا لبواعث الغريزة! أين مكان الغريزة والحالة على ما شرحنا؟ وفي استيفاء أولئك الزوجات على ما ارتضين نزلت آيات كريمة. منها قوله تعالى: [وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير...] النساء 128. ومنها قوله تعالى: [ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك، ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما أتيتهن كلهن.....].الأحزاب51. إنه لا يستطيع إلا ذلك، فإن دوافع الشهوة كانت ميتة وراء هذا التعدد الذي فرضته أزمات أحاطت ببعض المؤمنات العريقات..

وللحديث بإذن الله بقية... والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

عمرو خالد لمجلة المرأة اليوم بتاريخ 8 أكتوبر 2005