علم النفس الاجتماعي وأشهر علمائه

تبدأ حياة الإنسان طفلاً رضيعاً تحرِّكه الحاجات فقط، فهو يقضي معظم وقته نائماً وإن أحسَّ بالحاجة إلى شيء ما استيقظ لتلبيتها طالباً إياها بالبكاء، فهي طريقته الوحيدة في التعبير عما يريد، ولكنَّ نمو الإنسان لا يتوقف؛ بل إنَّه يستمر في النمو ولا يقتصر هذا النمو على الناحية الجسدية فقط؛ بل ينمو عقلياً وانفعالياً واجتماعياً، ليسلك الطفل بعدها درباً آخر في التعبير عن حاجاته، فبدلاً من أسلوب الصراخ والبكاء يصبح قادراً على التعبير عن حاجاته من خلال مجموعة من السلوكات المقبولة اجتماعياً لندخل في مرحلة جديدة من التعاطي مع المحيط، فبدلاً من انصياع الجماعة السابقة له أصبح هو منصاعاً لها ومتماهياً بشكل أو بآخر مع سلوكاتها.



فهذا التفاعل الذي يحصل بين الإنسان ومحيطه الاجتماعي والذي يبدأ من الطفولة هام جداً في تكوين شخصيته، فتراه تارةً يعدِّل من سلوكه لأنَّه مرفوض، وتارةً يتعلم سلوكاً جديداً لأنَّه محبب، وبهذا يكتسب سلوك الفرد الصفة الاجتماعية، وقد اهتم علماء النفس حقيقة بهذا التفاعل الحاصل بين الفرد ومجتمعه وما ينتج عن هذا التفاعل وما يتضمنه من عمليات نفسية وما يؤثر فيه من عوامل ترجع إلى طبيعة المجتمع وثقافته وعاداته وقيمه وحتى لغته، وهذه الدراسات بالتحديد هي محور علم النفس الاجتماعي موضوع مقالنا الذي سنتعرف من خلاله إلى هذا العلم وتاريخه وأهميته وأهم علمائه.

أولاً: ما هو علم النفس الاجتماعي؟

توجد عدة تعريفات لعلم النفس الاجتماعي وسنذكر بعضاً منها:

1. هو كما يعرفه "كرتش" و"كرتشفيلد" سنة 1948:

"العلم الذي يتناول دراسة سلوك الفرد داخل الجماعة سواء أسرة أم مدرسة أم أقران دراسة علمية منظمة".

2. أما "لامبرت" و"لامبرت" عام 1964:

فيعرِّفان علم النفس الاجتماعي بأنَّه "دراسة تجريبية لسلوك الأفراد في المواقف الاجتماعية المختلفة، ولا تقتصر هذه الدراسة على الناحية النفسية للفرد؛ بل تشمل أيضاً المحيط الاجتماعي المحيط بالفرد".

3. أما المعلمين "شريف" و"شريف" عام 1956:

فيركزان على نقطة هامة عند تعريفهما لعلم النفس الاجتماعي، فيقولان: إنَّه "دراسة لخبرة وسلوك الفرد وعلاقة هذين الأمرين معاً - أي الخبرة والسلوك - بالمواقف الاجتماعية"، ويؤكدان أنَّ الاقتصار على أحدهما كما فعل من سبقهما من العلماء فيه إهمال لجانب هام لاستجابة الفرد للمواقف الاجتماعية.

بناءً على التعريفات السابقة يمكننا القول إنَّ علم النفس الاجتماعي هو: "أحد فروع علم النفس، ويهتم هذا العلم بالدراسة المنظمة والعلمية للتفاعل الذي يحصل بين الفرد والآخرين أو ما يمثله الآخرون، ولما ينتج عن هذا التفاعل".

بناءً على هذا فإنَّ سلوك الفرد ناتج عن تأثير مجموعة من العوامل المختلفة المتفاعلة في أثناء هذا السلوك، وترتبط هذه العوامل بـ:

  1. التكوين النفسي للفرد.
  2. الحقائق "عادات وتقاليد ومعايير وقيم" الموجودة في المجال النفسي للفرد؛ أي البيئة التي يوجد فيها الفرد التي تتضمن مجموعة الحقائق والمؤثرات المدرَكة من قِبله والمؤثرة في سلوكه.

إذاً السلوك هو نتيجة التفاعل بين الفرد والآخرين أو بين الفرد وما يمثل الآخرون ودراسة هذا السلوك، وما ينتج من قيم ومبادئ ومعايير واتجاهات هو في ميدان علم النفس الاجتماعي.

شاهد: 10 خطوات لاكتساب شخصية قوية حسب علم النفس

ثانياً: أهمية علم النفس الاجتماعي

قد نتساءل عن أهمية علم النفس الاجتماعي في حياتنا أو بمعنى آخر ما هي الفائدة التطبيقية له؟ يمكننا تحديد أهمية علم النفس الاجتماعي من خلال النقاط الآتية:

1. من خلال فهمنا لمجال علم النفس الاجتماعي واهتمامه بدراسة سلوك الفرد من حيث كونه مؤثِّراً ومتأثِّراّ بمحيطه الاجتماعي:

وما ينتج عن هذا التفاعل من علاقات، فهو بذلك على فهم أوضح وأشمل لطبيعة العلاقات البشرية وسلوكات الأفراد التي ستختلف حتماً على الرغم من وجودهم في المجال الاجتماعي نفسه، فكثيراً ما ينتابنا التساؤل عن الاختلاف في سلوكات طفلين موجودين في الأسرة ذاتها وخاضعين للتربية ذاتها، فعلم النفس الاجتماعي يساعد على فهم نقطة هامة وهي أنَّ إدراك الأشخاص لما يحيط بهم إدراك مختلف وسلوكاتهم تنبع من هذا الإدراك.

2. المتخصصون بعلم النفس الاجتماعي يدركون أهمية شعور الفرد بالأمان والسعادة ضمن محيطه الاجتماعي وفي علاقاته مع الآخرين:

فلا شك أنَّ الشخص الذي يشعر بالغربة عن محيطه الاجتماعي سيعيش حياة تعيسة؛ لذلك فإنَّ دارسي علم النفس الاجتماعي يبذلون جهداً كبيراً لمساعدة الأفراد على الحصول على حياة سعيدة متمتعين بصحة نفسية وعلاقات اجتماعية سليمة.

3. يساعدنا علم النفس الاجتماعي على فهم نقطة هامة:

وهي أنَّ الحكم الذي نصدره بحق الآخرين يجب أن يتعلق بطريقة نظرهم هم للمواقف وليس حسب نظرتنا نحن، وسنذكر مثالاً يوضح ذلك، فقد نلاحظ أنَّ بعض الأطفال يتلقون طريقة تربية تبدو بالنسبة إلينا قاسية جداً، لكن إذا ما نظرنا إلى استجابات الطفل وسلوكاته وطريقة تعامله مع المواقف، لا تظهر عليه أيَّة آثار سيئة، ويعود هذا إلى طريقة إدراك الطفل لما يتعرَّض له، فهو يدرك القسوة بطريقة مختلفة عن طريقتنا نحن، فقد يكون تركيزه ليس على القسوة؛ بل على المكافأة التي سيحصل عليها إذا استجاب استجابات معينة.

4. يساعد علم النفس الاجتماعي على تحسين العلاقات الاجتماعية:

فهو يبحث أولاً في طبيعة هذه العلاقات، فإذا وجدها سليمة وعلى الرغم من ذلك غير ناجحة، انتقل إلى البحث عن السبب الكامن وراء الاستجابة الخاطئة للعلاقة الصحيحة، ومثال عن ذلك قد تتلقى في العمل معاملة لطيفة من قِبل أحد زملائك وعلى الرغم من ذلك تبقى متوجساً وخائفاً منها؛ أي إنَّك تتلقى معاملة جيدة ولكنَّك تستجيب بطريقة سيئة، ويعود ذلك مثلاً إلى خبراتك وتجاربك السابقة التي تجعل الشك مسيطراً عليك.

5. أهمية علم النفس الاجتماعي لا تقتصر على جانب واحد:

بل تتداخل مع جميع جوانب الحياة الأخرى.

ثالثاً: أشهر علماء علم النفس الاجتماعي

العديد من العلماء والمفكرين والفلاسفة كتبوا في ميدان علم النفس الاجتماعي، وفيما يأتي سنذكر أشهرهم:

1. ابن سينا:

عمل "ابن سينا" على البحث في علاقة المرض النفسي بالسلوك الاجتماعي، حتى إنَّه رأى أنَّ أساس المرض النفسي هو السلوك الاجتماعي، وتحدَّث في كثير من مؤلفاته عن الأثر الذي تتركه الجماعة في سلوك الأفراد وفي توجهاتهم تجاه أنفسهم وتجاه الآخرين، والدور الكبير الذي تؤديه الجماعة في حياة الأفراد وصحتهم الجسدية والنفسية.

2. جان جاك روسو:

ينتمي "جان جاك روسو" إلى فئة المفكرين التي عُرفت في القرن الثامن عشر الميلادي بـ "الرومانتكيين" الذين رفضوا فكرة وجود الشر بشكل فطري عند الإنسان، وظهرت هذه الأفكار بوضوح في كتابه "العقد الاجتماعي".

تحدَّث "روسو" كثيراً عن فطرة الإنسان الخيرة وكيف أنَّ المجتمع يؤثر في تغيير طبيعة البشر ليأخذها باتجاه الشر، وأنَّ الإنسان لولا تدخُّل المجتمع فيه لكان بقي على فطرته الطيبة، فالناس يولَدون متشابهين ومتقاربين بالحاجات، والتغيير يحصل بالفعل الاجتماعي، فعدم احترام المجتمع للفرد يؤدي إلى تشوه سلوكه.

3. توماس هوبز:

نادى "هوبز" في القرن السابع عشر بطبيعة البشر الشريرة وأنَّ الإنسان بفطرته يسعى وراء اللذة ويتجنب الألم، هذا ويُعَدُّ "هوبز" أكثر المفكرين الذي تحدثوا بأسوأ ما يمكن عن طبيعة الإنسان، فهو يرى أنَّ الإنسان في سعي دائم إلى السيطرة والتسلط والسلطة، وفي سبيل ذلك لا يتوقف عن تدمير غيره، وأنَّه لا يوجد أحد يستطيع فهم بنية المجتمع إن لم يقم بدايةً بفهم البنية النفسية للأفراد وطبيعتهم وشذوذهم؛ فالإنسان بنظره لديه رغبة داخلية كبيرة بالتحكم بسلوك الآخرين في المجتمع ويسعى إلى إخضاعهم والسيطرة عليهم ليحافظ هو على بقائه.

4. جبريل تارد:

قام "تارد" بالعديد من الأبحاث في محاولة الإجابة عن أحد أهم الأسئلة في علم النفس الاجتماعي، وهو السبب وراء تغيُّر سلوك الفرد عندما يكون ضمن جماعة عن سلوكه عندما يكون وحيداً، وهذا ما ينطبق على أغلب سلوكات الأفراد، فمثلاً تختلف طريقة تناول الإنسان لطعامه في حال كان وحده عن طريقته في حال كان ضمن جماعة، وقد أرجع "تارد" السبب إلى التقليد الذي يعتمده الفرد بوصفه وسيلة للتكيف مع مجتمعه.

شاهد أيضاً: 12 قانون في علم النفس إذا فهمتها ستُغيّر حياتك

5. جوستاف لوبون:

"لوبون" هو أول من طوَّر نظرية علم النفس الاجتماعي، وهي نظرية سيكولوجية الجماهير، فحواها أنَّ أفراد المجتمع يتَّحدون بصفتهم جسداً واحداً للدفاع عن بقائهم، فالخصائص السلوكية للأفراد عندما يكونون ملتحمين تختلف تماماً عن الخصائص السلوكية للأفراد عندما يكونون بمعزل عن بعضهم بعضاً، وقد درس "لوبون" هذا الاختلاف بالسلوك وقارن بينه ودرس اختلافه والعوامل المؤثرة فيه.

إقرأ أيضاً: أحلام اليقظة: تعريفها وأنواعها

6. فرويد:

أثَّرت آراء "فرويد" ونظرياته في أغلب فروع علم النفس وخاصة علم النفس الإكلينيكي، وقد كان لعلم النفس الاجتماعي حصته أيضاً في التأثر في نظريات "فرويد" وتحليلاته النفسية، خاصة من ذلك الجانب المتعلق بالتنشئة الاجتماعية وأثر خبرات الإنسان الأولى في كامل حياته وفي كل علاقاته، وقد كتب "فرويد" في سيكولوجية الجماعة وتحليل الأنا وله كتاب بهذا الشأن صدر عام 1921.

إقرأ أيضاً: النمو النفسي الاجتماعي لشخصية الإنسان: مراحل إريكسون

في الختام:

علم النفس الاجتماعي من العلوم الهامة جداً؛ وذلك لأنَّه ببساطة يحاول البحث في سلوكات الإنسان وتفسيرها، وقد عمل الكثير من الباحثين والمفكرين والعلماء على تفسير السلوك الجماعي والبحث في فطرة الإنسان للوصول إلى السبب الكامن وراء تصرفات واستجابات الأفراد للمواقف المختلفة، وهل ترجع إلى هذه الطبيعة أم إلى المجتمع والعلاقات المتبادلة فيه بين الفرد والجماعة؟ وعلى الرغم من أنَّ الآراء متضاربة ولم نستطع حتى الآن إيجاد إجابات دقيقة عن هذه الأسئلة، إلا أنَّ علم النفس الاجتماعي ساعد الإنسان على فهم سلوكاته وعلاقته بالجماعة التي ينتمي إليها.




مقالات مرتبطة