ظواهر اجتماعية سلبية

الدكتور / عبد الرزاق محمود الهيتي

 
أن عملنا هنا يركز على الظواهر الاجتماعية التي تقف بوجه حركة التنمية الشاملة والتي يسعى اليمن جاهداً في سبيل تحقيقها وتحقيق التطور والتقدم وتقليل الفجوة التي تفصله عن الدول المتقدمة واللحاق بركبها، باعتبار أن هذه الظواهر تمثل مشكلات وسلبيات تتطلب الدراسة والتحليل والتشخيص وتحديد الحلول والمعالجات،



وعملنا هنا أشبه ما يكون بعمل الطبيب الذي يركز اهتمامه على العلل ونقاط الضعف أو الخلل عند المريض بهدف معالجتها، وكذلك نفعل هنا، فقد أبقينا التركيز على المشكلة أو جوانب الاختلال والمعوقات الاجتماعية للتنمية في المجتمع اليمني لنترك البحث والدراسة حول نقاط القوة أو المقومات الاجتماعية للتنمية الشاملة(وهي كثيرة) لمقالات أخرى .أما هذه الظواهر فيمكن تقسيمها حسب مجالاتها كما يأتي :

المجال الأول ـ النمو السكاني.
المجال الثاني - الاستهلاك المظهري.
المجال الثالث - تدني النظرة للعمل اليدوي.
المجال الرابع - النظرة للمرأة.
المجال الخامس - الثأر ، المحسوبية ، الوساطة .
المجال السادس - الإيمان بالأساطير والخرافات.
المجال السابع ـ القيم الجبرية (القدرية) .


بعد أن حددنا المجالات علينا أن نقوم بتفصيل الحديث عنها في الفقرات اللاحقة، من اجل معرفة دورها في إعاقة التنمية الشاملة وما يترتب على هذا الدور من آثار ونتائج سلبية تلقي بثقلها على اقتصاد اليمن ومستقبل حركة التنمية الاقتصادية والاجتماعية في هذا البلد النامي.

1- النمو السكاني

تشير الكثير من الدراسات والبحوث( ) النظرية منها والميدانية إلى أن المجتمع اليمني لا يزال يلتزم بعض القيم والعادات الاجتماعية والتي من شأنها أن تؤدي إلى رفع معدل النمو السكاني إلى مستويات عالية مقارنة بالمجتمعات الأخرى حيـث ارتفع معدل النمو السكاني من(1.9 %) في مطلع السبعينات إلى(2.3% ) في بداية الثمانينات ثم إلى (3.3%) في منتصف الثمانينات وتزايد ليصل إلى ( 4.4% ) خلال عقد التسعينات وان حقق تراجعاً ليبلـغ (3.5 % ) في عام 2003م، وهو معدل يعد من بين أعلى المعدلات على المستوى العالمي. وتبعاً لهذه المعدلات فقد ارتفـع عدد السكان في اليمـن من حوالي ( 4.3) مليون نسمة عام 1950 م إلى ( 18.3) مليون نسمة عام 1999م وأخيرا وصل إلى ما يقرب من (20)مليون نسمة في عام 2005م. ومما لا شك فيه أن هذا المعدل العالي للنمو السكاني تأثر بمجموعة من المتغيرات الديموغرافية مثل انخفاض معدل الوفيات وزيادة معدلات العمر المتوقع للأفراد وارتفاع معدل المواليد والخصوبة، فبعد أن كان معدل المواليد الخام ( 46 ) في الألف في عام 1970 م،ارتفع إلى( 47.3) في الألف حسب تعداد عام 1975، ثم إلى( 50.5) في الألف عام 1988م. أما معدل الخصوبة الكلية فقد تزايد في فترة الخمس سنوات التي سبقت المسح اليمني لصحة الأسرة لعام 2003من( 4.5 ) مواليد لكل امرأة قادرة على الإنجاب إلى (6.7) مواليد وعاد لينخفض قليلاً ليصل إلى(6.2)مواليد.
وقد أجمعت هذه الدراسات على أن من بين أهم العوامل التي تسهم في رفع هذه المعدلات إلى مستوياتها العليا، العوامل الاجتماعية والثقافية مثل العادات والتقاليد والقيم الاجتماعية والتي تؤثر وبشكل كبير في أنماط السلوك لدى الأفراد في المجتمع اليمني، ومن هذه القيم والعادات الزواج المبكر سواء للبنين أو البنات حيث ينظر المجتمع اليمني إلى أن العفة تمثل إحدى القيم الاجتماعية الهامة وبالتالي فان أفضل وسيلة لصيانة الأبناء من الزلل أو الانحراف وارتكاب المحرمات يكون عن طريق تزويجهم بسن مبكرة من أجل تخليصهم مما يترتب على مرحلة المراهقة من مشكلات وضغط نفسي وبيولوجي كبير، وتشير الإحصائيات في المحافظات الشمالية وفقا لتعداد عام 1975م إلى أن حوالي(75.4%) من الرجال يتزوجون دون سن الخامسة والعشرين مقابل (92%) من النساء. كما تشير أرقام المسح اليمني لصحة الأسرة للعام 2003م أن متوسط العمر عند الزواج الأول للذكور(25.5)سنة فيما بلغ المتوسط عند الإناث(22.3) سنة. فضلاً عن دور انتشار الأمية بين الكثير من أبناء المجتمع اليمني(47%) حسب كتاب الإحصاء السنوي للعام 2003م) والتي تدفع إلى تخفيض معدل سن الزواج، وكما هو معلوم فأن مواصلة التعليم وبالأخص التعليم الجامعي يساعد على ارتفاع سن الزواج للأفراد(الذكور والإناث) بسبب الانشغال بالتعليم وتأجيل الزواج لما بعد إكمال التعليم الجامعي، فضلا عن انتشار بعض العادات والتقاليد الاجتماعية في مجال تعدد الزوجات والرغبة في زيادة عدد الأبناء لما يمثله حجم الأسرة والقبيلة من أهمية وقوة وهيبة في المجتمع اليمني, فضلاً عن تفضيل الأبناء الذكور على الإناث, ومحدودية قبول فكرة تنظيم النسل وترك مدة كافية بين ولادة وأخرى , وارتفاع نسبة الأمية بين النساء (بشكل أكبر مما هي الحال لدى الذكور) وما يترتب على ذلك من انعكاسات على وضع المرأة داخل الأسرة، كذلك فان طبيعة العلاقات الأسرية السائدة والقائمة على تركز السلطة بيد الذكور واثر ذلك على قدرة المرأة في صنع أو مناقشة القرارات الأسرية، كما أن توجه الآباء نحو اعتبار الأبناء بمثابة ضمان اجتماعي لهم في شيخوختهم، كل هذه العوامل وأخرى غيرها تلعب دوراً بنسبة أو بأخرى في رفع معدلات الخصوبة البشرية في المجتمع اليمني وبالتالي رفع معدلات النمو السكاني بشكل لا يتناسب والزيادة الحاصلة في مستوى دخل الفرد مما يترتب عليه آثار سلبية كثيرة وكبيرة تعيق حركة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بخاصة في بلد يعاني أصلاً من قلة الموارد والإمكانات المادية، فقد تحدث الكثير من العلماء والمتخصصين عن الأثر الكبير الذي يمكن أن يحدثه النمو السكاني المرتفع والذي لا يقابله زيادة مناسبة في الموارد والإمكانات المادية، فضلاً عما يسببه النمو السكاني المرتفع بخاصة في الريف، حيث يؤدي في الغالب إلى زيادة معدلات الهجرة من الريف إلى المدينة والتي تنعكس أثارها السلبية من خلال الضغط الكبير على الخدمات والتسهيلات المقدمة بمستويات متدنية أصلاً في المدن . ومع الاختصار الكبير في هذا المجال إلى إننا نرجو أن نكون قد بينا الأثر الواضح للقيم والعادات الاجتماعية في رفع معدلات الخصوبة البشرية وبالتالي رفع النمو السكاني إلى معدلات عالية تؤثر بدورها على عجلة التنمية والتحديث التي يسعى إليها اليمن .


2- الاستهلاك المظهري

لقد بات في حكـم المتفق عليه أن اغلـب الأنشطة الاقتصادية تتأثر بشكل أو بآخر بالتراث الاجتماعي والثقافي للمجتمعات البشرية. ومن الظواهر الاجتماعية التي باتت تأخذ حيزاً في ساحة البحث والدراسة ظاهرة الاستهلاك المظهري ومدى تأثير هذه الظاهرة على اقتصاديات المجتمعات النامية. ولو أردنا دراسة الاستهلاك المظهري في المجتمع اليمني لوجدنا إنها تتأثر وبشكل كبير بالإرث الثقافي والاجتماعي لهذا المجتمع، حيث تلعب القيم والعادات الاجتماعية والثقافية دوراً بارزاً في استفحال هذه الظاهرة وانتشار آثارها السلبية على الأفراد بشكل خاص والمجتمع بشكل عام، فقد أشارت الكثير من الدراسات والبحوث التي أجريت على الدول النامية أو تلك التي أجريت في اليمن بان هناك الكثير من القيم والعادات والتقاليد الاجتماعية تؤثر على الأنماط الاستهلاكية التي يلتزم بها الأفراد مما يدفعهم إلى مزيد من الاستهلاك المظهري الذي يقصد به : ذلك الاستهلاك الكمالي غير الضروري والذي يتبعه الأفراد لغرض التباهي والتفاخر دون أن تتحقق منه فائدة عملية مباشرة تعود عليهم. وفي هذا المجال يمكن الحديث عن عدد كبير من القيم التي تدفع الأفراد للالتزام بمثل هذا السلوك دون الالتفات إلى مسالة التوفير وما يمكن أن تلعبه في تطوير حياة الإنسان خاصة والمجتمع عامة، فالبذخ في حفلات الأعراس أو مناسبات الوفاة أو الأعياد والمناسبات الشخصية المختلفة التي لا يرجى منها سوى أن يقال عن الذي يقوم بها بأنه أقام حفلة ليس لها مثيل،وهذا ما تحدث عنه الأخ الرئيس علي عبد الله صالح في إحدى المناسبات في التلفزيون، حيث أكد على أن البذخ الذي يحصل من قبل البعض في المناسبات المختلفة يضر باقتصاد اليمن بشكل يعيق من تنميته وتطوره وتحقيق التقدم، كذلك الإسراف في شراء اللوازم الشخصية كالملابس والأحذية والعطور ومستحضرات التجميل مثلاً، والتركيز على اقتناء الذهب والمجوهرات وخزنها لاستخدامها في أوقات محدودة بغرض التزين والمباهاة أو التقليد والمحاكاة للفئات الاجتماعية المرفهة، والمبالغة في اقتناء أحدث السيارات أو أفخم الفلل أو بعض المقتنيات الشخصية كالهاتف السيار وما شابه ذلك، أو في شراء القات أو إقامة مجالس التخزين (مضغ القات) وفي مختلف المناسبات لاشك انه يؤثر على قدرة الأفراد المادية بل وحتى قدرة الاقتصاد الوطني، حيث تشير الكثير من الدراسات إلى أن ما ينفق من أموال على القات يوميا في اليمن يصل إلى عشرات بل وربما إلى مئات الملايين من الريالات،حيث يقدر البعض أن ما ينفق على القات يومياً في اليمن يصل
إلى حوالي مليار ريال يمني ناهيك عن الآثار الصحية والنفسية والاجتماعية التي تترتب على عادة مضغ القات،هذه الأموال التي يمكن توظيفها في إقامة المشاريع الاقتصادية المختلفة لتشغيل آلاف العمال الذين يبحثون عن فرصة عمل، خاصة ونحن نعلم أن معدلات البطالة في اليمن مرتفعة بشكل كبير. إن مثل هذه الأنماط الاستهلاكية والعادات والقيم الاجتماعية السلبية تؤثر وبما لا يدع مجالاً للشك على الاقتصاد اليمني الذي يعاني أصلا من الكثير من المشاكل من بينها على الأقل محدودية الموارد وتدني القدرة على الاستثمار بشكل يحقق طموحات الدولة والأفراد في النمو والتطور والتحديث .

3- تدني النظرة للعمل اليدوي

سبق الإشارة إلى أن القيم والعادات والأعراف الاجتماعية تؤثر في مختلف مجالات الحياة ، و يمكن القول أن الواقع الاجتماعي والثقافي يلعب دوراً كبيراً في اغلب الأنشطة التي يقوم بها الأفراد سواء ما كان منها اقتصادياً أو اجتماعياً أو سياسياًً. ويظهر دور وأثر منظومة القيم الاجتماعية بشكل أوضح وأبرز في المجتمعات النامية منه في المجتمعات التي قطعت شوطا كبيراً في طريق التقدم والنهوض، ويعود ذلك لعوامل متعددة من بينها المرحلة الحضارية التي تمر بها هذه المجتمعات ومستوى الوعي الاجتماعي وانتشار التعليم بين أبناء البلد.
وإذا لاحظنا المجتمعات النامية اليوم لوجدنا إن من بين القيم الاجتماعية السلبية والتي تعيق التقدم والتنمية الشاملة انتشار النظرة المتدنية واحتقار العمل اليدوي أو بعض المهن اليدوية، وفي المجتمع اليمني تحديداً نجد أن هناك بعض القيم التي تنظر إلى بعض الأعمال بعين الاحتقار وعدم الاحترام فمهنة الجزارة أو الحلاقة أو الحدادة أو زارع وبائع الكراث أو حتى مهنة (الدوشان) كل هذه المهن من الأعمال التي لا يتقبلها المجتمع وينظر إليها والى من يعمل بها بنظرة دونية وقاصرة بالرغم من كل ما يحصل عليه المجتمع من خدمات من قبل أصحاب هذه المهن. ليس هذا فحسب بل إن الكثير من الطلاب بعد إنهاء الدراسة الثانوية يفضل الالتحاق بالكليات أو المعاهد الإنسانية أو الدينية على الالتحاق بالكليات أو المعاهد المهنية بسبب تأثير مثل هذه العادات والقيم، مما يتسبب في ضغط كبير على الكليات الإنسانية المختلفة في حين أن هناك نقص في أعداد الملتحقين إلى المعاهد المهنية قياسا بقدرتها على الاستيعاب. وربما تعود جذور مثل هذه القيم والعادات إلى الرواسب البدوية والقبلية التي يحملها الأفراد في داخلهم ولم يتخلصوا منها بعد رغم كل التغييرات الاجتماعية والاقتصادية التي حدثت في المجتمع اليمني، فالمعروف لدينا إن التطور المادي يكون أسرع من التغير الاجتماعي والثقافي في المجتمع والذي يتطلب وقتا أطول وجهود اكبر. ومما لاشك فيه إن مثل هذه القيم تنعكس آثارها وبشكل واضح على سلوك الأفراد ورغباتهم وأنشطتهم، ولا يخفى تأثير ذلك على الجهود المبذولة من اجل تنمية وتطوير المجمع اليمني وما يمكن أن تشكله من عقبات في وجه التقدم والتحديث.

4- النظرة للمرأة

بالرغم من كل التطورات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي اجتاحت الكثير من المجتمعات اليوم، إلا أن حال الدول النامية أو نصيبها من هذا التطور لم يكن بالقدر المطلوب أو بالشكل الذي يلبي طموحات ورغبات المجتمعات النامية بخاصة ما يتعلق منها بالمرأة وأوضاعها وظروفها في هذه الدول، ويعود ذلك لأسباب عديدة ومختلفة منها أسباب داخلية أي خاصة بهذه الدول ومنها أسباب خارجية أي خارجة عن إرادة هذه الدول .
إن الحديث عن المرأة في اليمن يكشف كماً كبيراً من العقبات التي تقف في وجه حركة تفعيل دورها وتنشيطه في الحياة العامة أو في التنمية الاقتصادية والاجتماعية فتدني دور المرأة في المجتمع اليمني وانحساره عائد إلى تدني مركز المرأة فيه. وما تعانيه المرأة من المشكلات كبير وكثير، واغلب ذلك يعود إلى العادات والتقاليد والأعراف والقيم الاجتماعية التي تعامل المرأة معاملة تتصف بالإهمال واللامبالاة والنظرة القاصرة مما يترتب عليه الكثير من المشكلات، فالقيم الاجتماعية التي تحد من تعليم المرأة وتنويرها يجعلها تغوص في أعماق الجهل والأمية والتخلف وعدم القدرة على مواكبة التطور والتحديث، إن الأمية التي تنتشر بين النساء وبشكل كبير جداً تحد من قدرتهن على أن يكن فاعلات في حركة التنمية والتطور وهذا يعني استثناء نصف المجتمع بكل إمكانياته وقدراته والتي يمكن أن يستفيد منها اقتصاد هذا البلد ، فالمرأة المتعلمة بالتأكيد ستكون أفضل بكثير من المرأة الأمية وفي كافة المجالات سواء في تربيتها لأبنائها أو في العمل المنزلي أو العمل خارج المنزل ، لكن بعض القيم تدفع بالكثير من الأسر إلى عدم السماح لبناتهن بإكمال التعليم أو حتى عدم الحصول على التعليم الابتدائي في بعض الأحيان.
إن انتشار الأمية بين صفوف النساء إلى نسبة تصل حوالي (67.5 %)( ) بالتأكيد سيؤثر على عمل المرأة وقدرتها على شغل الوظائف المختلفة والتي يمكن أن تشغلها المرأة اليمنية أسوة بالنساء الأخريات في بلدان العالم المختلفة، فضلا عن ذلك فان بعض القيم الاجتماعية أصلا تحارب عمل المرأة سواء منها ما هو مدفوع بقيم قبلية أو بفهم خاطئ للقيم الدينية، إن تعطيل قدرات المرأة وإخراجها من معادلة التطور والتقدم والنهوض إنما يشكل عقبة أساسية في وجه التحديث والتنمية التي تعتبر الإنسان غاية ووسيلة لها في عصر لم يعد بإمكان الدول النامية عامة أو اليمن خاصة إهمال أو تعطيل نصف المجتمع حيث تشكل نسبة النساء فيه حوالي (50%)، والقدرات البشرية الهائلة التي يمكن أن يحتويها هذا النصف وما يمكن أن تحصل عليه التنمية الشاملة من دفع فيما لو استطاع اليمن أن يستغل ويفعّل هذه الطاقات الكامنة والمهملة، وهنا نرجو أن لا يفهم هذا الطرح على أنه دعوة للاختلاط بين النساء والرجال أو أن يسند للمرأة كل ما يقوم به الرجل من أعمال، ولكن يمكن القول أن المرأة يمكن أن تؤدي أعمالاً كثيرة وكبيرة دون أن تضطر للاختلاط بالرجال أو أن يؤدي هذا الاختلاط إلى الخلوة المنهي عنها شرعاً،كالتعليم أو التمريض أو بعض الأعمال في مجال الخدمات والرعاية الاجتماعية لذوي الاحتياجات الخاصة والمسنين ورياض الأطفال والكثير غيرها، خاصة ونحن نعلم أ، هناك حاجة متزايدة لمثل هذه الخدمات.

5- الثأر ، المحسوبية ، الوساطة

يعد القانون المكتوب وما يرتبط به من مؤسسات ونظم وإجراءات من أهم الوسائل المعبرة عن إرادة المجتمع، فمنذ أن كتب القانون أول مرة على يد ( اورنمو ) و( حمورابي ) في بلاد مابين النهرين ، أصبح القانون مصدراً ومرجعاً للاحتكام إليه في النزاعات والخلافات التي يمكن أن تحدث بين الأفراد والجماعات المختلفة. لقد استطاعت الكثير من المجتمعات أن تصل إلى مرحلة تحول فيها ولاء الأفراد من الولاء للقبيلة أو الجماعة إلى الولاء للدولة أو المؤسسات، لتتجاوز بذلك ما يمكن أن يحدث من مشكلات أو تضارب في المصالح بين الأفراد أو الجماعات التي تنتمي لبلد واحد. ولكن المشكلة في أن بعض المجتمعات ولأسباب وعوامل مختلفة لم تستطع أن تنجز هذا التحول ولذلك بقي فيها الولاء للقبيلة أو العائلة أو الجماعة ولم تستطع المؤسسة أو القوانين من أن تفرض نفسها في الواقع المعاش. وبسبب ذلك نجد بين الأفراد الكثير ممن يلتزمون بالقيم القبلية بالرغم من تعارض بعضها مع القانون الرسمي المكتوب.
إذا أردنا الحديث عن بعض هذه القيم القبلية في المجتمع اليمني لوجدنا إن هناك الكثير منها مثل الالتزام بالثأر والمحسوبية والوساطة. إن شيوع مثل هذه القيم بين أفراد المجتمع بالتأكيد سيؤدي إلى آثار نفسية واجتماعية وحتى اقتصادية خطيرة في المجتمع لما يترتب على مثل هذه القيم من أضرار وسلبيات تقع على الأفراد والمؤسسات والمجتمع بشكل عام، ونستطيع القول إن انتشار مثل هذه القيم سيشكل عائقا أمام مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية لما تسببه من خسائر بشرية ومادية إضافة إلى ما يمكن أن تسببه من إثارة للتشاحن والصراع والكراهية في المجتمع اليمني الأمر الذي يهدد سلامة وأمن الفرد والأسرة والمجتمع بشكل عام .
إن انتشار ظاهرة الثأر في ريف المجتمع اليمني وبشكل أخف منه في المدن إنما يؤشر حالة تستحق الاهتمام والدراسة من اجل التوصل إلى أهم أسبابها ودوافعها ووضع الحلول والمقترحات الناجعة لها والتخلص من أضرارها وانعكاساتها السلبية. كذلك الحال في ظاهرة المحسوبية والوساطة التي يبدو أنها في تزايد مستمر في المؤسسات المختلفة والتي أصبحت وكأنها عرف أو تقليد متعارف عليه داخل العديد من المؤسسات الحكومية وبغض النظر عما يترتب على هذه الظاهرة من آثار سلبية على الأفراد من جهة والمؤسسة من جهة أخرى. فمن ناحية الأفراد يتحول الحق إلى باطل والباطل إلى حق وتنسف معه كل المعايير الموضوعية التي يجب أن يلتزم بها الأفراد داخل المؤسسة وسيترتب على ذلك فشل المؤسسة في تحقيق أهدافها إضافة إلى انتشار الحقد والكراهية بين أفراد المجتمع بسبب عدم إحقاق الحق وعدم وجود معايير محددة لشغل الوظائف أو الحصول على الامتيازات والحقوق أو تأدية الواجبات المناطة بالأفراد. وهنا يجدر الإشارة إلى الدور الذي يجب أن تضطلع به الإدارة في تنفيذ خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية، إذ إنها المسئولة عن تنفيذ المشاريع المختلفة، ومتى ما كانت الإدارة تعاني من أمراض ومشاكل وظواهر سلبية كالتي تحدثنا عنها سابقاً فإنها بالتأكيد لن تكون قادرة على القيام بمهامها المحددة لها بل وأكثر من ذلك ستساهم في إفشال الخطط التنموية التي يسعى لتحقيقها البلد مما يترتب عليه أخطار وأضرار تقع آثارها على الأفراد خاصة وعلى المؤسسات والمجتمع عامة وهذا ما نلاحظه وما نلمسه في الكثير من الدوائر والحكومية، وهنا نحتكم إلى رأي عالم الاجتماع المعروف ماكس فيبر والذي بحث كثيراً في الشروط العلمية والموضوعية التي يجب أن تتصف بها المؤسسة لكي تؤدي عملها ومهامها بشكل سليم وفعال، وإذا أردنا مقارنة بين واقع مؤسساتنا في اليمن وبين ما تحدث عنه فيبر من شروط سنجد إن نسبة لا بأس بها من هذه المؤسسات ابعد ما تكون عن الموضوعية والعلمية، وبالتالي هي ابعد ما تكون عن تحقيق أهداف التنمية والتحديث بسبب ما تعانيه من أمراض ومشاكل وظواهر سلبية هدامة.

6- الإيمان بالأساطير والخرافات

تعاني الكثير من المجتمعات النامية من رواسب الماضي فيما يتعلق بالإيمان بالأساطير والخرافات وتفسر هذه المجتمعات الحوادث أو الظواهر أو المشكلات التي تقع فيها بأنها من تأثير السحر أو الحسد أو الأرواح الخفية التي أنزلت غضبها على الأحياء لأسباب تتعلق بعدم الوفاء لها أو عدم تقديم القرابين لاسترضاء هذه الأرواح، وربما لو أجريت دراسات ميدانية لهذه الظاهرة في المجتمع اليمني لوجدنا أن هناك الكثير ممن يؤمنون بهذه الخرافات، ولوجدنا إن هذه الظاهرة تنتشر بين سكان الريف أكثر من انتشارها بين سكان المدن ،وبين الأميين أكثر منها بين المتعلمين وبين النساء أكثر منها بين الرجال وبين كبار السن أكثر منها بين الشباب، وقد يعود ذلك إلى أن الوعي الاجتماعي ينتشر في المدينة بشكل اكبر من الريف وبين الرجال أكثر منه بين النساء وبين المتعلمين أكثر منه بين الأميين وبين الشباب أكثر منه بين كبار السن، وكما نعلم إن التعليم وزيادة الوعي أمر مهم في هذه المسالة ويمكن أن يحصن صاحبه من كل أشكال الوقوع في الإيمان بهذه الخرافات والأساطير، ولكن المشكلة في انتشار الأمية وعدم توفر الوعي الكافي لكثير من فئات المجتمع الأمر الذي يؤدي بهذه الفئات إلى الأيمان والتصديق بهذه الأساطير والخرافات، ولذلك نجد اغلب أفرادها يفسرون كل هذه الحوادث والظواهر والمشكلات التي تقع لهم بأنها إما نوع من الحسد أو شكل من السحر أو مس من الجن فبدلاً من اللجوء إلى الطبيب لتشخيص الأمراض التي قد تصيب أحدهم ووصف العلاج الناجح له نراه يلجأ إلى السيد أو الساحر أو المشعوذ للتخلص مما أصابه بل حتى مما قد يصيب دوابه أو ماشيته من قلة حليب أو التوقف عن التوالد وأكثر من ذلك حتى ما قد يتعرض له محصوله أو إنتاجه من ضرر أو تلف أو قلة إنتاج.
ولا يخفى ما لهذه الظاهرة من اثر عميق وكبير في نفوس الأفراد والمجتمعات وما يترتب على ذلك من نتائج وانعكاسات سلبية على الصحة العامة أو صحة الأفراد أنفسهم بسبب انتشار مثل هذه الأفكار والمعتقدات السلبية والضارة إضافة إلى ما تسببه هذه الظاهرة من خسائر مادية وبشرية تلحق بالمجتمع اليمني أو ما يمكن أن تتسبب به مثل هذه المعتقدات من عوق مؤقت أو دائمي للأفراد الذين يؤمنون بها بدلاً من الأخذ بالأسباب ومراجعة الطبيب أو المختص لمعالجة المشكلات أو تفسير الظواهر الغامضة سواء ما كانت منها طبيعية أو صحية أو غير ذلك. من هنا يمكن القول إن الإيمان بالسحر أو الأساطير والخرافات ربما يكون أحد العوامل التي تتسبب في إعاقة التنمية الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع اليمني للأسباب التي سبق الحديث عنها والتي تساهم في تدني مستوى الإنتاجية للأفراد وتدني المهارات التي يمكن أن تكون بناءة وفاعلة لولا انتشار هذه الظواهر السلبية في المجتمع اليمني، كذلك يجب أن لا ننسى إن العقل السليم في الجسم السليم وان الجسم السليم يمكن أن يكون فقط عند الأفراد الذين يهتمون بصحتهم ويأخذون بالأسباب ويتبعون الطريق العلمي في معالجة مشاكلهم الصحية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية التي قد يتعرضون لها في حياتهم ونشاطهم اليومي.

7- القيم الجبرية (القدرية )

غالباً ما نرى في المجتمع اليمني إن الكثير من الأفراد تسيطر عليهم نزعة الإيمان بالقضاء والقدر في كافة جوانب الحياة ولذلك نجدهم أكثر ميلاً نحو الأيمان بالمصير المكتوب وبان ما يحدث لهم إنما يتم بمشيئة الله لا بمشيئتهم هم، ويمكن القبول بهذا الأمر في بعض القضايا والمسائل التي لا حول ولا قوة للإنسان عليها وإنها تتم بمشيئة الله وحده أما الإنسان فهو لا يملك إلا الرضا والقناعة والقبول وان يحمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه، ولكن المشكلة تكمن في تعميم هذا الأيمان على كل الأمور حتى تصادر قيم المسؤولية الإنسانية والإرادة الحرة والاختيار والعمل على تغيير الواقع. وعندما تجادل أحدهم في هذه القيم تراه يستشهد ببعض النصوص القرآنية أو الأحاديث النبوية الشريفة ليؤكد لك بان الإنسان منزوع الإرادة ومسير في كل تفاصيل حياته حتى الدقيق منها، أما الأمثال الشعبية فان فيها الكثير مما يدعم هذا الرأي ويمكن أيضا الرجوع إلى الشعر العربي والذي هو ديوان العرب حيث نجد بين أبياته الكثير مما يدعم ويقوي هذا الرأي، إن الانتقاء والاجتزاء سواء للنصوص القرآنية أو الأحاديث النبوية الشريفة أو الشعر العربي أو حتى الأمثال الشعبية بالتأكيد سيوصلنا إلى هذه النتيجة، ولكن يجب أن لا نقع في هذا المطب الخطير، فمن ناحية أخرى نجد إن القران والأحاديث والشعر والأمثال الشعبية كل ذلك يحتوي على كم هائل من النصوص التي تؤكد على حرية الإرادة الإنسانية وقدرتها في صنع مستقبلها رغم الصعوبات وهذا ما يشير إلى أن الثقافة العربية فيها صراع بين الجبرية والحرية ويتوقف الأخذ بأحد هذين الاتجاهين على العديد من الظروف والعوامل وفي كل الأحوال يجب علينا أن نفسر هذه الاتجاهات القيمية في سياقها التاريخي والاجتماعي كي نفهمها على حقيقتها ونستوعب مدلولاتها التي قد تكون عكس ما تبدو عليه ظاهرياً كما يرى أستاذنا الجليل الدكتور حليم بركات في كتابه المجتمع العربي في القرن العشرين .
المهم في كل ذلك هو أن اغلب أفراد المجتمع اليمني وبسبب إيمانهم الكبير في القدرية والجبرية إنما يساهمون في رفع المسؤولية عن أنفسهم عما يمكن أن يحدث من تقصير أو خطأ من قبل أحدهم وذلك لأنه ليس المسئول عنه وإنما هو قدر مكتوب ولا يمكن الهروب منه، وكلنا يعلم مقدار ما تسببه مثل هذه المعتقدات من أضرار جسيمة على المجتمع بشكل عام، وما يمكن أن تسببه من خسائر اقتصادية تلحق بالجهد التنموي الذي تبذله الدولة من اجل دفع عجلة التنمية إلى أمام والنهوض بالواقع الاجتماعي والاقتصادي نحو مستقبل مشرق وزاهر.
أخيرا يجدر التنويه إلى أن هناك بعض القيم السلبية الأخرى والتي تلعب دورها في إعاقة التنمية الشاملة مثل القيم السلفية التي تدعو إلى العودة إلى تقاليد السلف الصالح والتراث والثبات والإتباع والأصولية والماضوية وتحارب التحول والإبداع والتجديد والحداثة والعصرنة، إن الالتزام الحرفي بما تدعو له هذه القيم يمكن أن يتسبب بالانغلاق على الذات ورفض كل ما هو حديث وجديد وهذا بدوره سيسهم في إعاقة حركة التنمية والتحديث التي يسعى اليمن جاهداً إليها.
وفي الختام نجد من الضروري أن ننوه إلى نقطة هامة وهي إننا حين نؤكد على تأثير هذه الظواهر السلبية ودورها في إعاقة التنمية الاجتماعية والاقتصادية فإننا لا ندعي أن دورها متساوٍ أو نغلب إحداها على الأخرى وإنما نقول إن لكل منها دوره في الفعل والتأثير ويتوقف هذا التأثير على كثير من الظروف والأحوال التي يمر بها المجتمع، والمهم في الأمر أن نوجه عناية المختصين إلى أن لهذه الظواهر السلبية دوراً معوقاً للعملية التنموية بشكل أو بآخر وانه يجب عدم إغفالها بالذات حين توضع الخطط التنموية في المجتمع اليمني .