طلقني.. طالق!

 

طلقني..! طالق! طالق.. طلقني... طالق! إنّ الذي يتأمل هذا الحوار سيغلب على ظنه أنّه حوار استعاري بين رصاصة وزناد مسدسها ويا ليته كان كذلك! إنّه للأسف الحوار الذي انتشر في حياتنا الزوجية كالنار في الهشيم فحرق كل شيء في سبيله وجعله بواراً! ما هذا الانفلات المرضي في طلب الطلاق من المرأة، وما هذه الرعونة المزرية من الرجل في هدم بيته؟!



 

إنّ المشهد المؤسف الذي نحن بصدده، يستدعينا وبقوة أنْ نستحضر، ونذكر بقيمة وخصوصية عقد الزواج في الإسلام، لعلنا نفيق وترجع إلينا عقولنا الغائبة المغيبة! إنّ الزواج في شريعتنا ليس في مقامه الأول علاقة شهوة بين ذكر وأنثى، كما أنّه ليس مرافقة أبدان في بيت واحد، إنّه في مقامه الأول سكنى وتواصل نفسي قائم على المودة والرحمة بين الرجل والمرأة وهو أيضاً ميثاق غليظ بينهما! وهما الأمران اللذان يحتاجان إلى لفت انتباه ونظر أولاً فيما يخص السكنى قال تعالى: "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون"، (الروم 21)، "تأملوا يرحمكم الله في هذه الآية الهدف وأركانه التي يقوم عليها" كما قال تعالى: "هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها". (الأعراف189)، تأملوا: ليسكن إليها" وكما قال تعالى "هن لباس لكم وأنتم لباس لهن...." البقرة 187، تأملوا يرحمكم الله ما آل إليه الحال الآن في فهم العلاقة التي بيننا وبين زوجاتنا، إنّ الرجل من المفروض أنْ يكون حضناً أميناً عامراً بالمودة والرحمة تسكن إليه المرأة، كما أنّه من المفروض أنْ تكون المرأة واحة ظليلة عامرة هي أيضاً بالمودة والرحمة يسكن إليها الرجل!

 

إنّ الزواج عندنا من المفروض أنْ يكون محضناً للحب ينمو فيه ويزدهر ومن لا يفقه ذلك منا أو يستغربه، أو يريد مراجعتي فيه فعليه بمتابعة قراءة الشواهد التي أعرضها عليه من ديننا: أخرج مسلم: في كتاب فضائل الصحابة باب فضائل خديجة أم المؤمنين - رضي الله عنها: حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه عن خديجة: "إنّي رزقت حبها"، هذه واحدة، أما الثانية فمن شواهد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوجه عائشة: فعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أريتك في المنام، يجيء بك الملك في شرفه من حرير (قطعة من أجود الحرير) فقال لي هذه امرأتك، فكشفت عن وجهك الثوب فإذا أنت هي، فقلت: إنْ يكن هذا من عند الله يمضيه، (رواه البخاري ومسلم)، ومن تلك الشواهد أيضاً ما رواه مسلم عن أنس أن جاراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فارسياً كان طيب المرق فصنعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جاء يدعوه، فقال: وهذه؟ (يقصد عائشة) فقال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، فعاد يدعوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهذه؟ فقال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، ثم عاد يدعوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهذه؟ قال: نعم في الثالثة فقاما يتدافعان – يمشي كل واحد منهما في أثر صاحبه حتى أتيا منزله، (كان هذا قبل فرض الحجاب على أمهات المؤمنين): تأملوا – يرحمكم الله مشاعر الرقة والمشاركة والمراعاة النفسية والولاء، وتطييب الخاطر والتلطف .....و.....و..... قولوا في ذلك ما شئتم!

 

إنّ هذا الحب الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة، كان معلوماً للجميع ولم يكن ينظر إليه على أنّه عيب! لِمَ؟ فعن عروة: كان المسلمون قد علموا حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة، فإذا كانت عند أحدهم هدية يريد أنْ يهديها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرها حتى إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة، بعث صاحب الهدية بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة، وفي رواية البخاري: أنّ الناس كانوا يتحروه بهداياهم يوم عائشة يبتغون بذلك مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم (رواه البخاري ومسلم) لقد كان الحب يملأ بيت النبوة، وكان حباً متبادلاً بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أزواجه، فكما كان يغمرهن - صلى الله عليه وسلم- بحبه وحنانه، كذلك كن يفعلن معه صلى الله عليه وسلم، رضي الله عنهن وأرضاهن: فعن عائشة –رضي الله عنها- قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنّي لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت عليّ غضبى قالت: فقلت من أين تعرف ذلك؟ قال عليه الصلاة والسلام: أمّا إذا كنت عنّي راضية فإنك تقولين لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى قلت: لا ورب إبراهيم، قالت: قلت أجل والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك (رواه البخاري ومسلم)، قال ابن المنيرة مُرَادها أنّها كانت تترك التسمية اللفظية ولا يترك قلبها التعلق بذاته الكريمة مودة ومحبة!

 

أرأيتم الرقة والحب اللذين كانا بينه وبين أزواجه صلى الله عليه وسلم الذي لنا فيه الأسوة الحسنة، بقول الله تعالى: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً" (الأحزاب 21) إنّ هذا هو المفروض أنْ يسود بيوتنا فهذا هو أفضل ما تقوم عليه العلاقة الزوجية وغيره هو الاستثناء العارض! ولله الأمر من قبل ومن بعد.


ننتقل الآن إلى الميثاق الغليظ ذلك المحور الثاني الذي يقوم عليه الزواج في الإسلام، قال تعالى: "وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً" (النساء:20-21)، فما هو هذا الميثاق الغليظ الذي أخذته النساء على الرجال حال الزواج، والذي شدد الله تعالى عليه في التذكرة والبيان؟! قال الطبري في تفسيره: وأولى الأقوال بتأويل ذلك، قول من قال، الميثاق المَعْنِىُّ في هذه الآية هو: ما أُخذ للمرأة على زوجها عند عقدة النكاح، من عهد على إمساكها بمعروف أو تسريحها (طلاقها) بإحسان، فأقر به الرجل، لأنّ الله جل ثناؤه أوصى بذلك الرجال في نسائهم، أرأينا، ما معنى الميثاق؟ وأدركنا كيف، أنّ الله تعالى لم يجعل الزواج علاقة عابرة خفيفة الوزن والأثر بل جعله آية من آياته وحكمه بميثاق جعله غليظاً وحذر من الإخلال والاستخفاف به!

 

والمرء الذي يستخف بهذا الميثاق الغليظ فيسيء معاملة زوجه أو يطلقها ظلماً أو عنداً أو رعونة أو سفهاً عليه أنْ يُحضر دفاعه عن نفسه أمام الله تعالى يوم القيامة، ويوم يسأله عن ظلمه ذلك لزوجه ولأبنائه، ولا يظنن ظان أنّ الإسلام بإباحته الطلاق قد أباح الظلم فيه! وإلا فليعلم – كل من لا علم له بالله أو بالإسلام، أنّ الله لا يقبل الظلم مطلقاً، وأنّه سبحانه وتعالى حرمه على نفسه، وجعله محرماً بيننا، كما أخبر تعالى عن نفسه في الحديث القدسي حيث قال: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، ألا فلا تظلموا". اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

أ. عمرو خالد مجلة المرأة بتاريخ 21 سبتمبر 2004