رجل أمة

 

إن الناس في هذه الدنيا أرقام، فهناك إنسان يساوي صفرا وهناك آخر يساوي نصفاً وهناك ثالث يساوي واحداً، ورابع يساوي اثنين، وخامس يساوي أمة. والفرق بين كل هؤلاء جميعاً هو الفرق في العمل والأثر، فهناك من لا عمل له ولا أثر، وهذا يساوي صفراً، وهناك من يعمل عملاً بسيطاً ويؤثر تأثيراً متواضعاً وهذا يساوي نصفاً أو ربعاً، وهناك من يعمل ما تعمله الجماعة الكثيفة من الناس ويمتد أثره فيمن حوله في حياته وبعد مماته وهذا يساوي أمة. وطبيعي لمثل هذا الصنف من الناس أن يكون قلة، لأنه صنف مصطفى والاصطفاء دائماً يكون للقلة من الكثرة.



 

إن واحداً من هؤلاء الرجال الأمة النجاشي ملك الحبشة الذي احتضن المسلمين الأوائل في أول هجرة لهم خارج مكة فأمنهم وزاد عنهم، ودعونا أولاً نروي قصته ثم نبين منها سر عظمته، تقول السيرة: إنّ رسول الله صلي الله عليه وسلم لما رأى ما يصيب أصحابه من البلاء وأنه لا يقدر على أن يحميهم ويمنعهم مما هم فيه، قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه. فخرج عند ذلك المسلمون إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفراراً إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام.

وكان في مقدمة المهاجرين: عثمان بن عفان وزوجته، رقية بنت رسول الله صلي الله عليه وسلم، وأبو حذيفة وزوجته، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير وعبد الرحمن بن عوف... حتى اجتمع في أرض الحبشة من أصحابه صلى الله عليه وسلم بضعة وثمانون رجلاً. فلما رأت قريش ذلك، أرسلت إلى النجاشي عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص (ولم يكن قد أسلم بعد) بهدايا مختلفة كثيرة، إليه وإلى حاشيته وبطاركته، رجاء أن يرفض قبول هؤلاء المسلمين في جواره ويسلمهم مرة أخرى إلى أعدائهم.

فلما كلما النجاشي في ذلك – وكانا قد كلما من قبله بطاركته وقدما إليهم ما جاءوا به من الهدايا – رفض النجاشي أن يسلم أحداً من المسلمين إليهما حتى يكلمهم في شأن دينهم الجديد هذا. فجيء بهم إليه، ورسولا قريش عنده، فقال لهم: ما هذا الدين الذي فارقتم به قومكم ولم تدخلوا به في دين أحد من الملل؟ فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، فقال: أيها الملك: كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منّا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنّا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم، ونهانا عن الفواحش فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان.. فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نُظلم عندك.

فسأله النجاشي أن يتلو عليه شيئاً مما جاءهم به الرسول صلي الله عليه وسلم من عند الله. فقرأ عليه جعفر جزءاً من سورة مريم. فبكى النجاشي حتى اخضلّت لحيته، ثم قال لهم: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة. ثم التفت إلى رسولي قريش قائلاً: انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون. ثم إنهماعادا فقالا للنجاشي: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون. فأرسل إليهم، في ذلك، فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم: يقول: هو عبد الله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فضرب النجاشي بيده الأرض فأخذ منها عودا. ثم قال: والله ماعدا عيسى بن مريم مما قلت هذا العود. ثم رد إليهما هداياهما، وزاد استمساكه بالمسلمين الذين استجاروا به: وعاد الرسل إلى قريش خائبين.

إن هذا الرجل كان أمة لأنه رغم أنه كان ملكاًعادلاً؛ ونحن جميعاً ندرك فتنة الملك وما يستدعيه السلطان من ظلم للناس وبطش بهم وقسوة عليهم.. إنها فتنة لا ينجو منها إلا أصحاب الملكات النفسية العالية جداً جداً.. هؤلاء الذين لا تلين لهم قناة ولا تقهرهم الضغوط ولا الظروف. لقد كان عادلاً عدلاً صرفاً لا عنصرية فيه، فهو يعدل مع الغريب كما يعدل مع القريب، يعدل مع أهل الحبشة كما يعدل مع من تستضيفهم الحبشة سواء بسواء، إنه الملك الذي لا يُظلم عنده أحد، أي أحد! إن أمثال هؤلاء هم الذين يصيغون المكان الذي يحيون فيه ويمارسون فيه دورهم التاريخي، فأمثال هؤلاء هم الذين يجعلون الأرض التي يحيون فيها أرض صدق، وخير وأمان وطمأنينة، وغيابهم هو الذي يحول نفس هذه الأرض إلى أرض كفر وبوار.

لقد صمد النجاشي أمام الإغراء المادي المتمثل في الرشوة التي حاول القرشيون أن يرشوه بها حتى يسلمهم المسلمين، وصمد أمام ضغط البطاركة المتعصبين الذين يسيطرون على السلطة الدينية والذين أفزعهم قدوم أتباع الدين الجديد، فما فتئوا يؤججونه ويحرضونه ضدهم السنين الطوال خوفاً على نفوذهم ومصالحهم وسلطتهم. لقد كان أمة بحكمته واتزانه وإنصافه الذي أملى عليه أن يسمع للقادمين، وأن يتعرف على وجهة نظرهم وعقيدتهم.

إن النجاشي من وجهة نظري الشخصية يمثل الضمير الإنساني في أنقى وأطهر صوره، ذلك الضمير الإنساني الذي يعشق الحق ويتبعه دون النظر إلى مصدره، الضمير الإنساني الذي يدفع مثله إلى البكاء حتى تخضل لحيته عندما يسمع بعض آيات سورة مريم، والتي تلاها عليه جعفر رضي الله عنه وأرضاه لعلمه وإحساسه بالحق والصدق يشيع منها.

لقد كان رجل أمة وهو يعتنق الحق في حقيقة عيسى بن مريم رسول الله ويجهر به أمام بطاركته، لقد كان رجل أمة في ثباته على تلك القيم التي يعتقدها طيلة السنين الطوال، لا يزحزحه عنها شيء، لقد كان رجل أمة وهو مسلم وكان رجل أمة وهو يموت على الإسلام. فسلام الله عليه وجزاه الله عنّا وعن الإسلام خيراً. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

عمرو خالد لمجلة المرأة اليوم بتاريخ 10 ديسمبر 2005