حواري مع المدير

 

لدى مقابلة مع المدير، لا بد أن أستعد له تمام الاستعداد، علي أن أعرف كيف أتكلم بل قبل ذلك طريقة وقوفي وجلوسي في مكتبه، نبرات صوتي، هندامـي، الكلمات التي أبدأ بهـا، وقد أخبرني صديقي بأن هناك دورات خاصة في إكساب مهارات التواصل مع الآخرين وكيفية إدارة الحـوار، بل إن هذا صار علماً يدرس وتعقد له الدورات والورش، والكثير من الناس أصبح يهتم بهذه المهارات وذلك حتى يتمكن من التأثير على الآخرين ويكون سلوكه كما يقولون مطابقاً للاتيكيت ولا يخرج عن قواعد البروتوكول، بحيث يعرف متى يبدأ بالكلام ومتى وكيف ينصت ومتى يقاطع وأين يوجه بصره أثناء الكلام، وحركة يديه وجسمه مع محدثـه، وهذا كله جميل وطيب ولا غبار عليـه.. ولكن! كل هذه المهارات قد نستخدمها لفترة محدده من الزمن ومع أناس محددين قد نكسب رضاهم بكل هذه المهارات أو لا نكسب، وقد تترجم من الآخر أنه النفاق بعينه وأقول بأن هناك من هو أحق لنتعلم كل هذه المهارات من أجله إنه ابني وفلذة كبدي، إنه ذلك الجزء المهم مني حيث أن سعادتي وراحتي مرتبطة ارتباطاً كاملاً به فلا تنفك سعادتي عن سعادته وسيبقى التواصل بيني وبينه ليس في هذه الحياة فحسب وإنما بعد الحياة أيضاً حيث سنتواصل بالهدايا التي يزفها لي وأنا في قبــري، إذن فمن باب أولى أن نتعلم فنـون الحـوار مع الأبنـاء في جميع مراحلهم العمرية، وأن أقرأ عن خصائص هذه الأعمار حتى أفهم كيف أتواصل معهـا، والرسول – صلى الله عليه وسلم – يقول: خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلـي، وحتى في تراثنا الجميل هناك المثل الشعبي القائل (اللي ما فيه خير لأهله ما فيه خير للغريب).



 

نعم هذه الخيرية التي دلنا عليها النبي صلى الله عليه وسلم هى موجوده في الدائرة الأولى، وللأسف نرى بعض الآباء يهتمون بعلاقاتهم الحميمة خارج البيت ويرممون أي علاقة يشوبها الفتور فيبادر بالهدية وبالاتصال وبالاعتذار، ولكن إذا أحس بهذا الفتور داخل بيته فلا تجده إلا كالنعامة يدفن رأسه في الأرض ظناً بأن الآخر لا يراه وليست لديه أحاسيس ومشاعـر.

   

القرآن الكريم مليء بنماذج كثيرة جداً في الحوار، وهذا مؤشر ودليل على أنه يجب علينا أن نتحاور حتى مع الأعداء والمخالفين، فالله عز وجل وهو الغني عن خلقه حاور الملائكة وحاور إبليس وحاور المشركين والملحدين، ونحن نطرح هذا السؤال: لماذا لا نتحاور مع أبناءنا؟ فلعل البعض يقول: أنا شخصياً أتحاور مع ابنائي.. وقد طرحت هذا السؤال على أحد المستمعين بإذاعة قطر، هل تحاور ابنـك؟ فقال: نعم، فقلت له: هب أنه خالفك في وجهة نظرك واتضح لك بأن وجهة نظره صائبة أو منطقية هل توافقه وتتخلى عن رأيك؟ فوجئت بالإجابة عندما قال أتحاور معه ولكن في النهاية يجب أن يصل الأمر إلى ما أريده أنا، فقلت له: هذه هى الديمقراطية العربية!! وهى ديمقراطية في الحوار ودكتاتورية في اتخاذ القـرار!! نطبقها مع الأسف الشديد مع أعز ما نملك في هذه الحياة وهم أبناؤنـا، مع أنك كان يفترض أن تفرح وتسعد عندما يصل ابنك إلى درجة من الوعي والثقافة ويتحاور معك ويصل هو إلى نتيجة منطقية كان يفترض أن تقول: نعم يا بني رأيك أصوب من رأيي، أتدري هنا ما هى القيمة وما هى الدافعية وما هى الثقة التي أعطيتها لابنك بهذا الموقف التربوي الرائع، إن تعريف الحـوار بكل بساطة هو الرجوع عن الشيء وإلى الشيء، وأثناء الحوار تسمع كلمات جميلة، نعم يا أخي، اسمعك يا حبيبي، استأذنك بالمقاطعة، آسف على المقاطعـة، مثل هذه الكلمات ترقى بالحوار، وعلينا أن نفرق بين الحوار الهادف الهادىء وبين المجادلـة التي تعلو فيها الأصوات وتكثر فيها المقاطعات وكل واحد منا لا يسمع إلا رأيه هو فقـط.

 

 ومن هنا نسمع الشكوى من بعض الآباء أن ابني لا يعيرني أي اهتمام، حيث أنني أنصح وأقول ولكن لا أجد أي صدى لما أقوله.. هلا سألت نفسك أيها الأب سؤالاً: لماذا ومن السبب؟ إنني أكاد أجزم بأن أغلب المشاكل تنمو وتكبر في أسرة لا يوجد فيها باب الحوار مفتوحاً، إننا نحتاج أن نتعلم فن الإنصات بقدر ما نحتاج لفن الحوار كما قال أحد الحكماء لابنه وهو يوصيه: (يا بني تعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الحديث، وليعلم الناس أنك أحرص على أن تسمع منك على أن تقـول)، نحن معه في هذه الوصية الجميلة ولكني أريد أن أوضح ليس الصمت كله أفضل من الكلام كله، ولا الكلام كله أفضل من السكوت كله.

 

وقبل أن أختم أود أن أقودك إلى حديث المربي الأول محمد صلى الله عليه وسـلم، كيف استخدم الحوار في إنقاذه لشاب جاء يستأذنه بكبيرة من الكبائر الا وهى جريمة الزنـا، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: إن فتى شاباً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي في الزنا.


فأقبل القوم عليه يزجرونه وقالوا: مَهْ مَهْ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ادنُهْ"، فدنا منه قريباً فجلس. قال صلى الله عليه وسلم: "أتحبه لأمك؟" قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال صلى الله عليه وسلم: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم"، قال: "أفتحبه لابنتك؟" قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك.


قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا الناس يحبونه لبناتهم" قال: "أفتحبه لأختك؟" قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: "ولا الناس يحبونه لأخواتهم" قال: "أفتحبه لعمتك؟" قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: "ولا الناس يحبونه لعماتهم" قال: "أفتحبه لخالتك؟" قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: "ولا الناس يحبونه لخالاتهم". قال: فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده عليه وقال: "اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه". فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء.

 

دعونا نغوص في بعض معاني هذا الحديث، الأمر الأول والأهم أن نقبل الآخـر كما هو سواءً ابني أو أخي أو صديقـي، فإن صاحب المعصية يصنف أنه مريض وعلى الطبيب الحاذق يقع الواجب الأكبر في التعامل مع هذا المريض فلا يشتم الطبيب مريضاً جاء يشكو إليه ألماً في رأسه مثلاً وإلا لم يكن هذا طبيباً، والأمر الآخر وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الشاب (ادن مني)، وهذا ما يحتاجه المريض خاصة عندما يسيطر عليه مرضه وطبعه للقيام بمعصية ما فإنه أحوج ما يكون أن نكون نحن قريبين منه لنشعره بالأمان، ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم بربط هذه الجريمة النكراء بأحب الأسماء إليه ألا وهى (الأم والأخت والعمة والخالة) مما جعله يستقبح هذه الصورة الجميلة التي كان يحملها في مخيلته، ثم واصل المربي صلى الله عليه وسلم أن وضع يده على صدره وهذه وصية أوصـي بها الآباء والأمهـات أن اقتربوا من أبناءكم أثناء الحوار بل ضعوا أيديكم على أكتافهم وعلى صدورهم بل وتحديداً خلف رقبتهم لما في ذلك من راحة واطمئنان لهـم حيث إن العلم الحديث اليوم يخبرنا بذلك بأن وضع اليد بين الكتفين وتحديداً أسفل الرأس يرسل رسائل الراحة والاطمئنان إلى المحـاور.