حوار حول الوسطية مع د. جاسم سلطان

هذا الحوار محاولة كشف جديد داخل مصطلح قديم، فالوسطية بحسب المفكر القطري جاسم سلطان هي خيار إنساني تتحراه الفطرة في سيرها نحو المَثالة والإسلام هو دين الفطرة، وكل عطاءاته مرهونة بأشواق الفطرة السليمة وقيم الإسلام في حقيقتها هي قيم الإنسان حيثما كان، وهكذا يقدم تحريراً جديداً للمصطلح يضعه على أرضية التدوير الفلسفي الإنساني مشدودا نحو العدل، والقيمة المركزية الإسلامية.

وضيف هذا الحوار الدكتور جاسم سلطان مفكر وباحث إسلامي وأكاديمي قطري، عمل مستشاراً للتخطيط الإستراتيجي لسلسلة من المؤسسات الحكومية، وله العديد من المؤلفات في فقه النهضة، وهي منشورة على موقعه.



السؤال 1: الوسطية مفهوم ومصطلح يتعرض لعمليات اختطاف واستحواذ واتهامات كثيرة في وقتنا الحاضر.. في البداية ما هو مفهوم ودلالة الوسطية عندكم في ظل المحاولات السابقة؟

قيل الكثير عن الوسطية، قيل هي الاعتدال والقصد والتيسير، وقيل هي الحق والعدل والتوازن والاستقامة، وعرفت بأضدادها الإفراط والتفريط، وقيل هي الخيرية والبينية ومراعاة قواعد التيسير وقواعد الموازنات بين الثابت والمتغير والقطعي والظني والأصل والفرع، وهي عند دعاتها في هذا العصر لا تعكس فهم الأقدمين للآية، فابن جرير يفسرها بمعنى أخروي، أيّ أمر يتم يوم القيامة حيث تشهد أمة محمد أن الرسل قد بلغوا رسالات الله، وابن كثير يشرحها بأنّ الوسطية هنا تأتي بمعنى أحسن وأفضل الأمم، والشهادة تأتي بمعنى أن تعترف لكم الأمم يوم القيامة بالأفضلية.

والوسطية عندي إذا تكلمنا عنها كمنهج هي الحكمة أو وضع الشيء في موضعه، وتتم بمراعاة السنن الثلاث (سنن الهداية وسنن التغيير، وسنن التدبير)، وهي بهذا المعنى حسن التدبّر في فقه تنزيل النص في كل زمان ومكان.

السؤال 2: محاولات الاختطاف والتوظيف التي تتعرض لها الوسطية تحتاج إلى تفسير سيسيولوجي لمحاولات الاستحواذ؟

أمّا السؤال عن التفسير الاجتماعي للصراع مع فكرة الوسطية فهي تعبير عن صراع بين اتجاهين حاكمين كلاهما يحترم الدين وكل منهما ينظر لتنزيله في واقع الناس من زاوية، ففريق يرى أن اجتهادات الأولين وسعت كل شيء ولا حاجة إلّا لاستدعائها في الواقع وبالتالي ستحل مشاكل الأمة، وأن أي سير خلاف ذلك هو تمييع للدين واستسلام للواقع الغربي.. وفريق يرى أنّ هذا العصر الجديد يستوجب اجتهاداً جديداً، وأنّ استدعاء اجتهادات الماضي لحل مشاكل الحاضر والمستقبل هو خلل وسوء استخدام في الدين، وكِلا الفريقين يغمز الآخر، ففريق يصف الآخر بالجمود وفريق يصف الآخر بالتمييع والتفريط والتلفيق.

إذاً الخلاف في جوهره ليس موقفاً من الدين، ولكنّه موقف من الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي المعاصر المحلي والإقليمي والدولي، وموقف من منتجات الحضارة الإنسانية، هل هي داخله في الحسبان الفقهي أم هي ملغاة؟ هو خلاف هل الدين معني بسنن الهداية فقط، أم هو مزيج من سنن الهداية وسنن التسخير وسنن التدبير؟ 

السؤال 3: في الرؤية القرآنية ربط بين الوسطية والشهادة على الناس وجعل الوسطية مسؤولية ملقاة على كاهل الأمة وليست صفة بلا استحقاقات.. فكيف ترون العلاقة بين الوسطية والشهادة على الناس؟

موضوع الشهادة على الناس موضوع كبير، وهو مرتبط بفكرة الوسطية في الآية (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)، فلو تجاوزنا تفسيرات الأولين، وحاولنا وضع إطلالة جديدة عليها فهل الأمة هنا هي هذه الجموع؟ فالنص عام يراد به العموم، أم الأمة هنا عام يراد به خاص؟ بمعنى أنّ المقصود هم جزء من الأمة من أهل الرأي والعلم.

فلو قلنا بالرأي الأول فمعناه يكون أن تمثل حال الأمة في السياسة والاقتصاد والاجتماع والعلم والتدين شاهدا على إمكانية إعمار الحياة بالدين، وبالتالي فالشهادة هنا تعني إقامة النموذج وتقديم الدليل الحتمي على فعالية الدين في إقامة الدارين.

ولو قلنا بالرأي الثاني فمعناه أن يكون لدى الأمة ثلة من العلماء الذين في قولهم حجة وظهور على حجج باقي الأمم وعلى صلاحية الدين لإعمار الدارين.

وفي الحالتين لا نمتلك اليوم أيّا منهما.. وأعتقد أنّ المعنى المختزن أن فيما تمتلكونه أيها المسلمون من كتاب الهداية (القرآن) والسنة الشارحة ما يؤهلكم للقيام بهذا الدور فتقدموا له، فهو قول مشروط بتحقق أسبابه، فهي تكون شاهدة حين تستوفي إقامة الحياة القوية بالدين القوي.

السؤال 4: هل ترون أنّ الوسطية هي موقف مبدئي في الرؤية الإسلامية أم مشروع لابدّ أن تحققه الأمة لتطل به على ذاتها وعلى الإنسانية جمعاء؟

الوسطية موقف مبدئي إذا قلنا إنها تعني العدل، وهي مشروع عملي عند تحولها لإجراءات على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، فالأعمال هي أفكار تمت ترجمتها لخطط ووقائع. 

السؤال 5: هل ترون في تقاطع الوسطية مع بعض مفردات المشروعات الغربية في المنطقة وخاصة المشروع الأمريكي مدعاة للتخلّي عن بعض مقولاتها ومواقفها؟

الإسلام ليس قطيعة مع المستقرات البشرية، فحين يطالب الغربي بإغاثة الملهوفين لا نقول يجب أن تتوقف لأن قائله كافر، ولو دعا الكافر للسلم وفق قواعد العدل يجب ألّا نمتنع عن السلم، ويكفي في هذا حديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن حلف الفضول في نصرة المظلومين (لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت)، فالإسلام ليس موقفاً اجتماعياً عدمياً، بل نظر مستبصر.

السؤال 6: هل الوسطية اتجاه إنساني ونزوع بشري نحو الاعتدال صاغه الإسلام في رؤيته باعتبار أنّ الرؤية الإسلامية في جوهرها رؤية إنسانية؟

حين نقول إنّ الإسلام دين الفطرة فلأن النفس الإنسانية، كل النفس الإنسانية، هي نفحة من الرحمن، وحين تفيق فهي تطالب بالكمالات.. فالصدق والأمانة ليسا شيئين يخصان المسلم، بل كل الناس، والإسلام صاغ هذه القيم وصبغها بصبغة الله وربطها باليوم الآخر والجزاء، فأعطاها بعداً جديداً، والعدل الذي هو مقتضى الوسطية في تعريفها المعاصر هو مطلب إنساني قبل أن يكون مطلباً إسلامياً، ولكن تكيفه ودرجته وتوزيعه هو ما يميز صبغة الله عن بقية الاختيارات.

السؤال 7: هل للوسطية ملامح وسمات ومعايير من الممكن رصدها وقياس مدى الانحراف أو الاقتراب منها؟

الوسطية لا يوجد لها تعريف جامع مانع يحدد متى يكون الإنسان وسطياً ومتى ينحرف عن الوسطية.. وهل هي حالة مطلقة يلتزم فيها الإنسان دوماً بإصابتها أم قد يجانبه الصواب أحيانا ويظل في دائرة الوسطية؟ وفي تعريفي أنا، وهو ما أقيس به وليس بالضرورة أنه الصواب، أنّ المعيار الأساسي مراعاة النص وعدم إهماله واعتبار الزمان والمكان والظروف والعوائد والمآلات عند الاقتراب من الواقع، تلك هي خصيصة التوسط والعدل وهي ليست وسطاً حسابياً، ولكنّه ترجيح عقلي يأخذ كل الاعتبارات في القول والعمل، إنّه أسلوب اتخاذ قرار وإستراتيجية وإجراء للوصول للأصوب والأقوم.

أجرى الحوار: ياسر الغرباوى




مقالات مرتبطة