حكاية زهرة للروائية اللبنانية حنان الشيخ‮:أزمة المرأة العربية بين التشرد والفقر

كلما حاول الإنسان العربي محو علامات الحزن، وشفرات الكآبة، من سجل تاريخه المديد: القديم أو الحديث، تبقى الدمن على أطلال الورق الأصفر، وبين ثنايا المتخيل، وفي جوف الذاكرة، في عالمي الصحو والمنام، فكيف بك وأنت تعيش ضمن ذاكرة عربية أصابها الوهن والمرض من شدة الأزمات ؟! فمنذ أن تلبسنا القومية العربية قبل إرضاعنا حليب أمهاتنا، ومنذ أن بدأنا نعتز بتراثنا القومي والديني، وموروثنا الحضاري، وفلكلورنا الشعبي، ومنذ تلك الفترات التي مرت بها الأمة العربية ونحن نعاني الأمرين، نعاني أزمة الذات، وأزمة الآخر، أزمة الذات في علاقاتها مع نفسها، وأزمة الآخر مع الذات أيضاً.



منذ تلك الفترة والعالم الآخر، عالم القوة والسيطرة والبطش ينظر لنا وكأننا في عالم مهمش حضارياً، حيث النظرة الاستعلائية والدونية والتقزز في العديد من المرات، والتقرب منا في مرات أقل حين تتفق المصالح، لذلك بقينا محصورين بين نظرة الآخر إلى إنسانيتنا وحياتنا وتركيبتنا الذهنية، ومخيالنا الذي سطرنا به ملاحم شعرنا، وبين عدم استطاعتنا نقد ذواتنا، والخروج من أزماتنا .

لقد عاش الإنسان العربي في الشرق والغرب أزمات متعددة ومتنوعة، تختلف في حجمها وقوتها وطرائق التغلب عليها ، ولكن كلما حاولنا التفكير في حل أزمة ما، تبرز لنا أزمة جديدة ، وكأننا خلقنا لأجل الأزمات . فالعربي مأزوم في بنيته العقلية التي أوجدت الحروب في العصور التي سبقت الإسلام ، أليس حرب داحس والغبراء، وحرب البسوس هي أزمة في العقلية المتحكمة في مصائر الشعوب آنذاك ؟ أليس العلاقات التي بنتها الغساسنة والمناذرة مع الفرس والروم هي أزمة في التكوين العربي تجاه تحديد المصير والدفاع عن المصالح الخاصة به ؟ ! أليست السقيفة التي غيّرت الكثير من أحداث التاريخ خلقت أزمة حقيقية في البناء العقلي والعاطفي للعرب جميعاً ؟ أليس سقوط بغداد على يد التتار هي إحدى الفواصل التي بنت أزمات العرب والمسلمين في العصر العباسي ؟ هكذا كانت الأزمات السياسية والعسكرية قد أثرت بشكل مباشر على الإنسان العربي حتى اغتصاب فلسطين وحرب لبنان الأهلية ، وما نحن فيه الآن بعد حرب الخليج الأولى والثانية ، أليس كل عربي يقف يتأمل العجز العربي تجاه القوات المتمركزة في الخليج لضرب العراق ؟

إننا دائماً نعترف بأزمتنا، ونعلن عبر الوسائل المرئية والمسموعة والمقروءة عن أزمتنا، عن أزمة الهوية العربية، أزمة التفكير في الخروج من الزجاجة الأمريكية، أزمة البحث عن الحلول، عن العلاج والوقاية ، ولكن كل هذا لا نقدر عليه البتة لأننا  منغمسون في أزمة التنمية البشرية في عالمنا العربي، منغمسون في أزمة نسج العلاقات المتبادلة بيننا، منغمسون في أزمة الانقاض على بعضنا بعضا، منغمسون في عجزنا مَنْ فقد شهية تحرير قلب الأمة العربية فلسطين .

بهذه الأزمات المتعددة المتنوعة التي جاءت في الصورة المباشرة أو غير المباشرة حاولت الروائية حنان الشيخ أن تبرزها في صورة أزمة الفتاة اللبنانية التي عانت الفقر والعوز والحب والتشرد والهجرة والحرب الأهلية، وفي صورة الأحزاب في لبنان التي كانت تبحث عن هوية خاصة بها لترى ذاتها من دون ذوات الآخرين، وفي صورة الهجرة التي قام بهـا اللبنانيون بعد الفشل أو التعب أو الجوع أو الفقر إلى العديد من الدول، وكيفية العلاقة في بلد المهجر بين الاغتراب الذاتي والاغتـراب المكاني، بين الاغتراب المعنوي والاغتراب المادي .

وهذه المحاولة كانت في رواية '' حكاية زهرة '' الصادرة عن دار الآداب في طبعتها الثانية، من خلال مكانين متباعدين ، وأزمنة متداخلة متقاربة، بين مكان الولادة والنشأة والتربية والدراسة، وهو لبنان، وبين مكان الغربة والهجرة وتأمل الآخر ، وهو إفريقيا، حيث الحكاية تبدأ بكشف العلاقات الأسرية في بيت أم زهرة '' فاطمة'' ، تلك المرأة التي كانت تأخذ ابنتها زهرة كغطاء لها في أثناء لقائها الحبيب التي تعيش معه أجمل لحظات الحب وملذات الجسد '' 000 شاهدتها مرة تحت شجرة جـوز خضراء، رأسـه في حضنها تغني لـه ( أيها النائم ) 000 ص 12 '' ، كما كشفت في الوقت نفسه تلك العلاقة غير الواضحة عند زهرة تجاه خالها المغترب ؛ إذ ترى أن خالها يتعامل معها وكأنها غريبة عنه نسباً على الرغم من أنه يراها ابنة أخته ، غير أن الغربة والدخول في مزالق العلاقات غير الطبيعية في إفريقيا قد يرى الملذات في القربى أيضاً ، وهذا ليس بغريب ، فالأم لم تكن وفية لزوجها، وزهرة لم تكن وفية لجسدها وعواطفها، لذلك بينت الكاتبة أزمة الإنسان اللبناني في هذه الحالة المؤسفة عند زهرة التي عانت من أمها وهي تمارس العلاقة مع غير أبيها، وعانت من أبيها في ظل ظروفه العملية وطبيعته المنزلية، وعانت من إفساد حياتها حين مارست الجنس مع شخص لا تكن لـه أدنى عاطفة أو تقدير. فهي باتت فريسة الرجل / الذئب الذي فض بكارتها مرتين وحملت  مرتين ، وأجهضت مرتين ، ولكن لم تستطع علاج البكارة إلا مرة واحدة.

وهنا كانت الكاتبة ترمي من ذلك إبراز أزمة الإنسان العربي الحالم بالزواج الذي يكشف لـه عذرية زوجته ، فهذه زهرة بعد ما أرادت التخلص من معاملة خالها لها غير الراضية عنها فكرت في الزواج من ماجد الذي يكتشف فض بكارتها قبل الزواج من دون أن يعرف الشخص الذي أقدم على هذا الفض.

ومن خلال هذه الأزمات تبرز الروائية أهمية الإنسان في الغربة وكيفية بناء العلاقات الإنسانية مع الآخر، أو العلاقات التي تساهم في بقائه في بلد المهجر، أو العلاقات التي تسد جزءاً من شغفه الجنسي وتعطشه الشهواني الموقت ، مما يقع الإنسان من دون أن يعي في بعض الأمراض الجنسية أو النفسية أو العصبية.

 

وإذا كانت الأزمات تتكالب على الإنسان العربي من خلال العلاقات المتعددة في طبيعة الحياة ، فالكاتبة وقفت في القسم الثاني على الحرب الأهلية اللبنانية, لتكشف عن سوء استخدام السلاح ، ودور الأحزاب وتعددها ، ورغبة الناس في الهروب أو الهجرة أو البقاء في ظل الهدوء والسكينة ، هذه الحرب التي صوّرتها الكاتبة، وصوّرتها المحطات المتلفزة والصحف المقروءة وكأنها أفعى تأكل وتلتهم ما تراه أمامها ، فهي الحرب والدمار والموت والحزن وقتل البسمة التي كانت ترتسم على شفاه الأطفال. وهنا تأتي الأزمة واضحة في قراءة واقع الحرب وكيفية التخلّص منها ، إذ تصور الكاتبة هذه الأزمة على لسان زهرة التي ما عادت تطيق الحياة في ظل هذه الأوضاع '' كنا نفكر ونقول ، بل الجميع يفكر ويقول عندما يتسلم كرامي رئاسة الوزراء سوف تنتهي الحرب ، عندما يتراجع كمال جنبلاط عن طلبه تأديب الكتائب ستنتهي الحرب ، عندما يتنازل رئيس الجمهورية عن منصبه سوف تنتهي الحرب ص 156 '' .

حاولت الروائية حنان الشيخ أن تجعل الفتاة اللبنانية أنموذجاً لأزمة الفتاة العربية التي تعاني جبروت العادات والتقاليد والنظرة الذئبية من قبل الرجل ، هذا الرجل الذي لا يعرف من المرأة إلا مدى ما تقدمه من لذة جنسية وجسدية لـه، أليس هناك حبيب لأم زهرة ، وهناك مالك الذي مارس مع زهرة من دون أن يتزوجها، وهناك ماجد الذي يرى عفاف المرأة  وكرامتها في بكارتها ، وكأن هذا الغشاء الرقيق هو عنوان المرأة العذراء ، أليست زهرة التي أجهضت أصلحت هذا الغشاء؛ بمعنى أن الغشاء ليس دليلاً على العفة والشرف، ألم يقل الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري '' أترى العفاف مقاس أقمشة 00 ظلمت إذن عفافا 00 هو في الضمائر 00 لا يخط ولا يقاس ولا يكافا 00 من لم يخف حكم الضمير 00 فمن سواه لن يخافا '' .

ولكن نقول أيضاً إن زهرة التي أخذت صورة الفتاة العربية، هي أيضاً لبنان، فالاثنتان اغتصبتا من قبل الآخر / المسيطر، الذي يملك الكثير لأجل الحصول، زهرة التي هجرت لبنان، هي لبنان التي لم تعد تعرف أهلها في الحرب ، ولم يعد أهلها يعرفها لما يقومون به من قتل وقنص ودمار ، فالكل بات غريباً عن الآخر، زهرة التي تشظت بين لبنان بلد المولد والمنشأ ، وإفريقيا بلد الغربة والهجرة والزواج، والتي تشظت بين الواقع المرير وما تحلم به كل بنت ، بين الجمال التي تراه لبنان في فتياتها وبين البثور التي نثرت على وجه زهرة، وتقول '' وها أنا أصبحت كلبوه جرحت جروحاً طفيفة في كل أنحاء جسمها. ثم لبوه جرحت جروحاً عميقة في قلبها ص 154 '' ، وكذلك لبنان هو أيضاً كان مجروحاً من أهله وناسه، مجروحاً في بنيته التحتية، في تكوينه النفسي والاجتماعي.

 

المصدر: بوابة المرأة