حقيقة تحتاج إلى المواجهة

 

(1) حكى لي أحد الشباب حديثي الزواج عن قصة زواجه فقال لي: "تزوجت حديثاً فتاة جميلة وكنت سعيداً بهذا الزواج وبهذه الزوجة، ولم يكن يؤرقني أو يلفت انتباهي تجاهها إلا أنّها هادئة هدوءاً عليه مسحة حزن، وكنت كلما أسألها عن سر هذه المسحة، ترد علي بأن الأمر لا يعدو إلا اختلافاً في الشخصية بيني وبينها، وأن طبيعتها تميل إلى الهدوء، وأنه بالتعارف الوثيق في المستقبل وبتفهم كل منّا طبيعة الآخر، لن تكون هناك مشكلة، وبدا لي هذا الكلام مقنعاً، خصوصاً أنّه لم يكن بيني وبينها سابق معرفة، وأنّ التعارف تَمَّ بالأسلوب التقليدي عن طريق الساعين بين الناس بالخير ومضى كل شيء- بإذن الله- في مساره الطبيعي، بِدْءاً من التعارف مروراً بالخطبة وانتهاء بعقد القران ثم الزواج، ويعلم الله أنّني كنت في غاية الإقبال عليها، وأحاول قدر استطاعتي أن أبذل لها ولحياتنا الجديدة كل عطاء نفسي ممكن ولا أدخر وسعاً في محاولة إسعادها، فهي والحق يُقال تستحق كل ذلك، ولم يكن يثير تحفظي تجاهها إلا شعوري بأنّها لا تقابل عطائي النفسي بعطاء مثله، فقد كنت أتقدم إليها وتتأخر هي عني، كنت أهتم في الوقت الذي كانت هي لا تكترث، كنت أمازح في الوقت الذي كانت تظهر عليها علامات الضيق... الخلاصة، كنت حاضراً في الوقت الذي كانت فيه هي غائبة، لا أقصد الغياب الجسدي، إنما أقصد الغياب النفسي واستوقفتها المرة تلو الأخرى، حتى أفهم منها سر هذا الموقف وكان الجواب في كل مرة: لا شيء، حتى كانت المرة الأخيرة التي صارحتني فيها، بأنّها كانت تحب إنساناً قبلي، وأنّها كانت مرتبطة به نفسياً، وأنّها ضحية قصة حب عنيفة لم تكتمل فصولها بالزواج، وأن هذه القصة التي مرت بها استهلكتها نفسياً واعتصرت كل عطاء نفسي لديها حتى أصبحت ناضبة غير قادرة على البذل النفسي، وعلى مبادلة حبي لها بحب يكافئه، هذا مع تأكيدها لي أنّه لم يحدث بينهما أي علاقة محرّمة، وهو الأمر الذي لا أشك فيه! السؤال الآن: ما العمل؟ وما ذنبي أنا؟"



 

إنّ هذه القصة المؤلمة التي رواها صاحبها هي للأسف إحدى تداعيات ما يسمى اليوم بـ "المصاحبة" بين الشباب والشابات! إنّ هذه الأزمة النفسية المحتقنة في هذا البيت الوليد لا تقل حدة عن غيرها من الأزمات الأخرى التي قد يسببها الحرام الذي قد ينشأ بين طرفين لا يربط بينهما كتاب الله وعهده، إنها قصة يتفرق فيها اللوم والعتاب على أطراف عديدة على الإعلام الذي لم يراع في المسلمين إلاً ولا ذمة، على الإعلام الذي جعل من مصاحبة الولد للفتاة على الشكل الذي نراه أمراً حتمياً لا تتصور الحياة إلا به، على الإعلام الذي تتبع من لا دين له ولا خلق وسار وراءه "حتى لما دخل جحر الضب دخل وراءه"، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

العتاب أيضاً على الأم التي سمحت لابنها بأن يصاحب، وعلى الأم التي أباحت لابنتها أن تصاحب ولم تنصحا لله، وكذلك على الأبوين، هذا الذي هشّ لابنه لمّا علم بمصاحبته فتاة لا تربطه بها أي علاقة شرعية، وذاك الذي فرّط في حق ابنته، ولم يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر حفاظاً عليها وعلى استقرارها النفسي، وعلى الطرفين- الشاب والفتاة- اللذين اندفعا في هذه العلاقة دون أن يراعيا حرمة الدين أو الشرع. إنّ هذه الأزمة النفسية التي وردت في القصة الواقعية هي مفتاحي لتناول موضوع " المصاحبة" بشكل مختلف! إنّني أرفض هذه العلاقة، وأقول إنّها، ليس لكونها تؤدي فقط إلى مقدمات الزنا، أو حتى إلى الزنا في نهاية المطاف، بل إنّني أقول إنّها حرام للسببين سالفي الذكر، ولأسباب أخرى جديرة بالإشارة والتعمق فيها!

وتعالوا نتعامل مع الموضوع بهدوء عن طريق مناقشة جملة نقاط أولها: أنّني لا أنفي، ولا أسطّح، ولا أحجر على الميل الفطري الذي استودعه الله في كل منّا تجاه الطرف الآخر، وأعلم أنّ هذا الميل غلاب وأنّه لا سبيل بأي من الأساليب لمصادرته أو إرجائه، أو استبداله بأي عاطفة أخرى.. ولا أميل إلى تمرير أنّ حب الأب أو الأم أو حرق الوقت مع الأصدقاء (النصائح المطروحة عادة) هو البديل الناجح لهذه العاطفة التي يشعر بها الشاب تجاه الشابة، أو الشابة تجاه الشاب.


ثاني هذه النقاط: إن قضية المصاحبة هذه أو موضوع العلاقة بين الولد والبنت أو الشاب والشابة، قضية مجتمع، وأنّ كل أطراف المجتمع معنيون به ومدعوون للنقاش فيه وحوله، الأمر الذي يعني أنّ كل طرف عليه تبعة ما تجاهه، وأنّه لا يجوز لأي طرف من الأطراف أن يتملص من هذه التبعة، ويرمي بها على الآخر.

ثالث هذه النقاط أنّ القضية كما أنّها قضية شرعية فهي أيضاً قضية اجتماعية، نفسية، الأمر الذي سيدعونا لإسهاب الكلام في هذين المجالين، حتى نحيط بالموضوع من جوانبه المتعددة، غير غافلين وجهة نظر قد تكون مؤثرة وشافية، بإذن الله.

(2) نتحدث هنا عن قضية مصاحبة الولد والبنت، والبنت والولد، وسأناقش الأسباب التي يدفع كل طرف من الأطراف ليبرر موقفه المتعلّق بها.

 

السبب الأول والرئيسي الذي يدفع به الجميع هو: التعارف قبل الزواج. اسمحوا لي من باب إدراك الإنصاف أن أعرض وجهة نظر المتعلّقين بهذا السبب لاعتقادي الشخصي أنّ وجهة النظر هذه تحتوي على جانب مصيب، وعلى جانب آخر يحتاج إلى المراجعة والتصويب حيث تقول: إن الزواج قبل أن يكون التقاء جسدياً بين طرفين، فهو التقاء نفسي بين روحين، وهذا الالتقاء النفسي هو المحور الرئيسي الذي يدور عليه نجاح الزواج من عدمه، والتعارف الذي يقوم به طرفان شاب وشابة قبل الزواج هو معرفة مدى مناسبة وملائمة كل طرف للآخر نفسياً.

 

قبل أن يرتبط به ثم يفاجأ بأنّه لا يوجد ثمة توافق، بل ربما وفي كثير من الأحوال يفاجأ بما هو أبعد من ذلك يفاجأ بالتنافر، وليس بالضرورة أن يكون أحدهما جيداً والآخر سيئاً، بل ربما لأن نفسيتهما مختلفتان، وكذلك طباعهما، وعقولهما، وطموحاتهما إلى آخر هذه العناصر المهمة، والزوجان إزاء هذا الاختلاف في كل شيء لن يكونا إلا أمام أحد أمرين كلاهما أمرّ من الآخر، فإما أن يبقيا على هذا الزواج شكلاً ويضحيا به مضموناً، وإما أن يضحيا بهذا الزواج شكلاً ومضموناً بالطلاق.
فالأول ليس منه إلا الشجار والانزواء والكبت وفقدان السعادة، والتحطيم النفسي للطرفين والأولاد.
والثاني فيه، التحطيم النفسي للطرفين وضياع الأولاد، وتحطيم نفسيتهم، وفقدان السكينة، والعزلة الاجتماعية، والإحساس بالوحدة، وغير ذلك مما يطول سرده، وينتشر أمره! وتعليقي على وجهة النظر هذه هو الآتي:

 

أولاً: إنّني أتفق تماماً معها من حيث المبدأ ومن حيث المسوغات التي ساقها والواقع الذي بنت عليه حكمها، فكل ما قالته أعتقد أنّه صواب، ولا مجال للجدال فيه أو المماطلة وذلك لمن ألزم نفسه الصدق وكانت له خبرة بالمجتمع!


وثانياً: فإنّني أختلف تماماً مع مسوغي مصاحبة البنت للولد والولد للبنت قبل الزواج من حيث التطبيق، وهذه هي مبرراتي العقلية والجنائية لذلك، أولاً: متى تبدأ مثل هذه النزعة عند الولد والبنت؟ عادة تبدأ عند البلوغ يعني في سن الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة تقريباً؟


وماذا تقول الإحصاءات عن متوسط سن الزواج في أوطاننا العربية؟ تقول إنّه أصبح تقريباً ثمانية أو تسعة وعشرين عاماً؟ ما معنى ذلك؟ معناه أن ما بين النزعة إلى المصاحبة وتحقيق هدفها وهو الزواج كما يقول المؤيدون لها، هناك تقريباً خمسة عشر عاماً!


فهل سمعنا في الحياة عن شيء في العلاقات الإنسانية يتطلب خمسة عشر عاماً حتى تكتمل وجهة النظر فيه ويتأكد طرفاه أنّهما موافقان لبعضهما البعض، وأنه لا بأس من ارتباطهما!؟ طبعاً لا! وهل كل زواج سعيد تَمَّ بين اثنين، لم يتم إلا بعد تعارفهما كل هذه المدة؟ بل هل كل زواج تم بعد هذه المدة أو حتى ربعها كان زواجاً ناجحاً؟ لا! بل هل كل زواج لم يتم بهذا الأسلوب وتلك الرؤية كان فاشلاً؟ طبعاً! لا إنّ الإحصاءات الاجتماعية المتعلقة بهذا الموضوع تقول إنّ أغلبية الزيجات تمت عن طريق آخر، غير طريق المصاحبة حتى عند من يؤيدون موضوع المصاحبة بين الولد والفتاة قبل الزواج!

سؤال أطرحه وأرجو أن تجيب الأطراف المعنية عنه بصدق: كم شاباً تزوج بفتاة صاحبها قبل الزوج (ولا أقصد بصاحبها أي معنى جنسي) وكم شابة تزوجت بشاب صاحبته قبل الزواج؟ أعتقد أن العدد قليل جداَ، إنّ الواقع يقول: إن فترة مصاحبة ما قبل الزواج التي هي في المتوسط خمسة عشر عاماً فترة تبديل مستمرة متقلبة يتصاحب فيها اثنان اليوم ويفترقان غداً، ويلتقي كل طرف بطرف آخر حينا ًمن الدهر، ثم يفترقان، وهكذا، حتى تكون محصلة هذه الفترة عدة علاقات بعضها يستغرق سنيناً، وبعضها يستغرق أشهراً، وبعضها أسابيع، وبعضها أياماً، وفي النهاية لا يتزوج الشاب أو الشابة بأية واحدة أو واحد بمن صاحباهما في هذه الفترة! أليس هذا هو الواقع؟ هل أنا مُتَجنٍ أو متحامل؟

أعتقد، والله تعالى أعلم، وهو المُبَرئ من كل عيب، لا! أرأيتم الآن أن تسويغ مصاحبة البنت بالولد قبل الزواج تحت شعار أو مسمى التعارف للزواج موضوع يحتاج إلى مراجعة ونقاش؟! قد يسألني سائل الآن: إذن لماذا قلت في ثنايا المقال إنّك تتفق تماماً مع مبدأ التعارف قبل الزواج؟ الإجابة تكمن في ثنايا الصيغة، لقد قلت إنّني مع مبدأ التعارف – وأكرر التعارف – ولم أقل مع المصاحبة بشكلها المعروف اليوم! وهناك فرق كبير جداً بين تعارف تُراعى فيه حدود الله، وتُحفظ للناس فيه سيرتهم وحرمة أعراضهم، وبين مصاحبة نتجرأ فيها على حدود الله ولا تنتهي مشكلاتها وفي بعض الأحيان مآسيها! إنّني في مقالي هذا ناقشت سبب المصاحبة الأكثر شيوعاً على الألسنة، والأوجه من حيث المنطق والعقل، ولم أناقش الأسباب الأخرى رغم واقعيتها ودفعها إلى المصاحبة مثل: التسلية، وقتل الفراغ وإشباع الرغبة الجسدية أو المحاكاة، أو المباهاة، وغير ذلك من الأسباب لأنّها أصلاً لا تصمد للنقاش ولا تقوم على حجة.

 

عمرو خالد لمجلة المرأة بتاريخ 10 أغسطس 2004